مهما انطوت عليه خطوة توقيف حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة من مراوغة، إلا أن منظومة الفساد والارتهان الحاكمة في لبنان شعرت بأنه ما عاد بوسعها إبقاء رجلها وميسر فسادها خارج السجن! الخطوة على رمزيتها تنطوي على نصر علينا أن نحتفي به ونبني عليه.
توقيف سلامة ما كان ممكناً لولا ما كشفته الصحافة المستقلة، وليس القضاء من ارتكابات. نعم علينا أن نعترف لهذه الصحافة بجهودها. فمنذ اليوم الأول للموعد الرسمي للانهيار، في العام 2019، تولت الصحافة مهمة البحث عن المتسبّب بالجريمة، وكانت الإجابة منذ اليوم الأول موثقة: منظومة الفساد الحاكمة أوكلت لرجلها في المصرف المركزي مهمة السطو على ودائع أكثر من مليون لبناني، وتولت المصارف تسهيل المهمة على أن تنال قسطاً وافراً من الغنيمة.
القصة بدأت من تقرير كريستال، المجهول وغير الموثق، إلا أنه يعطي مؤشرات عن وجهة التحويلات، ثم جاء دور المصارف وعلى رأسها بنك عودة، والشركات التي أنشأها سلامة ونجله بالشراكة مع هذا المصرف في عدد من الدول الغربية.
وفي غمرة البحث والتقصي، ظهرت معنا “فوري إنفستمنت”، الشركة التي التقط القضاء الأوروبي إشارة التحويلات عبرها من تحقيقاتنا، لا سيما العمولات التي بلغت نحو 330 مليون دولار، هي حصيلة عمولات تقاضاها مدير الشركة رجا سلامة، شقيق الحاكم.
يجب التذكير بأنه حتى هذا الوقت، لم يكن للقضاء اللبناني أي دور في عملية التقصي، ومحاولة القاضي جان طنوس اليتيمة قوبلت بتصدي الادعاء العام له، وإبعاده عن الملف بعدما اكتشف أن “فوري”، التي كشفنا عنها، يمكن أن تكون طرف خيط سيأخذنا إلى غيرها من الشركات.
أما شركة “أوبتيموم”، والتي ظهرت لاحقاً وضاعت في أروقتها ثمانية مليارات دولار، فالفضل في اكتشافها يعود أيضاً الى شركة التدقيق الدولية “كرول”، التي أوكلت إليها الإدارة الجديدة لـ”أوبتيموم” مهمة التدقيق في ملفاتها، حتى تتمكّن من استئناف عملها. فكان تقرير “كرول” فضيحة مدوّية تضاف إلى فضيحة “فوري”.
قبل ذلك، كان القضاء الأوروبي باشر تحقيقاته غير مدفوع بمصالحنا نحن ضحايا هذه المنهبة، إنما لشعوره بأن الفساد اللبناني يعيث خراباً بالنظام المالي الأوروبي، عبر عمليات تبييض للأموال المنهوبة من لبنان في المصارف والعقارات في عدد من الدول الأوروبية.
توقيف سلامة ما كان ممكناً لولا ما كشفته الصحافة المستقلة، وليس القضاء من ارتكابات.
ومرة أخرى، لم يتعاون القضاء في لبنان مع طلبات المساعدة القضائية الأوروبية، فكان على القضاة الأوروبيين أن يستعينوا بما كشفناه في تحقيقاتنا.
قرار ملتبس بمنع سفر رياض سلامة، أعقبه تجميد لحسابات الرجل وعائلته وعقاراتهم في 6 دول أوروبية، وفيما تولى منع السفر إعفاء سلامة من تبعات عدم مثوله أمام المحققين الأوروبيين، صدرت العقوبات الأميركية والبريطانية بحقه. هذا كله وبقي القضاء اللبناني صامتاً، لا بل أنه راح يغطي مخالفة المصارف لقانون النقد والتسليف عبر ممارسة كابيتال كونترول غير قانوني بحق المودعين.
“أوبتيموم” كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، فما عاد ممكناً إبقاء سلامة في منزله الفاخر على شاطئ منطقة الصفرا شمال بيروت. فالفضيحة أقوى من أن تدارى، ورياض سلامة صار في عرف العالم، نموذجاً محمياً للخارجين على القانون.
قد يكون توقيفه مخرجاً وشكلاً من المراوغة التي اعتاد عليها اللبنانيون من منظومة الفساد والسلاح التي تحكمهم، إلا أن هذه الخطوة هي ما اضطرت المنظومة مرغمة للجوء إليها. وفي النتيجة، شعرت المنظومة برجالها وسلاحها وأحزابها بضرورة القيام بالخطوة. فعلت ذلك والدمعة في عيون أركانها.
لن يُحسب للقضاء في لبنان أنه أوقف أحد رموز الفساد، فالخطوة جاءت متأخرة أكثر من خمس سنوات تم خلالها السطو على ما تبقى من ودائع الناس، وتخلّلتها عملية تغطية كبرى على تحويلات إلى الخارج بلغت مليارات من الدولارات.
لقد أُجبر القضاء على توقيف سلامة، ولم يبادر إلى ذلك بحكم دوره كحارس للقانون.
إقرأوا أيضاً: