عشرة أيام مرت وأكثر على هروب الأسد، وسرعان ما ظهرت مشكلات عميقة طالت المكون العلوي في سوريا، حيث تصاعدت حدة التوترات مع انتشار فيديوات تحولت إلى “ترند”، تُظهر إهانات علنية للعلويين، تتراوح بين الشتائم والتعنيف الرمزي وبين استهداف مناطقهم، ما أدى إلى صدمة في الأوساط السورية، خاصة عبر “السوشل ميديا”.
وبرغم البيانات الصادرة عن القيادة العسكرية الحاكمة، التي تُشدد على البُعد الوطني ومحاربة الطائفية، وبرغم الوعود باتخاذ إجراءات عسكرية صارمة ضد أي أزمة طائفية، لكن التوترات استمرت في التصاعد.
ويواجه العلويون تبريرات متكررة من الهيئة، بأن الانتهاكات التي يتعرضون لها هي “حالات فردية وعناصر منفلتة”، لكن هذه التبريرات تبقى غير فعالة لحل مشلكة المخاوف، وقد تعيد إلى الأذهان ممارسات النظام السابقة، التي كرست ثقافة الخوف والنهب والكراهية عبر الحواجز الأمنية، ومن السيارات المسلحة التي تُقل عناصر مجهولة الانتماء.
يُلاحظ اليوم، أنه يُعاد إنتاج هذا النموذج، ضد العلويين بشكل خاص، لكن عبر الإهانة اللفظية فقط، من دون القيام بأي عملية سرقة أو نهب على الهوية؛ باستثناء ممارسات بعض حاملي السلاح المجهولي الهوية أو مدعي الانتماء إلى الهيئة العسكرية.
وبرغم تجاوب الهيئة مع كل تصرف ومحاولة إيقاف التجاوزات، إلا أن هذا المشهد يتكرر بشكل يومي، فيستحضر بُعداً عميقاً من ذاكرتنا، عن الإذلال المؤسسي والأسئلة المهينة التي كان يوجهها حملة السلاح آنذاك إلى الناس العاديين بسبب عقيدتهم ودينهم، ويعكس سياسة الكراهية والوصم المجتمعي.
تكرار حوادث إهانة العلويين كل يوم في اللاذقية وطرطوس، ولو كانت عبارة عن أخطاء متفرقة، أثار غضباً لدى العلويين، واستجابة جيدة حتى اليوم من المجتمع الأهلي وإدارة الهيئة، وذلك لإيقاف هذه التصرفات.
لكن تكرار الأخطاء الفردية؛ حسب زعم الهيئة، يكشف عن هشاشة إدارية ونقص هائل في القدرات لديها، ويُظهر أنها منشغلة بالمناصب السيادية على حساب الضرورات الأمنية التي لا بد منها، مثل إعادة تفعيل الشرطة وأقسام التحقيق الجنائي، أو إنشاء بنية مجتمعية أمنية تُحد من انتشار ثقافة الانفلات والرغبة في الانتقام، وفي هذا الوقت، تتحول المناطق العلوية، بخاصة القرداحة؛ مدينة آل الأسد، إلى مزار للمقاتلين الذين لا يتاونون عن إهانة الأهالي وشتمهم، مما شكل جرحاً كبيراً لدى العلويين الذين يتبادلون الفيديوات وينتشر رعب رمزي هائل بينهم، ولا شك في أن هذا الإهمال سيؤدي إلى فراغ مؤسسي، ويعمق الهشاشة الأمنية ويُعيق تأسيس استقرار حقيقي.
أن تخاف من صور أولادك القتلى
ارتعب العلويون من الزيارات المسلحة ل”أبطال التحرير”، وصعودهم بمواكب كثيرة إلى القرى والمدن الساحلية، مما دفعهم إلى الدخول في مرحلة جديدة من الخوف والتوجس، بدأت بحرق صور أبنائهم الشهداء ونزعها عن واجهات بيوتهم، في محاولة لتجنب أي استهداف أو انتقام محتمل.
فما إن وصلت الهيئة العسكرية إلى الساحل، حتى أقدم العلويون على نزع صور أبنائهم الشهداء من بيوتهم، كابحين بذلك مشاعرهم الجماعية التي جمعت بين الفخر والألم، وأقدم الكثير منهم على حرق الصور أو إخفائها من واجهات منازلهم، في تحول مؤلم يعكس “العار الثقافي” الذي أُضيف إلى مجتمعهم.
هذه الصور، التي كانت سابقاً مصدر فخر واعتزاز، باتت تُذكّرهم بخسارة مزدوجة: خسارة أبنائهم كرمى لوطن استحوذت عليه عائلة الأسد، وخسارة رمزية مرتبطة باضطرارهم للتخلي عما كان يمثل بلاء ومعنى في آنٍ واحد.
قبل تحرير سوريا، عانى العلويون من التكيف القسري مع قيم وطنية، فرضت عليهم تقبّل استشهاد أبنائهم كجزء من تضحية كبرى للوطن. ومع التحرير، وجدوا أنفسهم أمام شكل جديد من التكيف القسري، قائم على الخوف ونكران الفخر بأولادهم الشهداء، خشية الوصم أو الانتقام. هذا الوضع يطرح تساؤلات عميقة حول غياب إجراءات واضحة وفعالة لتحقيق العدالة الانتقالية، وتعريف الضحايا بإنصاف، ضمن إطار يعيد بناء الثقة والكرامة، ويعالج الانقسامات النفسية والمجتمعية التي باتت تهيمن على المشهد.
الخوف من الطرقات
في مقابلات أجريناها مع عائلات من صلنفة، وريف جبلة، وريف اللاذقية، أكد العديد من الأهالي وجود استقرار نسبي، إلا أنهم يعيشون حالة خوف يومي من سيارات الليل المسلحة، التي تجوب الطرق من دون لوحات تعريفية أو شعارات، وتنصب حواجز مفاجئة.
تُستخدم هذه الحواجز أحياناً للإساءة إلى العلويين، سواء بالاعتداء اللفظي، أو عبر تصوير الإهانة باستخدام كاميرات الهواتف المحمولة، مما يحول الموقف إلى مشهد مسرحي مفتعل يهدف إلى إذلالهم.
تحدثت معنا فتاة من صلنفة أن الاعتداءات تختلط بحالات سرقة أحياناً، حيث توقفت عدة سيارات تحوي عناصر مسلحة في شارع في مدينة صلنفة، وبدأت بكيل الشتائم بحق العلويين وحاولت سرقة سيارة، وحينما تم التهديد بالاتصال بالهيئة، أُطلقوا النار على السيارة ولاذوا بالفرار.
ومنذ يومين، أُجبر باص (سرفيس) قادم من ريف اللاذقية باتجاه المدينة، على التوقف عند أحد الحواجز، وتم شتم الفتيات غير المحجبات فيه، ولم يرد السائق سوى: “أمركم يلي بدكم يا بصير”. وقالت لنا الفتاة التي تعرضت للموقف، إنها مع الثورة ولكنها خائفة، ولن تنزل إلى المدينة إلى أن يعم الاستقرار، لئلا يتكرر معها هذا الموقف.
وبرغم تأكيد الهيئة للأهالي أن هذه المجموعات ليست تابعة لها، وبرغم سعيها للتدخل عبر إرسال قوات لضبط الأوضاع، لكن حالة الحذر ما زالت مسيطرة، وما زال الأهالي متخوفين من إرسال أبنائهم، خاصة الفتيات، إلى المدينة، وما زالت الأرياف في مناطق العلويين مثل طرطوس، واللاذقية، وجبلة تشهد أجواء من التوتر والخوف، بسبب حواجز الطرقات، مما يدفع الكثيرون للامتناع من النزول إلى مراكز المدن، ويعزز الشعور بعدم الأمان وتفاقم الهشاشة الأمنية.
البحث عن الجناة
يتم أحياناً اختراق بعض المسلحين لعدد من الأحياء بحثاً عن مطلوب أو ما يُسمى “شبيح”، أو تحدث عمليات تفتيش مرعبة، تنفذها عناصر مسلحة منظمة أحياناً، وغير منظمة أحياناً أخرى، وأكثر ما يُزعج العلويين ويخيفهم، هو عمليات الاعتقال أو التفتيش التي يسودها فراغ بالمعنى القانوني أو التنظيمي، فهي تثير بلبلة وخوفاً خاصة لدى الأسر التي يوجد فيها عسكريون أو موظفون في حزب “البعث” أو في الفروع الأمنية.
آلاف أسر الموظفين العسكريين والأمنيين في طرطوس واللاذقية، تعيش حالة خوف من اعتقال أبنائها بطريقة تعسفية وتعرضهم للضرب أو العنف في الشارع، ويبقى العلويون خارج أي إطار قانوني في مواجهة السلطة الجديدة، بسبب انخراط أبناء الطائفة بالفروع الأمنية وقوى الأمن الداخلي والجيش.
بعض الكتائب المقاتلة حاولت تنفيذ انتقامات ميدانية وسريعة، تمت معالجتها من الهيئة على الفور، وظهرت مقاطع تبرز فيها إهانة العسكري أو من يُسمى “الشبيح” في طائفته، مما أشعل المخاوف بشكل كبير على مسار العدالة الانتقالية.
في قرية البهلولية في ريف اللاذقية، تعرضت فتاة من القرية وأختها لمضايقة من أحد العسكريين، مما أدى إلى انفجار غضب الأهالي، فتجمع مشايخ القرية في الساحة للاحتجاج على الحادثة، مطالبين بمحاسبة الفاعلين وضمان عدم تكرار مثل هذه الانتهاكات.
استجابت الهيئة سريعاً لهذه الاحتجاجات، فأرسلت وفوداً للتفاوض مع الأهالي، وقدمت تعهدات واضحة بتعيين أمنيين متخصصين لضمان حماية الأهالي، ومعاقبة العناصر المتورطة في الحادثة. هذه الخطوة جاءت في محاولة لتهدئة التوتر، وإعادة بناء الثقة بين السكان والسلطة العسكرية.
قضى النظام السوري على العلاقات الاجتماعية التي تربط بين مكونات المجتمع السوري، مما أدى إلى تفكك الروابط المحلية وانعدام الصلة بين الأفراد والجماعات، وأصبح من الصعب للغاية تنظيم هيئات مدنية واجتماعية تعزز التفاعل الاجتماعي والسياسي، وهي ضرورة لإقامة نظم أهلية قادرة على ضبط العلاقات المجتمعية وتوحيد الصفوف، ضمن إطار متطلبات محددة تُسهم في تنظيم السياق الاجتماعي.
هذا الواقع يعكس حالة من التشظي المجتمعي، حيث تفتقر المكونات الاجتماعية إلى إطار موحد يجمعها، مما يزيد من صعوبة بناء علاقات متماسكة أو تحقيق أهداف مشتركة، كما يُظهر الهشاشة المجتمعية الناتجة عن غياب المبادرات التي تعزز الثقة والتواصل بين أفراد المجتمع وبين النظم والهيئة الحاكمة، ويُبرز العجز المؤسسي الكبير لدى الهيئة في دعم بنية مدنية فعالة، يمكنها مواجهة التحديات الراهنة وإعادة بناء النسيج الاجتماعي على أسس أكثر متانة.
فوضى مشايخ العلوية
تتصاعد من كل صوب بيانات صادرة عن مشايخ علويين وتجمعات قروية بالتنسيق مع مشيخات دينية، تُصور وتُبث عبر الإنترنت، إلى جانب لقاءات اجتماعية تجمع العلويين مع قادة من الهيئة. تتكرر هذه المشاهد بشكل دائم، ولكن بطريقة تتسم بـ الفوضى الاتصالية وغياب الهيكل التنظيمي، مما يجعلها تبدو غير مُنظمة أو مواكبة لمتطلبات العمل الإداري أو المواطني.
هذه الفوضى تُظهر الهيئة في صورة ضعيفة، حيث تبدو عاجزة عن ضبط الخطاب العام، أو تقديم رؤية متماسكة تعبّر عن أهدافها، وبالتوازي، تسود اللقاءات والبيانات العشوائية، مما يعكس انفصال الهيئات عن القاعدة المجتمعية، التي يُفترض أن تمثلها وتعمل على توجيهها. هذا الانفصال يزيد من التشويش على المشهد العام، ويُضعف الثقة في قدرة الهيئة على قيادة مرحلة الاستقرار أو معالجة التوترات المجتمعية بفعالية.
يسود حظر تجوال في العديد من المناطق في سوريا، بخاصة في الساحل، حيث يُمضي معظم السوريين وقتهم على صفحات التواصل الاجتماعي لمتابعة الأحداث بشكل يومي.
يعكس هذا الوضع عودة المجتمع إلى سياسة الخوف الوجداني والوجودي، مما يعيق المبادرات الفردية والجماعية في هذا السياق، وتسعى الهيئة وأقطاب داعمة لها إلى عدم الاهتمام بالبُعد الاجتماعي والمدني المطلوب لتعزيز التواصل والعمل المشترك، مع التركيز بدلاً من ذلك على الترويج لصفحات تدعم أشكالاً متطرفة من الولاء للهيئة.
هذه الصفحات لا تكتفي بالترويج للهيئة فحسب، بل تشارك أيضاً في مهاجمة العلويين واستذكار مشاهد سابقة للتعذيب، تظهر فيها شخصيات علوية بشكل واضح، تقوم بإدارة التعذيب والتلفظ بكلمات دينية عدائية، مما يعمق الانقسامات ويكرس ثقافة الإقصاء والتطرف. ويظهر في هذا المشهد الغوغائية الرقمية، حيث تسود فوضى المعلومات والآراء المتطرفة عبر منصات التواصل الاجتماعي، مما يؤدي إلى تضخيم المشاعر السلبية بين الأطراف المختلفة، كما تساهم هذه الصفحات في التعزيز السلبي الرقمي، عبر تشجيع التفاعل مع المحتوى العدائي والمثير للانقسامات، مما يعمق الاستقطاب والتوتر النفسي داخل المجتمع.
في الوقت نفسه، تتكاثر البيانات والخطابات على الصفحات الخاصة التي تدعو للدفاع عن العلويين وتطالب بتأمين الأمن والأمان لهم، سواء من خلال مشايخ، أو أفراد من المجتمع الأهلي، أو جهات أخرى. يعكس هذا المشهد تشرذم الساحل إلى مناطق يغيب عنها النظام وتعدد فيها الروايات، من دون تدخل مباشر أو فعّال من الهيئة لتنظيم الأمور.
إقرأوا أيضاً: