fbpx

ليلة سهرنا في طرابلس

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

سألتها قبل أن نذهب عما يمكن أن أرتديه لسهرة الليلة، إنها المرة الأولى التي أسهر فيها في طرابلس. لم يحدث أن تقابلنا ليلاً. كانت لقاءاتنا تحدث نهاراً في الضجيج الكثيف. لكن طرابلس تُحَب في كل الأوقات…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

اتفقنا في بداية المشوار أن صديقتي سوف تلعب دور مايكل شوماخر، لما تتطلبه قيادة السيارة في شوارع طرابلس من مهارة. إنها مهمّة مستحيلة! بعد حين تحوّل اسم مايكل إلى مخول، وهي نكتة بقيت تضحكنا يومين.

سألتها قبل أن نذهب عما يمكن أن أرتديه لسهرة الليلة، إنها المرة الأولى التي أسهر فيها في طرابلس. لم يحدث أن تقابلنا ليلاً. كانت لقاءاتنا تحدث نهاراً في الضجيج الكثيف. لكن طرابلس تُحَب في كل الأوقات. كلما ذهبت إليها، أعود محمّلةً بنص عن الحب. لا أعرف كيف يستطيع أحد أن ينسب شيئاً من الكراهية إلى تلك المدينة الرائعة. كيف يمكن أن يكره أحدٌ طرابلس؟ لا بل كيف يمر أحد من هناك ولا يقع في غرامها؟ قالت “مخول” إنّ أمر اللباس يعود إلي، وإن لا مشكلة “لن يحاكمني أحد”. وأضافت: “لا تقلقي”.

على الطريق، قالت وهي تنسل بخفة بين السيارات والشاحنات والحافلات: “سأريكِ شيئاً”. وأكدت أن ما ينتظرني مفاجأة، “مفاجأة رائعة”. تبين أن ما ينتظرني كان كارثة شكا، حيث سقطت أجزاء من الجبل على الطريق الذي أصبح مستحيلاً حقاً، وهو ينتظر أعمال الترميم والأيام تطول. المنظر مرعب. أخبرتها عن طريق بيتنا إلى البقاع حيث لا يختلف الأمر كثيراً. وصرنا نتحدث عن كم أصبح الإنسان رخيصاً.

تشعر برغبة في الشراء وتقبيل الباعة وشكرهم على صمودهم. تريد أن تسندهم وأن تشجّعهم وإن بغرض صغير

في السهرة في شارع “مينو” سمعنا أجمل الأغنيات وأيضاً رقصنا وضحكنا وصرنا نصرخ من الفرح. إنها واحدة من عاداتي المجنونة، الصراخ من الفرح. بعد قليل التقطت “سيلفي” وحمّلتها في “فيسبوك”، فعلّق حساب باسم الملهى “welcome”. إنه ترحيب لم أحصل عليه في أي مقهى أو ملهى آخر. لم يكن الخمر على كل الطاولات، ذلك أن هناك من أتى ليسمع الموسيقى فقط. إنه مكان يرحّب بالجميع، كل واحد بتناقضاته ولباسه ورغبات قلبه.

في طريق العودة، كنا وحيدتين في الشوارع الفارغة. سارت السيارة ببطء، فاستطعت أن أشاهد مدينتي على مهل. ليس أمراً عادياً أن تكون وحيداً في طرابلس، المكتظة معظم الوقت. هنا محل بقالة، بجانبه كاراج للسيارات ومحل للعجلات. هنا جبل مهول للنفايات، يكاد يقع في وقت قريب، ويوقع معه كارثة بيئية وإنسانية، تضاف إلى لائحة الكوارث. هناك دير عمار وأزمة الكهرباء. ومرفأ طرابلس المحروم من حقوقه والحوض الرابع الذي يئن من كثرة المشكلات حوله. يكاد يصرخ بالجميع: “اتركوني وشأني!”. شارع الكزدورة، نهر أبو علي، مقبرة الغرباء، شارع الميتين… كل واحد يكفي لكتابة ملحمة من القصص والتاريخ والأحداث والناس. “هنا مفرق المنكوبين” قالت “مخول”. ثم أضافت: “لا تستغربي، انظري إلى كم الحفر في الطريق تفهمين”.

إنه حب منثور على الطرقات، عليك أن تلتقط منه ما استطعت، لتخبئه لأيامك في بيروت

نمنا في بيتها وانطلقنا في اليوم التالي إلى طرابلس القديمة والأسواق الشعبية. تسوّقت من قلبي، هناك تشعر برغبة في الشراء وتقبيل الباعة وشكرهم على صمودهم. تريد أن تسندهم وأن تشجّعهم وإن بغرض صغير. كل شيء مرتّب وبأسعار زهيدة. دخلنا إلى متجر لبيع بدلات الرقص الشرقي. في الداخل فتاة جميلة. طلبت منها منديلاً. وطفقت تحكي من حيث لا ندري. كان في قلبها الكثير لتقوله، من ذاك الكلام الذي لا يُقال إلا لغرباء بلا أسماء، تختفي وجوههم بعد حين. قالت: “أنا أحب الباليه كلاسيك، إنه عالمي. الرقص الشرقي ليس لي”. سألناها إن كانت تمارس الباليه كلاسيك. تنهدت: “يا ريت. لكن هناك من يريد قتل الأحلام في الرؤوس قبل أن تخرج إلى العلن”. كدت أجيبها: “إنما عليك بالتحدي”. لكنّها أكملت حديثها: “أنا تزوجت وتطلقت ولدي أولاد. كيف يمكن أن أرقص؟”. حينها كان على أحدهم أن يُطلق رصاصة في وجه مانعي الأحلام واحداً واحداً. لكنّ الرصاصات في أيامنا لا تُصيب سوى الحالمين البسطاء. كانت تريد تقديم المنديل من دون ثمنه، ربما أرادت أن تشكرنا أو تكافئنا على الإصغاء. لكننا دفعنا وذهبنا بقلبين خائبين.

كانت تلك النزهة في السوق المملوء بالألوان والأواني النحاسية والحرفيات، دعوة ملحة إلى الفرح. كنت في قمة فرحي. هناك من يقف أمام كل متجر ليدعوك إلى الداخل، وكأنه يدعوك إلى مائدته. إنه حب منثور على الطرقات، عليك أن تلتقط منه ما استطعت، لتخبئه لأيامك في بيروت حيث الوجوه الضاحكة معجزة نادرة. “فقراء” طرابلس أغنى منا جميعاً! يمكنهم أن يضحكوا، فيما نعجز أحياناً كثيرة عن الابتسام.

بعد غداء شهي، عدت في حافلة إلى بيروت. مرّ وقت طويل ولم أركب في حافلة. دفعت ثمن مقعدين، حتى أعزز الأغراض التي اشتريتها من مدينتي. إنها مهمة وغالية واستثنائية. سمعنا أسطوانة إليسا، على طول الطريق، وكان السائق يشد على عروقه ويغني “كرهني وقتا بتثبتلي ما قدرت تلاقي متلي”. يبدو أنه مغرم.

كتبتُ نصوصاً كثيرة عن طرابلس، وينتابني شعور المرة الأولى عند كل نص جديد. إلى اللقاء في رحلة أخرى إلى هناك، إلى الحب.

إقرأ أيضاً:
عن هورموناتنا نحن النساء
“لا مكان لدفننا”: في لبنان الوفيات ترتفع والمقابر تضيق والتكاليف تتضاعف