“نحب البلاد
كما لا يحب
البلاد أحد
نحجّ إليها
مع المفردين
عند الصباح
وبعد المساء
ويوم الأحد”
يمر شريط حياتي القصيرة أمامي كل يوم، وأنا أتابع حالة الدكتورة ليلى سويف، المضربة عن الطعام منذ أكثر من خمسة أشهر. لأكثر من العقد بقليل، كبرت وأنا أشاهد أفراد هذه الأسرة يهانون علناً، يُسجنون، وتضيع أعمارهم، ويزيد عليهم بضعة من الآلاف المؤلفة من الذين عانوا المأساة نفسها، بعضهم سمعنا عنهم، والكثير منهم لم نسمع عنهم، وربما لن نعرف عنهم أبداً.
برغم كل المآسي التي مرت بها الأسرة، إلا أنهم كانوا يثيرون الغيرة في نفسي أحياناً، كنت أتمنى لو أني لم أولد لأب متطرف دينياً، لماذا لم أولد في عائلة يسارية؟ سؤال تحول في ما بعد إلى لماذا وُلدت أصلاً. في أحيان أخرى، كنت أشعر بالخجل من نفسي بسبب معتقلي الرأي إجمالاً، فماذا تساوي مضايقات الأمن لنا مقارنة بهم؟ المضايقات التي اعتدناها بسبب أب لم أستطع معرفته جيداً، إذ كان همي الأكبر آنذاك الهروب منه، فشلت مرة ونجوت في الثانية بأعجوبة.
بين أحلامي بالمطالبة بالحرية، وكوابيسي عن طفولتي التي ضاعت تحت اسم التديّن، وزيارات الأمن الوطني، أمضيت سنوات مراهقتي أتساءل من الذي ينجو في هذا الوطن. أضحك ساخرة حين أفكر أن أحلامي في السابعة عشرة كانت أن أبيت في مقر الأمن الوطني لأني طالبت بالعدل مثلاً، أو تطبيق حقوق الإنسان، لا لأني ابنة ذاك الرجل.
يظنّ النظام أن القمع الزائد سيقضي يوماً ما على كل الأصوات المعارضة، إلا أن ما يدفع الأجيال التي تكبر تحت ظل نظام مماثل إلى التعبير، هو موقف مماثل لموقفي، إما أن تُقمع بلا سبب أو أن تشاهد الآخرين يُقمعون، تحرك تلك المشاهد سواء عشتها أو كبرت في ظلّها، مشاعر بالقهر والذل تدفع بعض البشر إلى تكريس حياتهم في سبيل الدفاع عن الإنسان، عرفوه أم لم يعرفوه.
أصبحت شابة في بداية العشرينيات، وتحققت أحلامي بأن أقف في الشارع مع أصدقائي نطالب بالعدل وبالإفراج عن المعتقلين، ووقف إطلاق النار في غزة، وفتح المعبر للفلسطينيين. مجدداً، أعلق في المنتصف، فلا أنا بالمناضلة المرفوعة على الأكتاف أهتف وينتهي بي الحال في السجن، ولا أنا من هؤلاء الذين يمرون على التظاهرات والوقفات الاحتجاجية مرور الكرام، لا أنا من الوجوه المعروفة، ولست مغمورة تماماً أيضاً، أعتقد أن الحال نفسه ينطبق على أقراني من الجيل نفسه، نحن في المنتصف تماماً، ولا أحد يرانا.
هكذا أظلّ عالقة في ما بين البينين، لا أعبر عن رأيي ولكني أُحتجز، أذهب للتعبير عن رأيي فلا أُسجن، لكن يُسجن صديقنا الذي يصغرني بعامين، ويفصلني عنه بضعة أشخاص، ومن بعدها صديقي الذي كنت أقف بجانبه كتفاً بكتف. مجدداً، أرى مأساة عائلة سيف تتكرر أمام عينيّ، أشاهد شباباً تضيع أعمارهم، وأمهات تمضي أياماً أمام السجون في انتظار رؤية أحد أبنائها. الفارق الوحيد هذه المرة أن أصدقائي أصبحوا علاء وسناء، وكل أمهاتهم أصبحوا ليلى سويف.
لا يفكر النظام في أن بعض الإصلاح في هذه الأرض أو الإفراج عن أبناء هذا الوطن قد يريح أعضاء السلطة من ضجيج أصواتنا، بل الحل الأسهل هو الزج بهم جميعاً في السجن، وهذا هو تحديداً ما يولد المزيد منا، فلهم إخوة وعائلات ستظل تنادي بأسمائهم إلى حين عودتهم، وإن قتلوا يصبحون شهداء الوطن، وتظل الدائرة تدور بين ظلم يتفشى وأجيال لا آخر لها تحاول المقاومة في سبيل الوصول إلى الحد الأدنى من مستويات الحياة.
للمرة الثانية في حياتي أستطيع الهرب من القدر الأسود، على رغم أن سفري إلى بلدان عدة كان ممنوعاً، وحركتي داخل مصر محددة داخل مدينتين لا أكثر، استطعت بتدخل إلهي أن أخرج من مصر، أردت متنفساً من حالة البارانويا التي أصبحت تصاحبني أينما ذهبت، وانتهى ببقائي في سريري لا أستطيع التحرك منه خوفاً من العالم الخارجي.
كنت أنوي العودة بعد شهرين لا أكثر، إلى أن اعتُقل أحد أصدقائي المقرّبين للمرة الثالثة في أقل من شهرين، يذهب إلى السجن بلا محاكمة وبالطبع يوضع اسمه على إحدى قضايا الإرهاب، إذ إن الكل في مصر يصبح إرهابياً عاجلاً أم أجلاً، سواء كان إرهابياً يحمل سلاحاً قاتلاً، أو إنسان يقف في الشارع ينادي بصوته لتحقيق العدالة. من سخرية القدر أن صديقي ذهب إلى السجن نفسه الذي يُحتجز فيه علاء عبدالفتاح.
بعد مشاورات مع الأصدقاء نُصحت بعدم العودة إلى مصر، وصراحةً لم يعد جهازي العصبي يحتمل المزيد من توقيفات رجال الأمن، وتحديد الحركة، وكل الأشياء المصاحبة. بقيت خارجاً أتابع الأخبار في مصر من جهة، ومن جهة أخرى أشاهد ما يحدث في فلسطين، صار وجودي عبارة عن (عقدة الناجين) على هيئة بشرية، جثة هامدة تمشي على الأرض بلا هدف، كانت الأشهر اللاحقة لخروجي عشوائية وبلا هدف فعلي في الحياة، معلقة في الهواء لا أرى مستقبلاً وليس لدي ماضٍ، وحاضري مخدر طوال الوقت، لأشهر وأشهر قصدت تخدير نفسي بطرق عدة، فلم أعد أتحمل ولا أستطيع الشكوى أو الصراخ والبكاء، أندب حظي في الحياة، كيف أشكي همي لصديقتي التي علقت عائلتها تحت القصف في غزة، أو لصديقي الذي علق في مصر ينتظر القبض عليه في أي لحظة؟
حاولت الكتابة، لم أجد كلمات تصف ما يحدث على الجهتين، أشعر بأن مئات المقالات لن تكفي ولن تفي حق أي منهم. أصبحت في المنفى الاختياري كما تدعوه المنظمات الدولية، أغضب في كل مرة أجبر فيها على اختيار (منفى اختياري)، لم أختر هذا المنفى، كانت خياراتي أنا ومن هم في موقفي إما المنفى بمستقبل مجهول لا ملامح له، وخسارة كل ما نملك في الحياة، لكن يحمل احتمالية الوجود، أو العودة ومواجهة السجن وخسارة الحياة بكاملها، فكيف يكون هذا خياراً؟ كيف يجبرنا العالم على تسمية هذا في كتابتنا أو في الأوراق الرسمية (اختيارياً).
حقيقة، من موقعي هذا لا أرى فارقاً بين الإثنين، ففي كلتَي الحالتين ينتهي بنا الأمر أجساداً هامدة بلا روح، أرواحنا تظل معلقة في برزخ ما، لا نحن أموات فنرتاح، ولا أحياء ونمتلك حياة طبيعية أو شبه حياة، لا تعتبر مأساتنا الأسوأ، ولا نظل بلا مأساة أيضاً.
لكن رغم هذا كله نصرّ على أننا سنعود، ويصرّ من هم عالقون في الداخل على أنهم سيتقبلوننا قريباً. اكتشفت أن هذا الشعور سائد بين أبناء المنطقة عموماً، فالحال هي نفسها لأبناء فلسطين واليمن، وكل الدول المقموعة والمقهورة، أعايد صديقتي الغزاوية، فتقول لي “السنة الجاية نكون في غزة” وهي أكثر من يعرف أن غزة لم تعد موجودة، لكن في أثناء وجودنا في البرزخ كل ما نوده هو العودة إلى الوطن حتى وإن كان قد أبيد عن بكرة أبيه، فقط أعيدونا إلى أراضينا.
في أوقات كثيرة، أشعر بالاستسلام وبأني فقط أريد حجز أول تذكرة عودة إلى مصر وليحدث ما يحدث، على الأقل إن سجنت سأسجن على أرضي التي أعرف ترابها جيداً، أشجع نفسي بأني سأحصل على وجبة مجانية، وإن كنت مكروهة كفاية، فسأحصل أيضاً على غرفة فردية مضمونة مدى الحياة، لكن أتذكر كيف هو شعور الاحتجاز وفقدان الشعور بالعالم الخارجي وأُلغي الفكرة.
تقدّر السجلات المدنية عمري بثلاثة وعشرين عاماً، فيما أقدره أنا بالتسعين. يعترض أصدقائي على الرقمين قائلين إنني يفترض أن أكون في عداد الموتى منذ أمد بعيد. أعترف غالباً بصحة قولهم هذا حين يسألني أحدهم متى غادرت مصر، فأقول: غادرت منذ عام وحرب.
الغريب أن فكرة الحصول على تلك الوجبة المجانية لم تخطر لي مطلقاً في أثناء الحرب على لبنان. أتت الحرب كصفعة قاسية على وجهي، ذكرتني بأني لم أعش مأساة حقيقية، مجدداً أشعر بأن المأساة لا قيمة لها. أسمع أصوات القصف كل ليلة، نسيت كيف كان صوت العالم قبل المسيرات، نجوت من مناطق القصف ثلاث أو أربع مرات؛ بسبب غبائي ليس أكثر، لكني لم أمت، شاهدت صاروخاً يفجر المنطقة المجاورة للجسر الذي كنت أمر من فوقه وقتها، لكن ماذا يساوي هذا كله مقارنة بصديقتي التي ظلت كل فترة الحرب تحت القصف المباشر لكل ما حولها، وتلك التي قصف المنزل الملاصق لمنزلها، أو هؤلاء الذين فقدوا أصدقاءهم وعائلاتهم؟
عادت حملات الاعتقال في مصر تزامناً مع ما يحدث هنا في لبنان، حتى البرزخ لم يعد كافياً لأرواحنا، يرفض أصدقائي مغادرة بيوتهم التي تقصف، وأرفض أنا مغادرة الوطن الذي احتضنني وأحببته، ويرفض آخرون لأسباب لا تنتهي، أقف حائرة أمام هذا الإصرار البشري بالبقاء في مكان منتهٍ، والذي يمكن وصفه بالغباء المطلق، عاجزة عن تفسير سبب حب الإنسان للبلاد.
“ولو قتلونا
كما قتلونا
ولو شردونا
كما شرّدونا
ولو أبعدونا
لبرك الغماد
لعدنا غزاة
لهذا البلد”
توقّف القصف في مختلف أنحاء البلاد وانحصر في الجنوب، قبل أن نستوعب ما حدث استيقظنا على سقوط بشار الأسد، آلاف من السوريين الذين لم يروا بلادهم لعقد أو عقود، وربما لم يروها مطلقاً، عادوا إليها غير مصدقين أنهم أخيراً يقفون على أراض الوطن، حتى أنا التي كبرت وهي تشاهد نظام الأسد الموازي في قمعه للنظام في مصر، ما زلت لا أصدق أنه سقط.
فرح ممزوج بالكثير من الألم، أو مكسور ربما، فرحت لأن ما حدث يعطي أملاً محتملًا بعودة الكل إلى أوطانهم، لكن إلى متى يستطيعون البقاء، أعتقد أن هذا مرتبط بقوة النظام الجديد في الحفاظ على الصورة الإيجابية التي يحاول بناءها، متناسياً ما قد فعلت الجماعة الإسلامية في سوريا، أو ربما معتقداً أن الكل نسي، وها نحن هنا نبدأ صفحة جديدة.
في الوقت ذاته، لا أستوعب أن أصوات القصف توقفت، أعود إلى الواقع بصور وفيديوهات خروج المعتقلين من سجون الأسد، أخاف من يوم كهذا في مصر، حين تفتح السجون التي نعرف عنها، وتلك التي لم نسمع بها، ولا نستطيع تخيلها في أسوأ كوابيسنا، كوابيسنا التي أدركت أنها لا تخيف حين شاهدت كباسة بشرية مخصصة للإعدام.
يموت هذا الأمل الصغير كل يوم في أثناء متابعة حالة ليلى سويف الصحية، السيدة التي تضحي بحياتها لأجل ابنها، الذي تعرف جيداً أنها باستمرارها في إضرابها لن تستطيع أن تبقى على قيد الحياة حتى تشاهده حراً. أشعر أني أريد الصراخ، لماذا لا ينقذها أحدكم؟ ثم أتذكر أن العالم أجمع شاهد على مذبحة جماعية تحصل على مدار سنة ونصف السنة، ولم يستطع أحد إيقافها، وأن هناك آلافاً مؤلفة في سجوننا، ولم يهتم أحد بإخراجهم، المخيف هو إدراك أنه حتى إذا حدثت معجزة، وفتحت تلك السجون، فربما لن نعرف أبداً ما إذا كان الكل خرج أم لا، مثلما يحدث في سجون الأسد التي ما زالوا عاجزين عن فتحها.
أستيقظ كل يوم لأرى بقايا المرفأ من شباك غرفتي التي تطل مباشرة عليه، من سخرية الأقدار أيضاً أن الشباك الوحيد في شقتي الذي تستطيع رؤية السماء منه هو شباك غرفتي المصنوع من قضبان حديدية تشبه قضبان السجن، لكن أكبر وأوسع قليلاً.
أنظر الى المرفأ، وأسأل نفسي: هل يا ترى ينفجر مرة أخرى، وإذا انفجر، هل من يحارب من أجل العدالة ومحاسبة المجرمين، أسمع صوت المسيرات والمروحية، وأرى سفينة حربية تابعة للأمم المتحدة في مشهد سريالي، كل يوم تأتي المسيرة إلى دوامها في خرق وقف إطلاق النار، وتلحقها طائرات وسفن الأمم المتحدة التي تأتي لتتأكد أن الاتفاق لم يخرق، تعلن بعدها الأمم المتحدة أن الاتفاق خرق، تعترف الدول الأوروبية وأميركا بأن الاتفاق قد خرق، لكنها لا تهتم بإيقاف المسيرة التي تأتي لتناول الفطور معي كل يوم، أو تلك التي تقصف ضيعة صديقتي المسيحية في الجنوب بحجة أنها قاعدة لحزب الله.
أُخرج هاتفي لأتابع أخبار الدكتورة ليلى سويف، وأخاف من يوم أصحو فيه لأجد العالم قد فقدها، ومن ثم أحاول العمل على إيجاد طرق لتشكيل مستقبلي الذي فقد ملامحه.
لا أدري الى متى ستظل المعجزات الإلهية تتدخل لتنقذني وأهرب في آخر لحظة، ولماذا اضطر إلى الهرب على نحو متكرر أصلاً، لكني متأكدة أن القادم أياً كان لم أعد أهابه.
ربما يقرأ البعض هذا المقال على أنه مجرد كلمات رُتبت وتم تنسيقها جنباً إلى جنب، لكن بالنسبة إلي كانت السطور السابقة، والتي أراها مرتبكة وتحمل الكثير من المشاعر الثقيلة على قلبي، ملخصاً لآخر سنة ونصف السنة في حياتي. أحداث عشتها على أرض الواقع، وما زلت أنا والكثيرون نعيشها، ولا أدري إلى متى نظل عالقين بين سطور هذا السيناريو التراجيدي الذي لا ينتهي.
غالباً، لن تكفي مئات المقالات لوصف ما يعيشه الإنسان الذي يولد على هذه البقعة من الأرض. يقولون إن عذاب النار ينتظر بعضنا على الجهة الأخرى، آخرون يقولون ألا شيء يوجد بعد الموت، لكن من المؤكد أننا في أثناء رحلتنا متنا ألف مرة قبل الموت الكبير، من دون أن نرى الحياة.
تساءلت كثيراً لما نحب البلاد، ونصر على الإصلاح فيها، هذه العلاقة المسمومة بيننا وبين بلادنا، لماذا نحبها بهذا القدر، ونتوق إلى العودة إليها، برغم أننا لم نر يوماً واحداً عادلاً فيها. ربما يجيب البعض بأن هذا سؤال فلسفي يستلزم بعض الدراسات للهوية والإنسانية وعلم النفس…إلخ، لكن إجابتي التي توصلت إليها هي أننا نحب البلاد؛ لأننا نحب الحياة، ونتمنى رؤيتها في بلادنا.
وهذا السؤال يأخذني إلى آخر، فمن موقعي هذا كإحدى الأرواح العالقة في برزخ العالم الثالث، أسأل سكان ما يدعونه العالم الأول، متى يتوقف سلب أرواحنا، ويصدر القرار أخيراً بأنه يحق لنا أن نحيا مثلما يحق لكم؟
إقرأوا أيضاً: