في 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، كشفت منظمة “قرى الأطفال SOS” العالمية أن مؤسِّسها، هيرمان غماينر، ارتكب اعتداءات جنسية وجسدية على مدار سنوات قبل وفاته عام 1986. تم توثيق ثماني حالات داخليًا وتعويض الأشخاص المتضررين بين عامي 2013 و2023، فيما لا تزال التحقيقات جارية في بعض مراكز المنظمة في النمسا حول إساءة معاملة الأطفال.
في السياق نفسه، قرر المجلس الدولي للمنظمة تعليق عضوية فرع النمسا (SOS-Kinderdorf Österreich) في اتحاد قرى الأطفال الدولي، وكذلك تعليق عضوية ممثّله أندرياس كوفار. كما أوصى المجلس بعقد جمعية عمومية استثنائية للنظر في إمكانية إلغاء المقعد المخصص للنمسا في المجلس الدولي.
تأتي هذه الإجراءات لتكشف أزمة عميقة داخل المنظمة، ليس فقط كمؤسسة تقدم خدمات للأطفال المفصولين/ات عن الرعاية الأسرية، بل كمنظومة فكرية ومؤسساتية ممتدة، حان أوان تفكيك بنيتها في لحظة تتوالى فيها الفضائح وصولاً إلى مؤسّسها.
ولا يمكن النظر إلى هذه الفضائح كحوادث منفصلة أو أخطاء فردية. فما كشفته التحقيقات يعكس أبعادًا مؤسسية أوسع ترتبط بطريقة التفكير التي تأسست المنظمة عليها. المسألة هنا لا تتعلق فقط بسوء إدارة، بل بثقافة مؤسسية أنتجت صمتًا وتستراً أضرّا بحقوق الأطفال وكرامتهم.
القضية لا تتوقف عند حدود النمسا ولا عند فضائح الاعتداء الجنسي. ففي سوريا، كشفت تقارير أن أطفالًا فُصلوا عن أسرهم تحت ضغوط من النظام، ثم نُقلوا إلى مراكز تابعة للمنظمة في ظروف غير واضحة، وأُعيد بعضهم لاحقًا إلى السلطات من دون أي متابعة لمعرفة مصيرهم. هذه الوقائع تطرح سؤالًا أساسيًا حول جدوى التعويض المالي أو الاعتذار الرمزي في مواجهة انتهاكات تمس جوهر المؤسسة.
ما يجمع هذه الحالات هو نمط متكرر من الصمت والتسييس في إدارة رعاية الأطفال، وهو ما لا يمكن إصلاحه عبر إجراءات شكلية. فالمشكلة تكمن في المنهج نفسه: من كيفية فهم احتياجات الطفل إلى طبيعة الرعاية البديلة والقيم التي تقوم عليها.
تاريخيًا، أظهرت التجارب أن الفصل عن الأسرة لا يعني دائمًا حماية الطفل، بل قد يكون أقسى من البقاء ضمن الأسرة نفسها. من هنا يبرز سؤال أساسي: لماذا لا يتم الاستثمار في دعم الأسر والمجتمعات بدل إحلال المؤسسات مكانها؟
إقرأوا أيضاً:
بين عامي 2002 و2009، عملتُ في “قرى الأطفال SOS” في لبنان ومواقع عدة حول العالم. خلال تلك السنوات، لاحظتُ تقديسًا مؤسسيًا يتجاوز تقديم الرعاية، يتمثل في تعليق صور هيرمان غماينر في كل منزل، ما يخلق شعورًا بأن المؤسسة نفسها مخلِّصة وأن الأطفال مدينون لها. هذا ما أسميه “متلازمة الامتنان”: توقع دائم من الأطفال بأن يعبروا عن شكر عميق للمؤسسة، حتى وإن تعرضوا للإساءة داخلها.
في ظل هذه الثقافة، تنمو الإساءة بصمت. فكيف يجرؤ طفل على الإفصاح عن تعرضه للأذى إذا كان يُملى عليه باستمرار أن المؤسسة أنقذت حياته؟
هذه ليست حادثة فردية، بل أزمة مؤسسية. فعندما يُنظر إلى المؤسسة بوصفها مقدسة، يصبح انتقادها شبه مستحيل، وهو ما يخلق بيئة خصبة لاستمرار الانتهاكات.
إعادة التفكير هنا لا تقتصر على الإصلاح الإداري أو القانوني، بل تتطلب إعادة صياغة علاقة المؤسسات بالأطفال. نحن بحاجة إلى نماذج رعاية تُمكّن الأسر والمجتمعات من أن تكون بيئة الحماية، بدل أن تُستبدل بالرعاية المؤسسية التي قد تُعيد إنتاج الألم.
تتصل جميع هذه الفضائح بخيط واحد: ثقافة الصمت. فعندما يُفرض الصمت على الأطفال، وتُصنع حول المؤسسة هالة امتنان، يصبح من السهل اختفاء أطفال كما حدث في سوريا، أو وقوع اعتداءات جنسية تُعالج لاحقًا بتعويض مالي، من دون مساءلة أو عدالة.
النتيجة واضحة: المشكلة ليست في الأفراد فقط بل في الهيكل والفكر الذي يدير المؤسسة.
هذه الفضائح ليست أحداثًا معزولة، بل مؤشر إلى أزمة مؤسسية عالمية. التعامل معها يتطلب إعادة تصوّر جذري لدور هذه المؤسسات. فماذا لو استُثمرت الأموال المخصصة للرعاية المؤسسية في دعم الأسر قبل تفكيكها؟
سؤال بسيط، لكنه كفيل بإنهاء متلازمة الامتنان وحماية الأطفال من صمت طويل.













