fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

مئات الأطفال العراقيين مهدّدون بالموت أو الإعاقة بسبب أمراض “التمثيل الغذائي”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“كانت تعاني من فرط الحركة وصعوبة في النطق مع تقوس الساقين، وتتألم باستمرار، وبدلاً من معالجتها، تسبب الأطباء في تدهور حالتها، بسبب وصفهم علاجات وأطعمة هي أصلاً محظورة على مرضى التمثيل الغذائي، كاللحوم والبقوليات وغير ذلك، وقد تبين ذلك متأخراً جداً”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عديلة شاهين – نيريج

 لم تكن جنان كاظم (43 سنة)من منطقة سبع البور غرب العاصمة بغداد، تدري بأن مرض ابنتها الكبرى شيرين (14 سنة) سيغير مجرى حياتها ويقلبها رأساً على عقب.

إذ اكتشف الأطباء في آب/ اغسطس 2018، إصابة الصغيرة بمرض التمثيل الغذائي من نوع(pku) الذي يُعرف بأنه اضطراب وراثي نادر، يجعل الأطعمة العادية سامة للدماغ، ويسبب إعاقات عصبية دائمة للأطفال وهم بأعمار مبكرة، أو يكون مميتاً في حال لم يتم تداركه بحليب طبي ومن ثم أطعمة خاصة مع علاجات تؤخذ على مدى الحياة.

تقول جنان بنبرة حزن: “كان الأوان قد فات عندما اكتشفنا علتها وهي في الثامنة من عمرها، فقد أصيب دماغها بالتلف جراء تداعيات المرض المدمرة”، تأخذها لحظة شرود قبل أن تضيف: “كان لا بد من إجراء فحص طبي خاص اسمه الغربلة خلال الساعات الأولى من ولادتها، وهذا لم يكن متوافراً في العراق حتى سنة 2013”.

“المشكلة أن الأطباء أنفسهم لم يكونوا يعرفون به” تضيف جنان، وهي تتذكر كيف أنها عرضت شيرين على الكثير من الأطباء الذين شخصوا الأعراض الظاهرة عليها: “وفقاً لاجتهاداتهم، وكلها كانت خاطئة” تقول بحدة.

وتتابع: “كانت تعاني من فرط الحركة وصعوبة في النطق مع تقوس الساقين، وتتألم باستمرار، وبدلاً من معالجتها، تسبب الأطباء في تدهور حالتها، بسبب وصفهم علاجات وأطعمة هي أصلاً محظورة على مرضى التمثيل الغذائي، كاللحوم والبقوليات وغير ذلك، وقد تبين ذلك متأخراً جداً”.

قصة جنان لم تنته عند هذا الحد، فلقد تلقت في تموز/ يوليو 2020 معلومات غير سارة من المختبر المركزي في بغداد، أفادت بأن طفلتها الصغرى آيات، وكان عمرها وقتها شهراً واحداً فقط، مصابة بمرض شقيقتها نفسه، وحالتها تستوجب عناية خاصة من حيث التغذية والعلاجات لكي لا يُصيبها ما أصاب شيرين. 

تجربتها مع ابنتيها، ومعاناتها التي تصفها بالمريرة في الحصول على الحليب الطبي غير المتوافر في الأسواق، الذي توزعه وزارة الصحة بنحو غير منتظم، وكذلك ندرة الفحوصات والعلاجات والتخصص الطبي، جعلت منها ناشطة وممثلة مرضى التمثيل الغذائي في العراق.

معدّة التحقيق حاولت عبر تواصلها مع مصادر عدة في وزارة الصحة وأطباء متخصصين، الوصول إلى إحصائية دقيقة بشأن أعداد المصابين بأمراض التمثيل الغذائي في العراق، لكنها لم تحصل على إجابة دقيقة، وقد رجح ناشطون وذوو مرضى أن سبب ذلك يكمن في عدم وجود بيانات متكاملة، فضلاً عن عدم تسجيل جميع الحالات في المراكز الحكومية. 

وهم يُجمعون على ضرورة قيام الجهات الصحية الرسمية بإعداد قاعدة تتعلق بأمراض التمثيل الغذائي، والعمل على تعزيز الوعي بكيفية الوقاية منها والتعامل معها وبدء العلاج مبكراً  والاستمرار فيه لتفادي الإعاقات الذهنية والجسدية الأخرى أو حالات الوفاة.  

الفينيل كيتون يوريا  Pku 

الطبيب الاستشاري المتخصص بطب الأطفال طريف فاضل، يُعرّف أمراض التمثيل الغذائي بنحو عام أنها “مجموعة أمراض تحدث نتيجة وجود خلل في جين معين يؤدي إلى نقص في إنزيمات الجسم”.

ويقول إن هناك المئات من الاضطرابات الأيضية الجينية المختلفة وأعراضها وعلاجاتها متباينة: “لكن معظم إصابات أمراض التمثيل الغذائي الوراثية في العراق هي من نوع  فينيل كيتون يوريا Pku”.

ويُعرّفه بأنه “مرض وراثي نادر ينتج عن خلل في الجين المسؤول عن تكوين الإنزيم اللازم لتحويل الحمض الأميني الفينيل ألانين إلى الحمض الأميني تايروسين المهم في تكوين النواقل العصبية”.

ويشير إلى أن الضرر الناجم عن الفينيل كيتون، يمكن أن يبدأ بعد أسابيع من بدء الطفل بشرب حليب الثدي أو الحليب الصناعي المجفف، وهذا يؤدي إلى “تراكم الفينيل ألانين في سوائل الجسم والدماغ ويسبب مشاكل ومضاعفات صحية عدة، وقد يتأخر التشخيص عند عدم اجراء فحص الغربلة لحديثي الولادة، ما يؤدي إلى تلف في خلايا الدماغ وتكون شدته أكثر كلما تأخر التشخيص”.

ويستدرك متأسفاً: “لا يوجد علاج نهائي لمرض الفينيل كيتون يوريا، ولا بد من اتّباع نظام غذائي يتضمن أطعمة لا تحتوي على الفينيل ألانين، ما يعني أن الأطعمة يجب أن تكون منخفضة البروتين وتجنّب الغنية به مثل الحليب العادي، البيض، الجبن، المكسرات، البقوليات، واللحوم بكل أنواعها”.

ويرى أن النظام الغذائي والطعام الخاص، لابد أن يكونا نهجاً متبعاً على مدى الحياة “صارماً في السنوات الأولى من عمر الطفل، وهي الفترة التي تشهد نمو الدماغ وبناء قدراته الذهنية والعقلية، وبخلاف ذلك فإن زيادة الحمض الأميني تؤثر على الدماغ و فعاليته”. 

ويبين: “بما أن الفينيل ألانين جزء من البروتين ويوجد في الحليب والطعام الغني بالبروتين مثل اللحوم والبيض ومشتقات الألبان، لذا يخضع المريض لبرنامج غذائي خالٍ من هذه المواد وتعويضه ببروتين منزوع الفينيل ألانين على شكل حليب خاص وأغذية خاصة”.  

المتخصص بالأمراض العصبية والعوق العصبي لدى الأطفال الدكتور رائد جبار حسين، يوضح “عندما يعاني الرضيع أو الطفل من اضطراب استقلابي تكون المواد الكيميائية المستخدمة في عملية التمثيل الغذائي، إما مفقودة وإما لا تعمل بشكل صحيح”.

ومع أنه يتفق على أن أكثر أنواع الأمراض الاستقلابية شيوعاً لدى الأطفال في العراق هو “مرض الفينيل كيتون يوريا”، لكنه يؤكد أن هناك أمراضاً أخرى مشخصة “تتشابه أعراضها معه، من أمثلتها: تيروزينيميا، كالاكتوسيميا، نقص انزيم اللوسين  Isovaleric”.

وزارة الصحة العراقية توفر الحليب الطبي المحظور استيراده وتداوله في السوق، وتوزعه بأسعار رمزية على المرضى وفقاً لفحوصات مخبرية يُشترط أن تكون حديثة، تبين حالة كل مريض. 

لكن لا يحصل مرضى التمثيل الغذائي كلهم على الحليب من الوزارة، وذلك لأن كل مرض تمثيل غذائي تخصص له نوعية حليب مختلفة، والوزارة لا توفر سوى أنواع محددة لا تتوافق مع جميع المرضى، هذا فضلاً عن عدم انتظام التوزيع، ولجوء بعض التجار إلى بيعه خلسة في السوق السوداء بأسعار باهظة، وفقاً لشهادات ذوي مرضى قابلتهم معدّة التحقيق.

كما يتوجب على المرضى الذين تتجاوز أعمارهم مرحلة الرضاعة، تناول أطعمة خاصة كما أوضحها الطبيب طريف، وهي ليست في متناول غالبية الأهالي بسبب غلاء أسعارها وندرتها، فيضطرون إلى تغذية الأطفال بطعام عادي، فتحدث لهم مضاعفات مميتة أو تصيبهم إعاقات دائمة.

تكاليف باهظة

وليد مجيد العابدين (30 سنة) موظف حكومي من منطقة المنصور غربي بغداد، لم يكن أمامه من خيار لإنقاذ ابنته أنوار (12 سنة) المصابة بمرض استقلابي وراثي (التمثيل الغذائي) يدعى (propionic academia) سوى السفر المتكرر إلى بيروت لإجراء الفحوصات اللازمة لها هناك والحصول على الغذاء الخاص. 

يقول: “توجد هناك أجهزة فحص مختبرية متخصصة، ولفئة ابنتي المرضية نظام وجدول تغذية يجب اتّباعهما ونظام طوارئ للحالات الحرجة”.

وذكر أن رسم الكشف الطبي في لبنان يبلغ 190 دولاراً و2500 دولار كمعدل تكلفة للفحوصات المختبرية التي يقول إنها ضرورية، لأن العلاج والنظام الغذائي يحددان في ضوئها، كما أن أنوار تحتاج إلى علاج (الكارنتين) بكمية شهرية تبلغ 5000 ملغ، يصل سعرها إلى 175 دولاراً.

دواء الكارنتين

ويبين: “بشكل عام التكاليف تلك مع أجور إقامة لأسبوع واحد وتذاكر طيران تبلغ ما يزيد عن خمسة آلاف دولار”.

يقوم وليد العابدين بتلك الرحلة المكلفة مرة واحدة كل ستة أشهر منذ أن بلغت أنوار الرابعة من عمرها، قبل ذلك كان يجريها كل ثلاثة أشهر. وهو يسافر إلى لبنان مع زوجته وبرفقتهما طفلتهما منذ أن كانت بعمر 12 شهراً.

ويؤكد أن ما توفره مختبرات فحص الغربلة الحكومية في العراق محدود ولأطفال بعمر لا يتجاوز السنة، وفي ما يتعلق بالمختبرات الأهلية المحلية يقول: “أجورها مرتفعة جداً، كما أنها ترسل عينات الدم إلى الخارج ويتأخر وصول نتائج الفحص أحياناً لأكثر من 40 يوماً، لذلك أذهب إلى الخارج بنفسي، وأجري كل شيء بنحو أسرع”.

سبق له أن قدم طلباً إلى الشركة العامة لتسويق الأدوية والمستلزمات الطبية بتاريخ 22/5/2023 لتوفير نوعية الحليب فئة (O.A.C.B) التي تحتاجها أنوار، ويشتريها في العادة من لبنان بسعر يصل إلى 80 دولاراً للعبوة الواحدة، وهي تحتاج إلى ثماني عبوات شهرياً، إلا أن الشركة أجابته بأن نوعية الحليب تلك غير مقرة في وزارة الصحة، أي يتعذر تخصيصها. 

الدكتور حسين أحمد العمار؛ يحمل شهادة الدكتوراه في علوم الهندسة الزراعية، يسكن منطقة الزعفرانية جنوبي بغداد، والد الطفل علي (13) سنة المصاب بمرض الفينيل كيتون يوريا، اختار السفر قبل سنوات إلى إيران لإجراء الفحوصات والحصول على العلاج لابنه، وخلال إقامته هناك اتجه إلى دراسة التغذية السليمة لمرضى التمثيل الغذائي لإنقاذ ابنه والأطفال المصابين الآخرين. 

يقول: “أتواصل الآن مع أهالي المرضى عبر كروب مرضى التمثيل الغذائي، لأنني أجد أنه من الضروري توعية الأهل  والمجتمع الطبي، لأنه لا يزال هناك أطباء لا يوجّهون المرضى أو يزوّدونهم بطريقة التغذية الصحيحة”.

وينوه إلى أن المستشفيات ومراكز الفحص في إيران، تزوّد المرضى بقوائم من الأطعمة المسموح بها والمحظور تناولها: “هذه الخدمة غير متوافرة في العراق، لذا تتفاقم معظم الإصابات بسبب عدم امتلاك الأهالي الوعي الكافي بما هو صحيح من غذاء لمرضاهم”.

يؤكد عدد من ذوي المرضى الآخرين لمعدّة التحقيق، أن بعضهم؛ ولا سيما الميسورين، يسافرون إلى دول تعالج المرضى وتوفر لهم التحاليل والحليب المناسب مثل( تركيا وإيران)، فيحصلون هناك على إقامة دائمة بعد شرائهم عقاراً للسكن، وبموجب ذلك يتم تسجيل الطفل المصاب لدى الجهات الصحية الرسمية، فيستلم الحليب المخصص له وتوفر له العلاجات الخاصة. 

فحص الغربلة

اختصاصية التحليلات المرضية الدكتورة صفاء محمد، تقول إن فحص الغربلة؛ الذي تصفه بالمهم جداً، لا بد من إجرائه على المواليد الجدد للتحقق من: “الإنزيم اللازم لاستخدام فينيل ألانين في أجسامهم، وهو حمض أميني ضروري للنمو والتطور الطبيعي”، ويخضع الطفل لهذا الفحص وهو بعمر لا يقل عن 72 ساعة ولا يزيد عن شهر واحد “لضمان سرعة تشخيص الإصابة بالأمراض”. 

ووفقاً لـلدكتورة صفاء، فإن فحص الغربلة يتضمن 13 تحليلاً، ولا يتوافر منها في العراق سوى ثلاثة تحاليل فقط، هي “الكاليكتوسيميا والفينيل كيتون يوريا والغدة الدرقية”، ويتم إجراؤها في مختبرات حكومية موجودة فقط في بغداد وكربلاء. 

أما بالنسبة إلى مختبرات الفحص الأهلية، فقد جمعت معدّة التحقيق من خلال تواصلها مع عدد منها في بغداد، معلومات تفيد بإرسالها العينات إلى مختبرات أخرى خارج البلاد تُجري فحص الغربلة وتتضمن كل التحاليل المتعلقة بأمراض التمثيل الغذائي، ولذلك فإن أجورها تكون مرتفعة، وتتطلب النتائج وقتاً قد يمتد لأسابيع أو أشهر. 

وبالعودة إلى الدكتورة صفاء، فإنها توضح آلية الفحص: “تُسحب أربعة نقط دم من كعب قدم الطفل، ثم ترسل إلى المختبر في منطقة الكرداة في العاصمة بغداد، وبعد اكتشاف الحالة تتم متابعتها من قبل مختبر الصحة المركزي”. 

وتشير إلى أن الفحص في مختبر الصحة المركزي مجاني، وأن ذوي المرضى يلجأون إلى المختبرات الأهلية في حالات عدة، هي: “عدم توافر فحص الإنزيمات الأخرى أو في حالة عدم تنبيههم من الطبيب المتخصص بوجود مختبر حكومي، وأحياناً لا يستقبل المختبر الحكومي الأطفال الذين تتعدى أعمارهم الشهر الواحد، لأن برنامجه محدد بتلك السن فقط”. 

مديرة قسم الغربلة لدى وزارة الصحة الدكتورة مجد قاسم، توضح لمعدّة التحقيق سبب تأخر افتتاح مختبر للغربلة في العراق لغاية سنة 2013، بقولها: “لأن تكلفته التخمينية قليلة لذلك فإن معظم الشركات لا تقدم على تزويد هذا النوع من المختبرات بالأجهزة الطبية، لكن قريباً سيتم التعاون مع شركة عالمية لتزويد مختبر الصحة المركزي بأحدث الأجهزة وإعادة تأهيله وتوسعة البرنامج ليشمل العراق بكامله وليس فقط بغداد وكربلاء”، من دون أن تذكر وقتاً محدداً لذلك.

وتؤكد أن هناك طلبات قُدمت إلى وزارة الصحة لتوفير تخصيص مالي لتوسعة الفحص ليشمل 20 مرضاً، بدلاً من ثلاثة أمراض فقط “أسوة بما هو متوافر في دول أخرى كثيرة”. 

وهي تأمل بأن تتعاون الوزارات في ما بينها لمساعدة مرضى التمثيل الغذائي من خلال “توفير وزارة العمل والشؤون الاجتماعية إحصاءات دقيقة بشأن أعداد المرضى المعاقين، وتزويد وزارة الصحة بها، وتوفير الأغذية المخصصة للمرضى من وزارة التجارة”.

إزاء قلة المختبرات الحكومية الخاصة بالغربلة أو اقتصار التحاليل على ثلاثة أمراض فقط من أصل 13 مرضاً للتمثيل الغذائي، لا يجد ذوو المرضى ولا سيما القادرين على تحمل التكاليف سوى اللجوء إلى المختبرات الأهلية، والأخيرة لا تملك تقنيات إجراء مثل هذه الفحوصات فترسل العينات إلى الخارج، كالأردن أو ألمانيا أو لبنان أو إيران. 

أحمد الطائي(35 سنة) واحد من هؤلاء، منتسب في الجيش العراقي يسكن في منطقة الدورة جنوب العاصمة بغداد، ابنه يوسف (18 شهراً) كان مصاباً بمرض الفينيل كيتون يوريا، نصحه طبيبه المعالج أواخر 2022 بإجراء فحص في مختبر أهلي اسمه (الريادي) في منطقة الكرادة، فاكتشف أن تكلفته تبلغ قرابة المليونين ونصف المليون دينار تقريباً، لأن المختبر “يرسل العينة إلى مختبر آخر في ألمانيا فترتفع التكاليف”. 

 يقول: “نظراً الى عدم توافر المبلغ لدي، أجريت التحليل نفسه بكلفة مليون و650 ألف دينار، لدى مختبر(ألق) في منطقة الكرادة، والعينة أرسلت إلى مختبر في الأردن، لكن الطبيب المعالج رفضه وأصر على إجراء الفحص في المختبر الذي حدده وقمت بذلك بالفعل”.

ولأن العلاجات أو نوعية الحليب وكميته لا تحدد أو تصرف من وزارة الصحة إلا في ضوء نتائج الفحص المخبري، الذي يشترط أن يكون بتاريخ حديث ويبين الوضع الراهن للمريض، كان على أحمد انتظار نتيجة الفحص في المختبر الذي أصر عليه الطبيب، إلا أن “الصغير يوسف توفي قبل وصول نتيجة الفحص من ألمانيا بأيام قليلة”، يقول الأب بكثير من الحزن.

مطالبات ذوي المرضى

نعود إلى جنان كاظم، مجدداً، لنجد أنها اعتمدت على نفسها في البحث والتقصي عن مرض التمثيل الغذائي بتواصلها الدؤوب مع أطباء متخصصين من خارج العراق، لتجمع الكثير من المعلومات عن  أسبابه والطرق السليمة لتغذية طفلتيها المصابتين (شيرين وآيات).

تقول إنها في فترة تفشي فيروس كورونا عام 2020 شهدت صعوبة بالغة في العثور على الحليب الطبي، فأنشات صفحة على “فيسبوك” باسم (آيات) للوصول إلى متبرعين، وشيئاً فشيئاً تحولت إلى صفحة توعوية لمرضى التمثيل الغذائي، واكتشفت بمرور الأيام أعداداً كبيرة للمصابين جاوزت الـ 1000 طفل في عموم البلاد، على حد قولها.

تواصلت مع ذوي الكثير منهم لتوجههم إلى:”الطرق الصحيحة لتحضير الطعام، وإيجاد بدائل عن الحليب والطعام المخصص للمرضى لعدم توافرهما، وكيفية حساب وحدات البروتين التي تختلف من مريض الى آخر”.

وعلى الرغم من حظر استيراد الحليب وتداوله محلياً ودولياً، إلا أن جنان توصلت إلى طريقة لتوفيره مع العلاج والغذاء، عبر شرائه بطريقة تقول إنها “خاصة من تركيا”، وتتضمن قائمة مشترياتها الشهرية نحو عشرين عبوة حليب سعة 500 غرام، بسعر 57 دولاراً للعبوة الواحدة، إذ إن “آيات تحتاج إلى عبوتين منها كل ثلاثة أيام، وشيرين لم تعد بحاجة إليه”.

وتشتري 500 غراماً من المعكرونة المخصصة لمرضى التمثيل الغذائي بسعر 35 دولاراً، وهو  السعر ذاته للكيلوغرام الواحد من الأرز، بينما سعر الكيلوغرام من الدقيق يبلغ 17 دولاراً، وحبة الدواء الواحدة المخصصة للفينيل كيتون يوريا تبلغ قيمتها  7 دولارات.

نظمت جنان، عبر حسابها الفيسبوكي وبمساندة من وسائل إعلام محلية، حملات للمطالبة بتوفير الحليب لنحو ألف مصاب بأمراض التمثيل الغذائي في البلاد، وقدمت طلباً باسمهم إلى وزارة الصحة التي ردت في بيان أكدت فيه توقيعها عقود استيراد 14 نوعاً من الحليب الطبي بقيمة مليون وربع المليون دولار. 

غير أن ذوي المرضى ومن ضمنهم جنان كاظم، عدوا ذلك مجرد وعد قد لا يتحقق، ونظموا في شباط/ فبراير 2024 اعتصاماً أمام مقر الوزارة في بغداد مطالبين بتوفير الحليب.

وأطلقت جنان عبر “فيسبوك” حملة بعنوان “أنقذوا مرضى التمثيل الغذائي“، وجهت خلالها نداءات إلى رئاسة مجلس الوزراء وإلى عدد من نواب البرلمان، لمساندة أهالي المصابين، وطالبت وزارة الصحة بتوفير حصصهم من الحليب المتأخرة عن عامي 2023 و

2024

يفيد كثر من ذوي المرضى بأن الوزارة  تتوقف عن توفير الحليب لفترات طويلة تمتد لأشهر، وأنهم يعانون وبشدة جراء ذلك، وأكدوا أن أطفالاً مرضى توفوا أو أصيبوا بإعاقة دائمة جراء عدم حصولهم على حصصهم المقررة من الحليب. 

وتُرجع مديرة قسم الغربلة لدى وزارة الصحة الدكتورة مجد قاسم، توقف الوزارة المتكرر عن توزيع الحليب الطبي إلى “مشاكل تظهر في بنود العقود وعملية الشحن وضعف التخصيصات المالية”، وتؤكد أن الوزارة لا يمكنها توزيع الحليب إلا بعد إجراء عملية الفحص، وهي عملية “تتأخر أشهراً عدة في العادة”.

والدة الطفلة (ريحانة 6 سنوات) المصابة بمرض الفينيل كيتون يوريا Pku، من مدينة الحرية في بغداد، تتهم أطباء في العيادات الخاصة بتقديمهم “آمالاً كاذبة وعلاجات زائفة للمصابين بأمراض اضطرابات التمثيل الغذائي، لجهل معظمهم بالمرض”، حسب تعبيرها. 

وتشكو من توقف وزارة الصحة عن تسليم المرضى حصصهم من الحليب الطبي منذ عامين كاملين. تمسك طرف عباءتها السوداء وتقول بانفعال: “أنا ربة بيت وزوجي عامل بأجر يومي ولم يتبق لي سوى هذه العباءة لأبيعها، وثمنها لن يغطي سعر عبوة حليب واحدة، التي يصل سعرها إلى 300 دولار”.

تناولت ريحانة قبل تجاوزها عامها الثاني حليباً اتضح أنه منتهي الصلاحية، أدى إلى تدهور حالتها وإصابتها بالغثيان والإسهال، بعد ذلك امتنعت الطفلة وكردة فعل لا إرادية منها، عن تناول أي نوع آخر من أنواع الحليب.

تقول أمها: “اضطررنا إلى تغذيتها عن طريق الأنف بأنبوب يصل إلى المعدة بحليب بديل بلغت تكلفة العبوة الواحدة منه 100 دولار لا تكفي سوى ليومين فقط، واستمر الحال لأشهر حتى غرقنا بالديون”.

طفل آخر عمره ثلاث سنوات اسمه عباس، من منطقة الكاظمية شمال بغداد، عانى من تأخر في النطق والحركة مع إصابته بحالات إسهال مستمرة، وتباينت تشخيصات الأطباء الذين أخذته أمه إليهم، حتى اكتشفت في شهر آذار/ مارس 2024 بعد فحوصات أجريت له في تركيا، أن الطفل مصاب بمرض الفينيل كيتون يوريا Pku.

وتشكو الأم وهي ربة بيت بدورها، من عدم صرف الحصة المقررة لعباس من الحليب، “ابني يصرخ من الألم والجوع، فنضطر لإطعامه طعاماً عادياً،  فيصاب بالتشنجات الشديدة أو الإغماء، وأخاف أن يصاب بعوق في الدماغ أو يشل كما حدث لأطفال آخرين مصابين بمرضه”.

يُذكر أن ذوي المرضى يدفعون مبلغاً رمزياً مقداره 6000 آلاف دينار، لاستلام الحليب من وزارة الصحة حال توافره، الذي تحدّد كميته لكل طفل حسب وزنه وعمره، ويُمنح كما أسلفنا على أساس فحص مختبري جديد.

 وتتراوح كمية الحصة شهرياً بين 4 إلى 8 علب، غير أنه لا يوزع بانتظام، كما لا توفر الوزارة سوى أنواع محددة من الحليب لا تتوافق مع جميع مرضى اضطرابات التمثيل الغذائي. 

حليب خاص بالمصابين بـ PKU

معاناة في عموم البلاد

معاناة ذوي أمراض التمثيل الغذائي، تكاد تكون واحدة في جميع المحافظات العراقية، إذ اطلعت معدّة التحقيق على قصص الكثيرين منهم والمصاعب التي يواجهونها في سبيل الحصول على الطعام الخاص  من حليب وقمح وسواهما، فضلاً عن الأدوية والفحوصات المخبرية، والافتقار إلى البنى التحتية لاحتواء المرض والكوادر الطبية المتخصصة للتعامل معه.  

جيهان علوان (40 سنة) من محافظة بابل جنوب العاصمة بغداد، تقول بحيرة: “لا يوجد مركز نستلم منه الحليب في بابل، وكنا نضطر للذهاب إلى بغداد (90كيلومتراً) ثم قدمنا طلباً لاستلامه من كربلاء (61 كيلومتراً)”.

كما أن مختبرات التحليلات اللازمة لمرضى التمثيل الغذائي غير موجودة في بابل، لذلك تضطر لأخذ ابنتها فاطمة (ثلاث سنوات) المريضة بـ Pku إلى مختبرات أهلية في بغداد “وإذا لم نجر التحليل بتاريخ جديد لا نستلم الحليب”، مشيرة بذلك إلى أن الفحوصات الحديثة شرط من الشروط التي تضعها وزارة الصحة أمامها لتسليمها حصة الحليب “مع أنها لا توزعه بشكل مستمر”، تقول بحيرة. 

أم فاطمة ربة بيت وزوجها عامل بناء، ولا يملكان المال الكافي، وبسبب ذلك عجزا عن توفير الحليب والغذاء والعلاج لابنتهما لما يقرب من سنة كاملة، ما أدى إلى تدهور حالتها الصحية. 

وفي البصرة أقصى جنوب العراق، تغالب أم سيف (28 سنة) دموعها وهي تتحدث عن طفلها (سيف 4 سنوات) المصاب بمرض التمثيل الغذائي من نوع ( MSUD ) الذي يُعد شديد الخطورة، ويصيب الطفل بضمور الدماغ: “أجريت تحليل الكشف عن المرض في عام 2020 في مختبر الفيحاء وبتكلفة بلغت 100 دولار، وهو المختبر الوحيد الذي كان يُجري هذا التحليل في البصرة حينها وتم غلقه لاحقاً من دون معرفة الأسباب!”.

تواجه أم سيف مشكلة أخرى، وهي تكاليف جلسات العلاج الطبيعي لتقليل التشنجات الواجب اجراؤها بنحو يومي لابنها وعلى مدى الحياة، تبلغ تكلفة الجلسة اليومية 17 دولاراً، أي 510 دولارات في الشهر، وتقول: “كما يتطلب علاج سيف مجموعة من مقويات الأعصاب وعلاج الصرع وأيضاً أدوية مضادة للتشنجات”.

تضاف إلى كل ذلك التكلفة العالية للحليب النادر الذي عانت كثيراً للحصول عليه، ولا سيما خلال أول سنتين من عمر :”حصلت عليه لمرة واحدة فقط مجاناً بعد سفري المرهق إلى بغداد، وبعدها كنت أشتريه من السوق السوداء، والآن المشكلة تدور بشأن توفير الطعام الخاص به”. 

وفي محافظة ميسان جنوب البلاد، تبرز مشكلة عدم توافر الأطباء المتخصصين، وقد دفعت الطفلة نور الهدى (6 سنوات) ثمن ذلك؛ وفقاً لوالدتها التي تقول إن الأطباء غير المتخصصين عجزوا عن تشخيص حالتها، فأصيبت “بتلف الدماغ نتيجة التشخيص الخاطئ”.

كما لا يتوافر في مدينتها مختبر لفحص الغربلة ولا مركز لتوزيع الحليب أو العلاجات، وتشير إلى أنها تتكبد مشاق السفر إلى بغداد (320 كيلومتراً) والانتظار الطويل لإجراء الفحوصات في مستشفى الكاظمية. 

تؤمن والدة نور مبالغ النفقات من خلال بيع الخبز الذي تعده في المنزل، وتعيل به كذلك زوجها المصاب بإعاقة عصبية ويعجز عن العمل. 

في شمال غرب البلاد حيث مدينة الموصل (405 كيلومترات شمال بغداد)، يقول أبو آيات (35 سنة) كاسب يعمل بأجر يومي، إنه نشر قبل أشهر في مجموعة على “فيسبوك” خاصة بمرضى التمثيل الغذائي شيئاً عن حالة ابنته آيات (سنتان) التي أصيبت بنوبة تشنجات وتقيؤ مستمر لعدم توافر الحليب المخصص لمرضى (MSUD) في الموصل. 

ويروي كيف تفاعل معه أهالي المرضى قائلاً: “حصلت على عبوة حليب، جلبها لي شخص من المدينة ذاتها بعد منتصف تلك الليلة، وأنقذ بها ابنتي، بعدما كنت قد فقدت الأمل بنجاتها”، مشيراً إلى معاناة ذوي المرضى، وصراعهم اليومي لتأمين ما يُبقي أطفالهم المرضى على قيد الحياة، ولا سيما عندما تتوقف وزارة الصحة عن توزيع الحصص المقررة من الحليب. 

وفي مستشفى روبرين في مدينة أربيل في إقليم كردستان، كانت مينا التي لا يتجاوز عمرها السنة، ترقد في حجر والدتها وعلامات الإرهاق والمرض بادية على وجهها، تقول الأم بشيء من الحدة: “منذ عام 2020 لم نستلم حصة الحليب والعلاج سوى مرة واحدة في أربيل”، وتذكر أن ما يتحصل عليه زوجها عامل البناء من أجور، لا يغطي مصاريف الحليب والعلاج.  

وتشير إلى أن تكلفة التحاليل التي تُجريها لمينا كل ثلاثة أشهر، تبلغ 200 دولار “نحصل على الحليب الطبي المهرب من إيران، فنحن هنا نواجه صعوبة كبيرة لعدم السماح بدخوله عبر الحدود، كما لا تتوافر في الإقليم تحاليل الغربلة ولا يوجد أطباء متخصصون”.

تداعيات نفسية

جولة معدّة التحقيق في محافظات العراق جعلتها تتوصل إلى حقيقة مفادها أن أعداد المصابين بأمراض اضطرابات التمثيل الغذائي في تزايد، وذلك بسبب زواج الأقارب الشائع في البلاد، وأن هناك حاجة ملحة الى زيادة الاهتمام بالاختبارات الجينية والبحثية في العراق، لرصد الأمراض هذه في وقت مبكر، وبث الوعي لدى الأهالي.

إذ ثبت لها من خلال حواراتها معهم أن غالبيتهم العظمى لم يكونوا يعرفون شيئاً عن اضطرابات التمثيل الغذائي، إلا بعد اكتشاف إصابات أبنائهم أو تفاقمها، وذلك بسبب غياب التشخيص الدقيق، وأنهم واقعون تحت تأثير ضغوط نفسية جسيمة جراء ذلك. 

المتخصص في الطب النفسي ذو الفقار اللهيبي، يقول: “إن زواج الأقارب يتسبب أحياناً في ظهور أمراض وراثية كاضطرابات التمثيل الغذائي، وإذا لم يتم الكشف عن هذه الأمراض في الأسبوع الأول من الولادة، ويُغذّى الطفل بحليب خاص بحالته فإنه يتعرض للإعاقة الذهنية”.

ويشير إلى أن مرض الفينيل كيتون يوريا Pku الشائع في العراق على سبيل المثال، يؤدي مع كل أسبوع تأخير في معالجته “إلى تراجع معدل الذكاء لدى الطفل المريض”. 

ويستدرك “حتى مرض الفينيل كيتون يوريا، يتكوّن من نوعين، النوع الأول هو الكلاسيكي (الشديد) وهنا يكون الإنزيم ضئيلاً أو مفقوداً كلياً، ما يؤدي إلى ارتفاع نسبة الفينيل ألانين مسبباً ضرراً أكبر بالدماغ، والثاني، معتدل يكون فيه الإنزيم موجوداً لكن يؤدي وظيفته بصورة أقل فعالية،ما ينتج نسبة أقل من الفينيل ألانين، مسبباً ضرراً أقل للدماغ”. 

ويؤكد حاجة مرضى التمثيل الغذائي إلى علاج نفسي بنحو مستمر “نظراً لتعرضهم للضغط النفسي والتنمر من الأهل والغرباء، كما يعانون من الضرر العصبي النفسي والعضوي والضغوطات من العائلة، إضافة إلى معاناتهم من الضمور والصرع وفقدان النطق”. 

ويُلقي الطبيب ذو الفقار باللائمة على الأطباء الذين يشخّصون اضطرابات التمثيل الغذائي بنحو خاطئ، “هناك على سبيل المثال من يشخص مرض الفينيل كيتون يوريا على أنه توحد، ولكنه في الحقيقة يشبه التوحد وعلاجه النفسي يكون مختلفاً تماماً”. 

ويقول: “خوف أهالي مرضى التمثيل الغذائي من أن يصاب مواليدهم الجدد بالمرض عينه، يُثقل كواهلهم كثيراً وينعكس بالمجمل على صحتهم النفسية”.

وتلفت خبيرة مرض التوحد نور الطائي من العاصمة بغداد، إلى أن  دراسات طبية توصلت إلى أن حالات التنمر التي يواجهها مرضى اضطرابات التمثيل الغذائي هي بسبب “رائحتهم المميزة التي تشبه رائحة الطيور أو الفئران، وذلك بسبب تراكم البروتين في الجسم، وأيضاً بسبب معاناتهم من صعوبة النطق و تغير لون جلودهم وشعر رؤوسهم”. 

أم رزان (سنة 33) ربة بيت من منطقة العبيدي شرق بغداد، لا تريد إنجاب مزيد من الأطفال، بسبب تجربتين خاضتهما، الأولى خاصة بابنتها رزان (5 سنوات)، المصابة بمرض التمثيل الغذائي الوراثي (MSUD). 

وقبلها، فقدانها ابنها أحمد وهو بعمر 18 شهراً فقط، “لم يكتشف الأطباء مرضه مبكراً ولم نكن نعرف أصلاً أي شيء عن المرض، وما يتوجب أن نطعم به الصغير”، لهذا هي ترى أن إنجاب طفل آخر يعني إصابته بالمرض ذاته بنحو مؤكد، لذلك تستبعد الفكرة من ذهنها بنحو قطعي. 

تمتلئ عيناها بالدموع وتقول: “أصعب شيء تواجهه الأم أن يكون فلذة كبدها مريضاً ولا تعرف كيف تساعده”، معربة بذلك عن معاناتها النفسية، وتضيف بكثير من الحزن: “أشعر أصلاً بتأنيب الضمير لأنني وزوجي أورثنا لطفلينا المرض، ولا يستريح لي جفن من قلقي وخوفي المستمرين من أن تلقى المسكينة رزان مصير شقيقها أحمد نفسه”.

ملاحظة: عند كتابة هذا التحقيق، كان سعر صرف 100 دولار أميركي في أسواق بغداد يساوي (153 ألف دينار)، مع العلم أن السعر الرسمي من البنك المركزي هو (132 ألف دينار) مقابل 100 دولار.

أُنجز التحقيق بإشراف شبكة “نيريج” للتحقيقات الاستقصائية ضمن منحة “زمالة ميدان”. 

28.10.2024
زمن القراءة: 17 minutes

“كانت تعاني من فرط الحركة وصعوبة في النطق مع تقوس الساقين، وتتألم باستمرار، وبدلاً من معالجتها، تسبب الأطباء في تدهور حالتها، بسبب وصفهم علاجات وأطعمة هي أصلاً محظورة على مرضى التمثيل الغذائي، كاللحوم والبقوليات وغير ذلك، وقد تبين ذلك متأخراً جداً”.

عديلة شاهين – نيريج

 لم تكن جنان كاظم (43 سنة)من منطقة سبع البور غرب العاصمة بغداد، تدري بأن مرض ابنتها الكبرى شيرين (14 سنة) سيغير مجرى حياتها ويقلبها رأساً على عقب.

إذ اكتشف الأطباء في آب/ اغسطس 2018، إصابة الصغيرة بمرض التمثيل الغذائي من نوع(pku) الذي يُعرف بأنه اضطراب وراثي نادر، يجعل الأطعمة العادية سامة للدماغ، ويسبب إعاقات عصبية دائمة للأطفال وهم بأعمار مبكرة، أو يكون مميتاً في حال لم يتم تداركه بحليب طبي ومن ثم أطعمة خاصة مع علاجات تؤخذ على مدى الحياة.

تقول جنان بنبرة حزن: “كان الأوان قد فات عندما اكتشفنا علتها وهي في الثامنة من عمرها، فقد أصيب دماغها بالتلف جراء تداعيات المرض المدمرة”، تأخذها لحظة شرود قبل أن تضيف: “كان لا بد من إجراء فحص طبي خاص اسمه الغربلة خلال الساعات الأولى من ولادتها، وهذا لم يكن متوافراً في العراق حتى سنة 2013”.

“المشكلة أن الأطباء أنفسهم لم يكونوا يعرفون به” تضيف جنان، وهي تتذكر كيف أنها عرضت شيرين على الكثير من الأطباء الذين شخصوا الأعراض الظاهرة عليها: “وفقاً لاجتهاداتهم، وكلها كانت خاطئة” تقول بحدة.

وتتابع: “كانت تعاني من فرط الحركة وصعوبة في النطق مع تقوس الساقين، وتتألم باستمرار، وبدلاً من معالجتها، تسبب الأطباء في تدهور حالتها، بسبب وصفهم علاجات وأطعمة هي أصلاً محظورة على مرضى التمثيل الغذائي، كاللحوم والبقوليات وغير ذلك، وقد تبين ذلك متأخراً جداً”.

قصة جنان لم تنته عند هذا الحد، فلقد تلقت في تموز/ يوليو 2020 معلومات غير سارة من المختبر المركزي في بغداد، أفادت بأن طفلتها الصغرى آيات، وكان عمرها وقتها شهراً واحداً فقط، مصابة بمرض شقيقتها نفسه، وحالتها تستوجب عناية خاصة من حيث التغذية والعلاجات لكي لا يُصيبها ما أصاب شيرين. 

تجربتها مع ابنتيها، ومعاناتها التي تصفها بالمريرة في الحصول على الحليب الطبي غير المتوافر في الأسواق، الذي توزعه وزارة الصحة بنحو غير منتظم، وكذلك ندرة الفحوصات والعلاجات والتخصص الطبي، جعلت منها ناشطة وممثلة مرضى التمثيل الغذائي في العراق.

معدّة التحقيق حاولت عبر تواصلها مع مصادر عدة في وزارة الصحة وأطباء متخصصين، الوصول إلى إحصائية دقيقة بشأن أعداد المصابين بأمراض التمثيل الغذائي في العراق، لكنها لم تحصل على إجابة دقيقة، وقد رجح ناشطون وذوو مرضى أن سبب ذلك يكمن في عدم وجود بيانات متكاملة، فضلاً عن عدم تسجيل جميع الحالات في المراكز الحكومية. 

وهم يُجمعون على ضرورة قيام الجهات الصحية الرسمية بإعداد قاعدة تتعلق بأمراض التمثيل الغذائي، والعمل على تعزيز الوعي بكيفية الوقاية منها والتعامل معها وبدء العلاج مبكراً  والاستمرار فيه لتفادي الإعاقات الذهنية والجسدية الأخرى أو حالات الوفاة.  

الفينيل كيتون يوريا  Pku 

الطبيب الاستشاري المتخصص بطب الأطفال طريف فاضل، يُعرّف أمراض التمثيل الغذائي بنحو عام أنها “مجموعة أمراض تحدث نتيجة وجود خلل في جين معين يؤدي إلى نقص في إنزيمات الجسم”.

ويقول إن هناك المئات من الاضطرابات الأيضية الجينية المختلفة وأعراضها وعلاجاتها متباينة: “لكن معظم إصابات أمراض التمثيل الغذائي الوراثية في العراق هي من نوع  فينيل كيتون يوريا Pku”.

ويُعرّفه بأنه “مرض وراثي نادر ينتج عن خلل في الجين المسؤول عن تكوين الإنزيم اللازم لتحويل الحمض الأميني الفينيل ألانين إلى الحمض الأميني تايروسين المهم في تكوين النواقل العصبية”.

ويشير إلى أن الضرر الناجم عن الفينيل كيتون، يمكن أن يبدأ بعد أسابيع من بدء الطفل بشرب حليب الثدي أو الحليب الصناعي المجفف، وهذا يؤدي إلى “تراكم الفينيل ألانين في سوائل الجسم والدماغ ويسبب مشاكل ومضاعفات صحية عدة، وقد يتأخر التشخيص عند عدم اجراء فحص الغربلة لحديثي الولادة، ما يؤدي إلى تلف في خلايا الدماغ وتكون شدته أكثر كلما تأخر التشخيص”.

ويستدرك متأسفاً: “لا يوجد علاج نهائي لمرض الفينيل كيتون يوريا، ولا بد من اتّباع نظام غذائي يتضمن أطعمة لا تحتوي على الفينيل ألانين، ما يعني أن الأطعمة يجب أن تكون منخفضة البروتين وتجنّب الغنية به مثل الحليب العادي، البيض، الجبن، المكسرات، البقوليات، واللحوم بكل أنواعها”.

ويرى أن النظام الغذائي والطعام الخاص، لابد أن يكونا نهجاً متبعاً على مدى الحياة “صارماً في السنوات الأولى من عمر الطفل، وهي الفترة التي تشهد نمو الدماغ وبناء قدراته الذهنية والعقلية، وبخلاف ذلك فإن زيادة الحمض الأميني تؤثر على الدماغ و فعاليته”. 

ويبين: “بما أن الفينيل ألانين جزء من البروتين ويوجد في الحليب والطعام الغني بالبروتين مثل اللحوم والبيض ومشتقات الألبان، لذا يخضع المريض لبرنامج غذائي خالٍ من هذه المواد وتعويضه ببروتين منزوع الفينيل ألانين على شكل حليب خاص وأغذية خاصة”.  

المتخصص بالأمراض العصبية والعوق العصبي لدى الأطفال الدكتور رائد جبار حسين، يوضح “عندما يعاني الرضيع أو الطفل من اضطراب استقلابي تكون المواد الكيميائية المستخدمة في عملية التمثيل الغذائي، إما مفقودة وإما لا تعمل بشكل صحيح”.

ومع أنه يتفق على أن أكثر أنواع الأمراض الاستقلابية شيوعاً لدى الأطفال في العراق هو “مرض الفينيل كيتون يوريا”، لكنه يؤكد أن هناك أمراضاً أخرى مشخصة “تتشابه أعراضها معه، من أمثلتها: تيروزينيميا، كالاكتوسيميا، نقص انزيم اللوسين  Isovaleric”.

وزارة الصحة العراقية توفر الحليب الطبي المحظور استيراده وتداوله في السوق، وتوزعه بأسعار رمزية على المرضى وفقاً لفحوصات مخبرية يُشترط أن تكون حديثة، تبين حالة كل مريض. 

لكن لا يحصل مرضى التمثيل الغذائي كلهم على الحليب من الوزارة، وذلك لأن كل مرض تمثيل غذائي تخصص له نوعية حليب مختلفة، والوزارة لا توفر سوى أنواع محددة لا تتوافق مع جميع المرضى، هذا فضلاً عن عدم انتظام التوزيع، ولجوء بعض التجار إلى بيعه خلسة في السوق السوداء بأسعار باهظة، وفقاً لشهادات ذوي مرضى قابلتهم معدّة التحقيق.

كما يتوجب على المرضى الذين تتجاوز أعمارهم مرحلة الرضاعة، تناول أطعمة خاصة كما أوضحها الطبيب طريف، وهي ليست في متناول غالبية الأهالي بسبب غلاء أسعارها وندرتها، فيضطرون إلى تغذية الأطفال بطعام عادي، فتحدث لهم مضاعفات مميتة أو تصيبهم إعاقات دائمة.

تكاليف باهظة

وليد مجيد العابدين (30 سنة) موظف حكومي من منطقة المنصور غربي بغداد، لم يكن أمامه من خيار لإنقاذ ابنته أنوار (12 سنة) المصابة بمرض استقلابي وراثي (التمثيل الغذائي) يدعى (propionic academia) سوى السفر المتكرر إلى بيروت لإجراء الفحوصات اللازمة لها هناك والحصول على الغذاء الخاص. 

يقول: “توجد هناك أجهزة فحص مختبرية متخصصة، ولفئة ابنتي المرضية نظام وجدول تغذية يجب اتّباعهما ونظام طوارئ للحالات الحرجة”.

وذكر أن رسم الكشف الطبي في لبنان يبلغ 190 دولاراً و2500 دولار كمعدل تكلفة للفحوصات المختبرية التي يقول إنها ضرورية، لأن العلاج والنظام الغذائي يحددان في ضوئها، كما أن أنوار تحتاج إلى علاج (الكارنتين) بكمية شهرية تبلغ 5000 ملغ، يصل سعرها إلى 175 دولاراً.

دواء الكارنتين

ويبين: “بشكل عام التكاليف تلك مع أجور إقامة لأسبوع واحد وتذاكر طيران تبلغ ما يزيد عن خمسة آلاف دولار”.

يقوم وليد العابدين بتلك الرحلة المكلفة مرة واحدة كل ستة أشهر منذ أن بلغت أنوار الرابعة من عمرها، قبل ذلك كان يجريها كل ثلاثة أشهر. وهو يسافر إلى لبنان مع زوجته وبرفقتهما طفلتهما منذ أن كانت بعمر 12 شهراً.

ويؤكد أن ما توفره مختبرات فحص الغربلة الحكومية في العراق محدود ولأطفال بعمر لا يتجاوز السنة، وفي ما يتعلق بالمختبرات الأهلية المحلية يقول: “أجورها مرتفعة جداً، كما أنها ترسل عينات الدم إلى الخارج ويتأخر وصول نتائج الفحص أحياناً لأكثر من 40 يوماً، لذلك أذهب إلى الخارج بنفسي، وأجري كل شيء بنحو أسرع”.

سبق له أن قدم طلباً إلى الشركة العامة لتسويق الأدوية والمستلزمات الطبية بتاريخ 22/5/2023 لتوفير نوعية الحليب فئة (O.A.C.B) التي تحتاجها أنوار، ويشتريها في العادة من لبنان بسعر يصل إلى 80 دولاراً للعبوة الواحدة، وهي تحتاج إلى ثماني عبوات شهرياً، إلا أن الشركة أجابته بأن نوعية الحليب تلك غير مقرة في وزارة الصحة، أي يتعذر تخصيصها. 

الدكتور حسين أحمد العمار؛ يحمل شهادة الدكتوراه في علوم الهندسة الزراعية، يسكن منطقة الزعفرانية جنوبي بغداد، والد الطفل علي (13) سنة المصاب بمرض الفينيل كيتون يوريا، اختار السفر قبل سنوات إلى إيران لإجراء الفحوصات والحصول على العلاج لابنه، وخلال إقامته هناك اتجه إلى دراسة التغذية السليمة لمرضى التمثيل الغذائي لإنقاذ ابنه والأطفال المصابين الآخرين. 

يقول: “أتواصل الآن مع أهالي المرضى عبر كروب مرضى التمثيل الغذائي، لأنني أجد أنه من الضروري توعية الأهل  والمجتمع الطبي، لأنه لا يزال هناك أطباء لا يوجّهون المرضى أو يزوّدونهم بطريقة التغذية الصحيحة”.

وينوه إلى أن المستشفيات ومراكز الفحص في إيران، تزوّد المرضى بقوائم من الأطعمة المسموح بها والمحظور تناولها: “هذه الخدمة غير متوافرة في العراق، لذا تتفاقم معظم الإصابات بسبب عدم امتلاك الأهالي الوعي الكافي بما هو صحيح من غذاء لمرضاهم”.

يؤكد عدد من ذوي المرضى الآخرين لمعدّة التحقيق، أن بعضهم؛ ولا سيما الميسورين، يسافرون إلى دول تعالج المرضى وتوفر لهم التحاليل والحليب المناسب مثل( تركيا وإيران)، فيحصلون هناك على إقامة دائمة بعد شرائهم عقاراً للسكن، وبموجب ذلك يتم تسجيل الطفل المصاب لدى الجهات الصحية الرسمية، فيستلم الحليب المخصص له وتوفر له العلاجات الخاصة. 

فحص الغربلة

اختصاصية التحليلات المرضية الدكتورة صفاء محمد، تقول إن فحص الغربلة؛ الذي تصفه بالمهم جداً، لا بد من إجرائه على المواليد الجدد للتحقق من: “الإنزيم اللازم لاستخدام فينيل ألانين في أجسامهم، وهو حمض أميني ضروري للنمو والتطور الطبيعي”، ويخضع الطفل لهذا الفحص وهو بعمر لا يقل عن 72 ساعة ولا يزيد عن شهر واحد “لضمان سرعة تشخيص الإصابة بالأمراض”. 

ووفقاً لـلدكتورة صفاء، فإن فحص الغربلة يتضمن 13 تحليلاً، ولا يتوافر منها في العراق سوى ثلاثة تحاليل فقط، هي “الكاليكتوسيميا والفينيل كيتون يوريا والغدة الدرقية”، ويتم إجراؤها في مختبرات حكومية موجودة فقط في بغداد وكربلاء. 

أما بالنسبة إلى مختبرات الفحص الأهلية، فقد جمعت معدّة التحقيق من خلال تواصلها مع عدد منها في بغداد، معلومات تفيد بإرسالها العينات إلى مختبرات أخرى خارج البلاد تُجري فحص الغربلة وتتضمن كل التحاليل المتعلقة بأمراض التمثيل الغذائي، ولذلك فإن أجورها تكون مرتفعة، وتتطلب النتائج وقتاً قد يمتد لأسابيع أو أشهر. 

وبالعودة إلى الدكتورة صفاء، فإنها توضح آلية الفحص: “تُسحب أربعة نقط دم من كعب قدم الطفل، ثم ترسل إلى المختبر في منطقة الكرداة في العاصمة بغداد، وبعد اكتشاف الحالة تتم متابعتها من قبل مختبر الصحة المركزي”. 

وتشير إلى أن الفحص في مختبر الصحة المركزي مجاني، وأن ذوي المرضى يلجأون إلى المختبرات الأهلية في حالات عدة، هي: “عدم توافر فحص الإنزيمات الأخرى أو في حالة عدم تنبيههم من الطبيب المتخصص بوجود مختبر حكومي، وأحياناً لا يستقبل المختبر الحكومي الأطفال الذين تتعدى أعمارهم الشهر الواحد، لأن برنامجه محدد بتلك السن فقط”. 

مديرة قسم الغربلة لدى وزارة الصحة الدكتورة مجد قاسم، توضح لمعدّة التحقيق سبب تأخر افتتاح مختبر للغربلة في العراق لغاية سنة 2013، بقولها: “لأن تكلفته التخمينية قليلة لذلك فإن معظم الشركات لا تقدم على تزويد هذا النوع من المختبرات بالأجهزة الطبية، لكن قريباً سيتم التعاون مع شركة عالمية لتزويد مختبر الصحة المركزي بأحدث الأجهزة وإعادة تأهيله وتوسعة البرنامج ليشمل العراق بكامله وليس فقط بغداد وكربلاء”، من دون أن تذكر وقتاً محدداً لذلك.

وتؤكد أن هناك طلبات قُدمت إلى وزارة الصحة لتوفير تخصيص مالي لتوسعة الفحص ليشمل 20 مرضاً، بدلاً من ثلاثة أمراض فقط “أسوة بما هو متوافر في دول أخرى كثيرة”. 

وهي تأمل بأن تتعاون الوزارات في ما بينها لمساعدة مرضى التمثيل الغذائي من خلال “توفير وزارة العمل والشؤون الاجتماعية إحصاءات دقيقة بشأن أعداد المرضى المعاقين، وتزويد وزارة الصحة بها، وتوفير الأغذية المخصصة للمرضى من وزارة التجارة”.

إزاء قلة المختبرات الحكومية الخاصة بالغربلة أو اقتصار التحاليل على ثلاثة أمراض فقط من أصل 13 مرضاً للتمثيل الغذائي، لا يجد ذوو المرضى ولا سيما القادرين على تحمل التكاليف سوى اللجوء إلى المختبرات الأهلية، والأخيرة لا تملك تقنيات إجراء مثل هذه الفحوصات فترسل العينات إلى الخارج، كالأردن أو ألمانيا أو لبنان أو إيران. 

أحمد الطائي(35 سنة) واحد من هؤلاء، منتسب في الجيش العراقي يسكن في منطقة الدورة جنوب العاصمة بغداد، ابنه يوسف (18 شهراً) كان مصاباً بمرض الفينيل كيتون يوريا، نصحه طبيبه المعالج أواخر 2022 بإجراء فحص في مختبر أهلي اسمه (الريادي) في منطقة الكرادة، فاكتشف أن تكلفته تبلغ قرابة المليونين ونصف المليون دينار تقريباً، لأن المختبر “يرسل العينة إلى مختبر آخر في ألمانيا فترتفع التكاليف”. 

 يقول: “نظراً الى عدم توافر المبلغ لدي، أجريت التحليل نفسه بكلفة مليون و650 ألف دينار، لدى مختبر(ألق) في منطقة الكرادة، والعينة أرسلت إلى مختبر في الأردن، لكن الطبيب المعالج رفضه وأصر على إجراء الفحص في المختبر الذي حدده وقمت بذلك بالفعل”.

ولأن العلاجات أو نوعية الحليب وكميته لا تحدد أو تصرف من وزارة الصحة إلا في ضوء نتائج الفحص المخبري، الذي يشترط أن يكون بتاريخ حديث ويبين الوضع الراهن للمريض، كان على أحمد انتظار نتيجة الفحص في المختبر الذي أصر عليه الطبيب، إلا أن “الصغير يوسف توفي قبل وصول نتيجة الفحص من ألمانيا بأيام قليلة”، يقول الأب بكثير من الحزن.

مطالبات ذوي المرضى

نعود إلى جنان كاظم، مجدداً، لنجد أنها اعتمدت على نفسها في البحث والتقصي عن مرض التمثيل الغذائي بتواصلها الدؤوب مع أطباء متخصصين من خارج العراق، لتجمع الكثير من المعلومات عن  أسبابه والطرق السليمة لتغذية طفلتيها المصابتين (شيرين وآيات).

تقول إنها في فترة تفشي فيروس كورونا عام 2020 شهدت صعوبة بالغة في العثور على الحليب الطبي، فأنشات صفحة على “فيسبوك” باسم (آيات) للوصول إلى متبرعين، وشيئاً فشيئاً تحولت إلى صفحة توعوية لمرضى التمثيل الغذائي، واكتشفت بمرور الأيام أعداداً كبيرة للمصابين جاوزت الـ 1000 طفل في عموم البلاد، على حد قولها.

تواصلت مع ذوي الكثير منهم لتوجههم إلى:”الطرق الصحيحة لتحضير الطعام، وإيجاد بدائل عن الحليب والطعام المخصص للمرضى لعدم توافرهما، وكيفية حساب وحدات البروتين التي تختلف من مريض الى آخر”.

وعلى الرغم من حظر استيراد الحليب وتداوله محلياً ودولياً، إلا أن جنان توصلت إلى طريقة لتوفيره مع العلاج والغذاء، عبر شرائه بطريقة تقول إنها “خاصة من تركيا”، وتتضمن قائمة مشترياتها الشهرية نحو عشرين عبوة حليب سعة 500 غرام، بسعر 57 دولاراً للعبوة الواحدة، إذ إن “آيات تحتاج إلى عبوتين منها كل ثلاثة أيام، وشيرين لم تعد بحاجة إليه”.

وتشتري 500 غراماً من المعكرونة المخصصة لمرضى التمثيل الغذائي بسعر 35 دولاراً، وهو  السعر ذاته للكيلوغرام الواحد من الأرز، بينما سعر الكيلوغرام من الدقيق يبلغ 17 دولاراً، وحبة الدواء الواحدة المخصصة للفينيل كيتون يوريا تبلغ قيمتها  7 دولارات.

نظمت جنان، عبر حسابها الفيسبوكي وبمساندة من وسائل إعلام محلية، حملات للمطالبة بتوفير الحليب لنحو ألف مصاب بأمراض التمثيل الغذائي في البلاد، وقدمت طلباً باسمهم إلى وزارة الصحة التي ردت في بيان أكدت فيه توقيعها عقود استيراد 14 نوعاً من الحليب الطبي بقيمة مليون وربع المليون دولار. 

غير أن ذوي المرضى ومن ضمنهم جنان كاظم، عدوا ذلك مجرد وعد قد لا يتحقق، ونظموا في شباط/ فبراير 2024 اعتصاماً أمام مقر الوزارة في بغداد مطالبين بتوفير الحليب.

وأطلقت جنان عبر “فيسبوك” حملة بعنوان “أنقذوا مرضى التمثيل الغذائي“، وجهت خلالها نداءات إلى رئاسة مجلس الوزراء وإلى عدد من نواب البرلمان، لمساندة أهالي المصابين، وطالبت وزارة الصحة بتوفير حصصهم من الحليب المتأخرة عن عامي 2023 و

2024

يفيد كثر من ذوي المرضى بأن الوزارة  تتوقف عن توفير الحليب لفترات طويلة تمتد لأشهر، وأنهم يعانون وبشدة جراء ذلك، وأكدوا أن أطفالاً مرضى توفوا أو أصيبوا بإعاقة دائمة جراء عدم حصولهم على حصصهم المقررة من الحليب. 

وتُرجع مديرة قسم الغربلة لدى وزارة الصحة الدكتورة مجد قاسم، توقف الوزارة المتكرر عن توزيع الحليب الطبي إلى “مشاكل تظهر في بنود العقود وعملية الشحن وضعف التخصيصات المالية”، وتؤكد أن الوزارة لا يمكنها توزيع الحليب إلا بعد إجراء عملية الفحص، وهي عملية “تتأخر أشهراً عدة في العادة”.

والدة الطفلة (ريحانة 6 سنوات) المصابة بمرض الفينيل كيتون يوريا Pku، من مدينة الحرية في بغداد، تتهم أطباء في العيادات الخاصة بتقديمهم “آمالاً كاذبة وعلاجات زائفة للمصابين بأمراض اضطرابات التمثيل الغذائي، لجهل معظمهم بالمرض”، حسب تعبيرها. 

وتشكو من توقف وزارة الصحة عن تسليم المرضى حصصهم من الحليب الطبي منذ عامين كاملين. تمسك طرف عباءتها السوداء وتقول بانفعال: “أنا ربة بيت وزوجي عامل بأجر يومي ولم يتبق لي سوى هذه العباءة لأبيعها، وثمنها لن يغطي سعر عبوة حليب واحدة، التي يصل سعرها إلى 300 دولار”.

تناولت ريحانة قبل تجاوزها عامها الثاني حليباً اتضح أنه منتهي الصلاحية، أدى إلى تدهور حالتها وإصابتها بالغثيان والإسهال، بعد ذلك امتنعت الطفلة وكردة فعل لا إرادية منها، عن تناول أي نوع آخر من أنواع الحليب.

تقول أمها: “اضطررنا إلى تغذيتها عن طريق الأنف بأنبوب يصل إلى المعدة بحليب بديل بلغت تكلفة العبوة الواحدة منه 100 دولار لا تكفي سوى ليومين فقط، واستمر الحال لأشهر حتى غرقنا بالديون”.

طفل آخر عمره ثلاث سنوات اسمه عباس، من منطقة الكاظمية شمال بغداد، عانى من تأخر في النطق والحركة مع إصابته بحالات إسهال مستمرة، وتباينت تشخيصات الأطباء الذين أخذته أمه إليهم، حتى اكتشفت في شهر آذار/ مارس 2024 بعد فحوصات أجريت له في تركيا، أن الطفل مصاب بمرض الفينيل كيتون يوريا Pku.

وتشكو الأم وهي ربة بيت بدورها، من عدم صرف الحصة المقررة لعباس من الحليب، “ابني يصرخ من الألم والجوع، فنضطر لإطعامه طعاماً عادياً،  فيصاب بالتشنجات الشديدة أو الإغماء، وأخاف أن يصاب بعوق في الدماغ أو يشل كما حدث لأطفال آخرين مصابين بمرضه”.

يُذكر أن ذوي المرضى يدفعون مبلغاً رمزياً مقداره 6000 آلاف دينار، لاستلام الحليب من وزارة الصحة حال توافره، الذي تحدّد كميته لكل طفل حسب وزنه وعمره، ويُمنح كما أسلفنا على أساس فحص مختبري جديد.

 وتتراوح كمية الحصة شهرياً بين 4 إلى 8 علب، غير أنه لا يوزع بانتظام، كما لا توفر الوزارة سوى أنواع محددة من الحليب لا تتوافق مع جميع مرضى اضطرابات التمثيل الغذائي. 

حليب خاص بالمصابين بـ PKU

معاناة في عموم البلاد

معاناة ذوي أمراض التمثيل الغذائي، تكاد تكون واحدة في جميع المحافظات العراقية، إذ اطلعت معدّة التحقيق على قصص الكثيرين منهم والمصاعب التي يواجهونها في سبيل الحصول على الطعام الخاص  من حليب وقمح وسواهما، فضلاً عن الأدوية والفحوصات المخبرية، والافتقار إلى البنى التحتية لاحتواء المرض والكوادر الطبية المتخصصة للتعامل معه.  

جيهان علوان (40 سنة) من محافظة بابل جنوب العاصمة بغداد، تقول بحيرة: “لا يوجد مركز نستلم منه الحليب في بابل، وكنا نضطر للذهاب إلى بغداد (90كيلومتراً) ثم قدمنا طلباً لاستلامه من كربلاء (61 كيلومتراً)”.

كما أن مختبرات التحليلات اللازمة لمرضى التمثيل الغذائي غير موجودة في بابل، لذلك تضطر لأخذ ابنتها فاطمة (ثلاث سنوات) المريضة بـ Pku إلى مختبرات أهلية في بغداد “وإذا لم نجر التحليل بتاريخ جديد لا نستلم الحليب”، مشيرة بذلك إلى أن الفحوصات الحديثة شرط من الشروط التي تضعها وزارة الصحة أمامها لتسليمها حصة الحليب “مع أنها لا توزعه بشكل مستمر”، تقول بحيرة. 

أم فاطمة ربة بيت وزوجها عامل بناء، ولا يملكان المال الكافي، وبسبب ذلك عجزا عن توفير الحليب والغذاء والعلاج لابنتهما لما يقرب من سنة كاملة، ما أدى إلى تدهور حالتها الصحية. 

وفي البصرة أقصى جنوب العراق، تغالب أم سيف (28 سنة) دموعها وهي تتحدث عن طفلها (سيف 4 سنوات) المصاب بمرض التمثيل الغذائي من نوع ( MSUD ) الذي يُعد شديد الخطورة، ويصيب الطفل بضمور الدماغ: “أجريت تحليل الكشف عن المرض في عام 2020 في مختبر الفيحاء وبتكلفة بلغت 100 دولار، وهو المختبر الوحيد الذي كان يُجري هذا التحليل في البصرة حينها وتم غلقه لاحقاً من دون معرفة الأسباب!”.

تواجه أم سيف مشكلة أخرى، وهي تكاليف جلسات العلاج الطبيعي لتقليل التشنجات الواجب اجراؤها بنحو يومي لابنها وعلى مدى الحياة، تبلغ تكلفة الجلسة اليومية 17 دولاراً، أي 510 دولارات في الشهر، وتقول: “كما يتطلب علاج سيف مجموعة من مقويات الأعصاب وعلاج الصرع وأيضاً أدوية مضادة للتشنجات”.

تضاف إلى كل ذلك التكلفة العالية للحليب النادر الذي عانت كثيراً للحصول عليه، ولا سيما خلال أول سنتين من عمر :”حصلت عليه لمرة واحدة فقط مجاناً بعد سفري المرهق إلى بغداد، وبعدها كنت أشتريه من السوق السوداء، والآن المشكلة تدور بشأن توفير الطعام الخاص به”. 

وفي محافظة ميسان جنوب البلاد، تبرز مشكلة عدم توافر الأطباء المتخصصين، وقد دفعت الطفلة نور الهدى (6 سنوات) ثمن ذلك؛ وفقاً لوالدتها التي تقول إن الأطباء غير المتخصصين عجزوا عن تشخيص حالتها، فأصيبت “بتلف الدماغ نتيجة التشخيص الخاطئ”.

كما لا يتوافر في مدينتها مختبر لفحص الغربلة ولا مركز لتوزيع الحليب أو العلاجات، وتشير إلى أنها تتكبد مشاق السفر إلى بغداد (320 كيلومتراً) والانتظار الطويل لإجراء الفحوصات في مستشفى الكاظمية. 

تؤمن والدة نور مبالغ النفقات من خلال بيع الخبز الذي تعده في المنزل، وتعيل به كذلك زوجها المصاب بإعاقة عصبية ويعجز عن العمل. 

في شمال غرب البلاد حيث مدينة الموصل (405 كيلومترات شمال بغداد)، يقول أبو آيات (35 سنة) كاسب يعمل بأجر يومي، إنه نشر قبل أشهر في مجموعة على “فيسبوك” خاصة بمرضى التمثيل الغذائي شيئاً عن حالة ابنته آيات (سنتان) التي أصيبت بنوبة تشنجات وتقيؤ مستمر لعدم توافر الحليب المخصص لمرضى (MSUD) في الموصل. 

ويروي كيف تفاعل معه أهالي المرضى قائلاً: “حصلت على عبوة حليب، جلبها لي شخص من المدينة ذاتها بعد منتصف تلك الليلة، وأنقذ بها ابنتي، بعدما كنت قد فقدت الأمل بنجاتها”، مشيراً إلى معاناة ذوي المرضى، وصراعهم اليومي لتأمين ما يُبقي أطفالهم المرضى على قيد الحياة، ولا سيما عندما تتوقف وزارة الصحة عن توزيع الحصص المقررة من الحليب. 

وفي مستشفى روبرين في مدينة أربيل في إقليم كردستان، كانت مينا التي لا يتجاوز عمرها السنة، ترقد في حجر والدتها وعلامات الإرهاق والمرض بادية على وجهها، تقول الأم بشيء من الحدة: “منذ عام 2020 لم نستلم حصة الحليب والعلاج سوى مرة واحدة في أربيل”، وتذكر أن ما يتحصل عليه زوجها عامل البناء من أجور، لا يغطي مصاريف الحليب والعلاج.  

وتشير إلى أن تكلفة التحاليل التي تُجريها لمينا كل ثلاثة أشهر، تبلغ 200 دولار “نحصل على الحليب الطبي المهرب من إيران، فنحن هنا نواجه صعوبة كبيرة لعدم السماح بدخوله عبر الحدود، كما لا تتوافر في الإقليم تحاليل الغربلة ولا يوجد أطباء متخصصون”.

تداعيات نفسية

جولة معدّة التحقيق في محافظات العراق جعلتها تتوصل إلى حقيقة مفادها أن أعداد المصابين بأمراض اضطرابات التمثيل الغذائي في تزايد، وذلك بسبب زواج الأقارب الشائع في البلاد، وأن هناك حاجة ملحة الى زيادة الاهتمام بالاختبارات الجينية والبحثية في العراق، لرصد الأمراض هذه في وقت مبكر، وبث الوعي لدى الأهالي.

إذ ثبت لها من خلال حواراتها معهم أن غالبيتهم العظمى لم يكونوا يعرفون شيئاً عن اضطرابات التمثيل الغذائي، إلا بعد اكتشاف إصابات أبنائهم أو تفاقمها، وذلك بسبب غياب التشخيص الدقيق، وأنهم واقعون تحت تأثير ضغوط نفسية جسيمة جراء ذلك. 

المتخصص في الطب النفسي ذو الفقار اللهيبي، يقول: “إن زواج الأقارب يتسبب أحياناً في ظهور أمراض وراثية كاضطرابات التمثيل الغذائي، وإذا لم يتم الكشف عن هذه الأمراض في الأسبوع الأول من الولادة، ويُغذّى الطفل بحليب خاص بحالته فإنه يتعرض للإعاقة الذهنية”.

ويشير إلى أن مرض الفينيل كيتون يوريا Pku الشائع في العراق على سبيل المثال، يؤدي مع كل أسبوع تأخير في معالجته “إلى تراجع معدل الذكاء لدى الطفل المريض”. 

ويستدرك “حتى مرض الفينيل كيتون يوريا، يتكوّن من نوعين، النوع الأول هو الكلاسيكي (الشديد) وهنا يكون الإنزيم ضئيلاً أو مفقوداً كلياً، ما يؤدي إلى ارتفاع نسبة الفينيل ألانين مسبباً ضرراً أكبر بالدماغ، والثاني، معتدل يكون فيه الإنزيم موجوداً لكن يؤدي وظيفته بصورة أقل فعالية،ما ينتج نسبة أقل من الفينيل ألانين، مسبباً ضرراً أقل للدماغ”. 

ويؤكد حاجة مرضى التمثيل الغذائي إلى علاج نفسي بنحو مستمر “نظراً لتعرضهم للضغط النفسي والتنمر من الأهل والغرباء، كما يعانون من الضرر العصبي النفسي والعضوي والضغوطات من العائلة، إضافة إلى معاناتهم من الضمور والصرع وفقدان النطق”. 

ويُلقي الطبيب ذو الفقار باللائمة على الأطباء الذين يشخّصون اضطرابات التمثيل الغذائي بنحو خاطئ، “هناك على سبيل المثال من يشخص مرض الفينيل كيتون يوريا على أنه توحد، ولكنه في الحقيقة يشبه التوحد وعلاجه النفسي يكون مختلفاً تماماً”. 

ويقول: “خوف أهالي مرضى التمثيل الغذائي من أن يصاب مواليدهم الجدد بالمرض عينه، يُثقل كواهلهم كثيراً وينعكس بالمجمل على صحتهم النفسية”.

وتلفت خبيرة مرض التوحد نور الطائي من العاصمة بغداد، إلى أن  دراسات طبية توصلت إلى أن حالات التنمر التي يواجهها مرضى اضطرابات التمثيل الغذائي هي بسبب “رائحتهم المميزة التي تشبه رائحة الطيور أو الفئران، وذلك بسبب تراكم البروتين في الجسم، وأيضاً بسبب معاناتهم من صعوبة النطق و تغير لون جلودهم وشعر رؤوسهم”. 

أم رزان (سنة 33) ربة بيت من منطقة العبيدي شرق بغداد، لا تريد إنجاب مزيد من الأطفال، بسبب تجربتين خاضتهما، الأولى خاصة بابنتها رزان (5 سنوات)، المصابة بمرض التمثيل الغذائي الوراثي (MSUD). 

وقبلها، فقدانها ابنها أحمد وهو بعمر 18 شهراً فقط، “لم يكتشف الأطباء مرضه مبكراً ولم نكن نعرف أصلاً أي شيء عن المرض، وما يتوجب أن نطعم به الصغير”، لهذا هي ترى أن إنجاب طفل آخر يعني إصابته بالمرض ذاته بنحو مؤكد، لذلك تستبعد الفكرة من ذهنها بنحو قطعي. 

تمتلئ عيناها بالدموع وتقول: “أصعب شيء تواجهه الأم أن يكون فلذة كبدها مريضاً ولا تعرف كيف تساعده”، معربة بذلك عن معاناتها النفسية، وتضيف بكثير من الحزن: “أشعر أصلاً بتأنيب الضمير لأنني وزوجي أورثنا لطفلينا المرض، ولا يستريح لي جفن من قلقي وخوفي المستمرين من أن تلقى المسكينة رزان مصير شقيقها أحمد نفسه”.

ملاحظة: عند كتابة هذا التحقيق، كان سعر صرف 100 دولار أميركي في أسواق بغداد يساوي (153 ألف دينار)، مع العلم أن السعر الرسمي من البنك المركزي هو (132 ألف دينار) مقابل 100 دولار.

أُنجز التحقيق بإشراف شبكة “نيريج” للتحقيقات الاستقصائية ضمن منحة “زمالة ميدان”.