كشفت وكالة رويترز منذ أيام، نقلاً عن خمسة مصادر مطلعة، أن إيران قررت تقليص وجود قادتها العسكريين في سوريا وسحب قادة الحرس الثوري من الرتب العليا والمتوسطة المنتشرين في البلاد، نتيجة ازدياد تواتر الضربات الإسرائيلية التي حصدت أرواح ستة قادة منذ أيلول/ ديسمبر الفائت، أبرزهم رضي موسوي القيادي في فيلق القدس. ما يعني أن البلد الذي يقود طليعة “محور المقاومة”، لم يعد قادراً على تحمّل التكاليف البشرية لوجوده في سوريا.
على رغم انتهاء “الحرب” في معظم الأراضي السورية التي تقع ضمن سيطرة النظام منذ خمس سنواتٍ تقريباً، بمظهرها العسكري على الأقل، إلا أن الضربات الإسرائيلية شبه اليومية تحرص على ري بذور اضطراب ما بعد الصدمة لدى السوريين، الذين عايشوا عنف الحرب خلال سنواتها التسع، لتؤكد أنهم ليسوا بمأمنٍ بعد، أياً كانت الجهة المسيطرة وبغض النظر عن اللاعب الخارجي الذي ترتهن له؛ إذ لم تعد الحياة في مختلف المدن السورية، ضمن جملة لا تنتهي من الأسباب الاقتصادية والسياسية، تلك التجربة المثيرة أو الدافئة، لساكنيها على الأقل.
في العام الفائت فقط، تم توثيق 63 هجوماً إسرائيلياً على مواقع في دمشق ومحيطها، كما تعاظم عدد تلك الاعتداءات وشدتها منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، إذ أعلن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري أخيراً، استهداف الاحتلال لـ 50 موقعاً لـ”حزب الله” في سوريا منذ بداية الحرب الجارية. وإذ يعتبر قصف مطار دولي بمثابة إعلان حرب من دولة على أخرى في الظروف العادية، تحوّل مطارا دمشق وحلب إلى مادة للسخرية بين السوريين بسبب الاستهدافات الثمانية التي طاولتهما مجتمعين في البضعة أشهر الأخيرة، مُخرجةً كل واحد منهما عن الخدمة مع كل ضربة، داعين الحكومة بتهكّم إلى توفير تكاليف إعادة إصلاحهما في كل مرة.
الأهم من ذلك -وما لا يجب التطبيع معه- هو أن السوريين لم يعودوا ينتظرون ردّاً أو موقفاً يرقى الى حجم الانتهاكات، أو يهدّئ ذُعر من يصحو عليها كل بضعة ليالٍ على الأقل. صار بإمكان أي طفل أن يكتب نسخة من بيان وزارة الدفاع حول “تصدي دفاعاتنا الجوية لأهداف معادية الليلة الماضية”، والرسالتين المتطابقتين المُرسلتين إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن اللتين تلخصان دور وزارة الخارجية الدبلوماسي في البضع سنوات الأخيرة، في تأكيد إدانة سوريا ذلك الهجوم “السافر” واحتفاظها بحق الرد.
أما بالنسبة الى من يعيش رعب تلك الضربات من السوريين، أو يتعرض لخسارة جانبية بفعلها، فهي “نتيجة الصمود وثمنٌ ضروري الدفع لقاء مواقف سوريا”، أو نظامها القائم منذ ستة عقود على وجه الدقة، باعتراف رئيس النظام نفسه في مقابلته الأخيرة مع “سكاي نيوز عربية”، والذي قال إن هذه الاستهدافات هي “استهدافات للجيش السوري بشكل أساسي تحت عنوان الوجود الإيراني”. بل إن هذه الضربات مجرد تحصيل حاصل، فما عاشته سوريا خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية وحربها التي خاضتها ضد “80 دولة” لا يستطيع إحصاؤها أحد، ما هي إلا ثمن موقفها الصامد المعادي والرافض للكيان الصهيوني، بحسب محللي النظام والمتحدثين باسمه.
إقرأوا أيضاً:
وحتى الخامس من أكتوبر الفائت، أي قبل “طوفان الأقصى” الذي “أعاد طرح فلسطين ومسألتها إلى الواجهة العالمية” بيومين فقط، عندما استُهدف حفل تخريج ضباط في الكلية الحربية بحمص خلّف ما يزيد عن مئة ضحية من عوائلهم، هرع النظام وإعلامه إلى القفز إلى الاستنتاج بأن وراء العملية كانت أجهزة الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية التي “تسعى دولها إلى الانتقام من العامل الرئيسي والأساسي -الجيش السوري- الذي أحبط كل مخططاتها، وفي مقدمتها تقسيم سوريا، أو إلحاقها بركب التطبيع مع إسرائيل”.
جاء السابع من تشرين الأول، وبدأت تتساقط معه المسلّمات. وفيما كانت الدول العربية -وحول العالم- تصطفّ وتتخذ المواقف، تنشر البيانات المُدينة لإسرائيل أو الطالبة من الطرفين “تهدئة النفوس” أو حتى الداعمة “لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، لم تجد رئاسة الجمهورية السورية حاجةً الى نشر ما هو أكثر من “بوستر” لخريطة فلسطين التاريخية والمسجد الأقصى، من دون أي كتابة مُرفقة. وكان ذلك أفضل تعبير من الرئاسة على حقيقة حجم موقفها الحقيقي من القضية الفلسطينية، الذي حرصت بأبشع الطرق على تذكير الشعب السوري، والفلسطينيين في سوريا، به لعقود. وربّما ما من مصطلح يدبّ الرعب في القلب السوري أو الفلسطيني المقيم في سوريا أكثر من “فرع فلسطين”.
حتى خلال القمة العربية-الإسلامية “الطارئة” التي عُقدت بعد أكثر من شهر من بدء المأساة، لم يقل الأسد، الذي عُرف بقوة مواقفه الكلامية وتسمية الأمور بمسمّياتها ووضعها في سياقها التاريخي، ما هو أكثر من “تعريف المجرم والضحية، وضرورة زوال هذا الكيان”. فيما أقدمت دولٌ مطبّعة مع إسرائيل على اتخاذ خطوات ومواقف أكثر جدّية، وإن كانت تتقاطع مع مصالحها.
وبينما كانت صحيفة البعث الحكومية تفسّر الضربات الإسرائيلية المتتالية على المطارات والمواقع الحساسة في دمشق وحلب، بأنها “محاولاتٌ لاستفزاز صمت سوريا الاستراتيجي” ضمن إطار “اعتداءات تصدير الأزمة الإسرائيلية”، كانت الوسائل الإعلامية الحكومية تلوي وتحوّر وتخفي المعلومات باحثةً عن انتصارٍ تركبه هنا أو هناك من دون الوقوع في “خطأ” ذكر حركة “حماس” التي وصفها الأسد بالغدر والنفاق في آب/ أغسطس الفائت، والتي تبرّأ منها أركان “محور المقاومة” كافة، واحداً تلو الآخر، بعدما تبلوَر الموقف الإيراني الذي كان صريحاً في عملية التخلّي عن “حماس” وعن أي فصيلٍ آخر “يتمادى” في هجماته، كما فعلت الأسبوع الفائت مع كتائب حزب الله العراقية في أعقاب استهدافها “البرج 22” في الأردن.
ومن المثير للاهتمام في هذا الصدد، أن دمشق، التي لطالما قدمت نفسها في طليعة محور المقاومة، وأن كل ما مرّت به البلاد كان ثمناً لهذا المنصب الذي تبوّأته لتقف في وجه مخططات “الشرق الأوسط الجديد”، والتي وصفها حسن نصرالله بـ “أساس محور المقاومة”؛ متعهداً بمآزرتها إذا تعرّضت للعدوان، تغيب اليوم تماماً عن أي اهتمام من أي وسيلة إعلام أو مركز أبحاث يتحدث عن المحور أو يستعرض أركانه. جولة على عشرات نتائج البحث باللغة العربية أو الإنكليزية عن “محور المقاومة” تعكس دور دمشق المُهمل لصغره في معركة اليوم.
مضى أربعة أشهر على بدء الحرب التي عبثت بـ “جيوبوليتيك” المنطقة، لم تعد هناك مواقف لتتكشّف، ولا مساحة لتغيير مواقف تكشّفت. وشمّاعة “الموقف الثابت من القضية الفلسطينية” التي عُلّق عليها كل فشلٍ سياسي وانتهاكٌ سيادي وانهيارٌ اقتصادي وتشديدٌ أمني شهدته سوريا، باتت صدى لوليّ الأمر الإيراني المُآثر لمصالحه، ولم تعد أولوية أمام معركة البقاء على الكرسي الداخلية.
تحكّم حافظ الأسد بالورقة الفلسطينية لعقود، تطاول على القيادات الفلسطينية وأحدثَ انشقاقاتٍ ضمن الفصائل الفلسطينية وأجهض كل محاولة للسير في مسار، أي مسار، لحلّ القضية الفلسطينية، لكن بقراره نفسه، ولخدمة مآربه وتطلعاته الإقليمية. توجد على أحد مداخل دمشق جدارية بجانب نقطة تفتيش عسكرية تحمل قولاً منسوباً للأسد الأب يقول: “أفضّل أن أورث شعبي قضية يناضلون من أجلها… خيرٌ من أن أورثهم سلاماً مذلّاً يخجلون منه”. ورّث ابنه القضية ذاتها، فلم يناضل ولم يعقد اتفاقية سلام ولم يخجل. وفيما أُتيح له اختبار موقفه الحقيقي منها للمرة الأولى، لم يجد لنفسه حتى مآرب شخصية يسعى إليها. وعندما يهدأ غبار الحرب، ربما سيجد نفسه مضطراً للبحث عن “قضية أسمى” يوكل إليها كل شيء.