قضت المحكمة العسكرية اللبنانية بسجن المتهم الفار شاكر البرجاوي سنة واحدة مع وقف التنفيد لدوره في الاشتباك الذي خاضته جماعته المسلحة في منطقة الطريق الجديدة في مثل هذه الأيام من عام 2014. قتل شخص في الاشتباك وتضررت منازل عدة إضافة إلى ترويع الأهالي ما حمل قوة من الجيش على التدخل للفصل بين أنصار البرجاوي وخصومهم من تيار “المستقبل”.
سنة واحدة في السجن مع وقف التنفيذ لمتهم بمواد من قانون الإرهاب وبالقتل العمد وبالشروع في القتل، بحسب القرار الإتهامي. وهذه جرائم تصل عقوبتها إلى الإعدام.
المحكمة ذاتها أصدرت قبل أسابيع حكماً على الزميلة حنين غدار، يقضي بسجنها ستة أشهر لقولها أثناء ندوة في الولايات المتحدة (في ذات العام الذي شهد معركة البرجاوي في شوارع بيروت)، أن الجيش اللبناني يتعامل بمعايرين مختلفين مع “الإرهابين” السنّي والشيعي.
يجوز هنا البدء بسرد اللائحة الطويلة لأحكام من القضاء العسكري ومن غيره، تبدأ من الحكم بستة أشهر على قاتل الملازم الطيار سامر حنا وصولاً إلى ابقاء مئات السجناء المتهمين بالانتماء إلى تنظيمات إسلامية في السجون لأعوام طويلة من دون محاكمة، واستخدامهم أوراق ضغط على أهاليهم ضمن لعبة سياسية وأمنية تدعو إلى الغثيان.
جديد هذه الممارسة، مهزلة استدعاء ناشطين ومدونين سجلوا ملاحظات سريعة على مواقع السوشال ميديا تتناول الفساد المستشري أو شخصيات سياسية عامة، إلى مقرات الأجهزة الأمنية للتحقيق معهم والذي يترافق عادة مع اهانات وسوء معاملة، مقابل تجاهل عشرات المسلحين الذين نزلوا إلى الشوارع في الأيام القليلة الماضية مطلقين النار في الهواء احتجاجاً على اساءة طاولت زعيمهم. هذا ناهيك عن حملات الشتائم المتبادلة بين أنصار حركة “أمل” وبين مؤيدي “التيار الوطني الحر” التي أعادت أجواء الحرب الأهلية وتفاصيلها في تسونامي من الكلمات النابية والبذيئة تبدو معها تعليقات الناشطين الذين استدعوا إلى التحقيق بمثابة الصلاة والسلام.
ما تقدم ليس أكثر من نقطة في بحر التمييز الذي يمنعه الدستور اللبناني القائل بمساواة المواطنين (المادة رقم7: “كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بينهم”)، لكنه – التمييز- هو السائد من الناحية العملية، حيث يمكن الحديث عن أنواع عدة من القوانين التي تواجه اللبنانيين بحسب انتماءاتهم السياسية والمذهبية والمناطقية وبحسب درجة ولائهم “لمرجعيتهم” الطائفية. وفي بلدنا ثمة تجار مخدرات بلغت شهرتهم الآفاق يجرون مقابلات تلفزيونية ويتبخترون في القرى والبلدات بسلاحهم الكامل من دون أن تمسهم شوكة، وثمة ممثل مسرحي يدعى زياد عيتاني (لا قرابة له مع كاتب هذه السطور) يسجن منذ شهور من دون تحويله إلى المحكمة أو صدور قرار ظني بحقه ومن دون أن تتكلف الأجهزة التي نشرت محاضر التحقيقات معه في الصحف عناء تقديم اثبات مادي واحد على اتهامه بالتخابر مع إسرائيل.
من المدهش حقاً ألا تعني مساواة المواطنين أمام القانون شيئاً للسياسيين اللبنانيين الغارقين في مياومة نفعية محض، لا تقيم وزناً للأسس التي نشأت الدول عليها. ومن الغريب أن تكون هناك منظومات متوازية من العدالة مفصلة على قياس كل مواطن على حدة وفقا لانتمائه ودرجة “قوته” وحاجة الزعامة الطائفية إلى أصوات عائلته، على سبيل المثال. ذلك أن الاختلاف في التعامل القانوني مع اللبنانيين يعني أن التمييز الطائفي لا ينحصر في وظائف الفئة الأولى من الإدارة العامة بحسب الدستور الحريص على التوزان والتعايش، بل يمتد إلى فئات وشرائح تتجاوز الاعتبار الطائفي البسيط إلى الاعتبار الأداتي الذي يسمح للتحالف الحاكم بتصنيف اللبنانيين بين “مفيد” ينبغي الدفاع عنه وعن مصالحه وبين “هامشي” لا قيمة له ولا يشكل وجوده في السجن من دون تهمة أو محاكمة أو تعرضه للإذلال في الإدارات الرسمية أي نقيصة ليس في نظام العدالة اللبناني فحسب، بل في طبيعة تسيير الشأن العام والحياة اليومية.
نظام التمييز الطبقي والطائفي والنفعي في لبنان ينضم إلى السمة العنصرية الطاغية في التعامل مع اللاجئين السوريين والفلسطينيين ومع خدم المنازل الأجانب. ما يعيد الى الذاكرة مقولة جورجيو أغامبان عن الـ “هومو ساسر” المستثنى من القانون والذي يمكن اضطهاده وقتله في أي وقت. بل إن هذه الطريقة في إقامة العدالة بين اللبنانيين (واستطراداً بين غير اللبنانيين المقيمين في هذا البلد) تنطوي على “ابارتهايد” ضمني تفصل نصاله الحادة بين من يحق له التمتع بالقانون وبين من يقع ضحية تفسير وتطبيق اعتباطيين له.
حتى الآن، لم يتمرد الضحايا على الظلم اللاحق بهم لأسباب تتعلق بهامشيتهم وعجزهم عن تجميع اصواتهم واعتراضاتهم وصوغها في مطالب واضحة، من جهة، وبسبب شبكات الزبائنية التي تلقي بواسطتها الجماعة السياسية الحاكمة فتاتها إلى موائد المؤيدين الغافلين.
[video_player link=””][/video_player]