ترى أين اختفى المؤمنون الذين كانوا يسهرون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فجأة؟
من أربع عقود وأكثر وعندما وطأت قدماي أرض مدينة الرياض في رحلة اغتراب مديدة، استقبلتني على سلم الطائرة ليلاً لفحات هواء حارة، وكنت قد تركت أيلول/ سبتمبر في دمشق منذ ساعات وهو يطيّر أوراق الخريف بنسمات باردة واعداً بشتاء طويل.
كان المطار ما زال عبارة عن برّاكات بأسطح من التوتياء ومكيفات جدارية تهدر بأصوات مريعة. وكانت ساحة المطار معلماً مركزياً تتشعب منه الطرق الرئيسية التي تضمّ فعاليات المدينة آنذاك.
ولكن المدينة نمت بسرعة هائلة. كانت الشوارع تُفرش على آلاف الكيلومترات وتُعبّد وتُضاء قبل أن ترتفع الأبنية والأحياء حولها كما تنبثق الفطور البرية فجأة بعد العاصفة. كنا ننام في الليل على ورشات تضع أساسات في الأرض ونصحو في اليوم التالي لنجد عمارة تم بناؤها بالكامل. كان التطور العمراني جنونياً تماماً. وكنت أتابعه بشغف المهندس الذي تتحقق أمام عينه معجزات رآها فقط في الصور والكتب.

و بالشغف ذاته كنت أنظر إلى رجال “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” وكأنهم شخصيات هاربة من مسلسل تاريخي. كانوا يلبسون الأثواب المقصّرة عن الأرض على مذهب السنة حيث يظهر جزء من الساق وقدمان بنعال جلدية حيث أصابع وأظافر غير منتظمة، ذقونهم باللون الأسود مرخاة بدون تشذيب أو باللون الأبيض مضمّخة بالحناء البرتقالي. سحناتهم بدوية أصيلة. ولسانهم يقطر سمّاً. في الأسواق الشعبية وحتى في السوبرماركات القليلة التي كانت قد بدأت بالازدهار في الأحياء الجديدة كانوا ينتشرون قبل مواعيد الآذان للتأكد من الإغلاق ودفع الرجال إلى الصلاة جماعة في المساجد. كان بعضهم يحمل عصياً خفيفة يضرب بها البائعين الذين تأخروا. أما النساء فكن يعاملن كقطيع من النعاج.
ما زالت صيحاتهم ترنّ في أذني.
“غطّي وجهك يا حُرمَة. الزمي بيتك يا حرمة”…
لاحقاً، تحولت الهيئة إلى دوريات نظامية لها مركبات خاصة وفروع في كل حي من الأحياء ويرافق كل منها رجل أمن مسلّح. لكن الوجه المرعب لرجل الهيئة لم يتغير وإن تخلّى عن العصا و أصبح لباسه نظيفاً وأكثر مهابة.
ومن وراء الغطاء الأسود الذي كنت أرخيه على وجهي بوجودهم كنت في قرارة نفسي أؤمن أن هذه البلاد ستتجاوز يوماً ما هذه المواقف التراجيدية. فالسياق التاريخي للتطور نحو الأمام يحتّم ذلك. وآخر ما كنت أتوقعه أن أجد الحسبة ورجال الهيئة في عقر بلادي بعد عقود طويلة.
كيف صدّر الفكر السلفي أفكاره إلى أرياف المدن السورية؟ وكيف سيطر لاحقاً على أحياء وقرى ومدن على كامل خارطة سوريا التي تفخر بعلمانيتها واشتراكيتها؟

في أحد الأيام كنت عائدة من عملي بسيارة أجرة. أوقفني المطوّع (رجل الهيئة) وطلب مني أن أعطيه رقم هاتف زوجي ليتفاهم معه حول سلوكي بالاختلاء بسائق سيارة الأجرة. وفي يوم آخر كاد أن يقبض علي لأنني كنت أمشي في الطريق، واكتشف الرجل أنني ألبس تحت العباءة السوداء ثوباً قصيراً، لا أدري كيف عرف، ربما كشفت الشمس المستور تحت العباءة. ولن أسرد عشرات القصص المماثلة التي تعرضت لها النساء على مدى سنوات طويلة والتي تراوحت بين التهديد والإساءة اللفظية إلى الاحتجاز والسجن عندما يكون الجرم كبيراً مثل ضبط امرأة في مكان فيه اختلاط حتى لو كان مكان عمل أو سوقاً.
هذه الممارسات حذفت بقرار واحد. واختفت الهيئة. ها هن النساء يتحركّن بحرية دون أن يُفرض عليهن زي موحد وقد أعطين حرية السفر بدون كفيل مؤخراً. أعطين حق قيادة السيارات بعد أن شهدنا بعد حرب الخليج الأولى تنكيلاً بمجموعة من السيدات بسبب المطالبة اللطيفة بحق القيادة وذلك عندما قمن بالخروج بمسيرة وهن يقدن سياراتهن في شوارع الرياض.
يبدو أن ثقافة التعصّب وممارسته تحتاج إلى دعم سياسي أولاً. مهما كانت ملاصقة للبيئة الاجتماعية وحتى لو انبثقت عنها مباشرة. بمعنى آخر هل تخلّى رجل الدين عن إيمانهم العميق السابق بأن المرأة يمكن أن تلبس عباءة مزركشة والعياذ بالله؟ وأن قيادة السيارة ليست فعلاَ فاحشاً؟ أم أن كل تلك القناعات المتجذّرة كانت تمثيلية كبيرة يمكن إلغاء عرضها بأمر ملكي؟
الإجابة عن هذا السؤال واضحة بالنسبة إلى مشايخ السلطة، لكن استيعاب التغيير مؤلم بالنسبة إلى جمهور المؤمنين العريض الذي تربّى في المدارس والجامعات على فكرة القوامة على المرأة.
لقد ثبت أن هناك أوهاماً كبيرة عشناها في هذه البقاع لفترات طويلة وأن الوعي كان وما زال غير متوفر بما يكفي بيننا.
هل يمكن أن يخلق الوعي بقرار سياسي ؟ لا، لكنه يمكن أن يبدأ بقرار سياسي. وعلى النساء مسؤولية جسيمة في المطالبة بحرية حقيقية بعيداً من المظاهر التي رسمت المجتمع السعودي كواحة للحرية بفعل المهرجانات الفنية الضخمة وتسهيلات السياحة والسفر. فهناك وراء أسوار البيوت نساء ينتظرن حتى الآن إذناً من ولي الأمر للخروج إلى السوق.
إقرأوا أيضاً: