الرئيس الفرنسي إميانويل ماكرون سيستهل زيارته إلى لبنان في الأول من أيلول بزيارة فيروز. الخبر يقول ذلك. ولا نعرف هل هو خبر دقيق أم خبر زائف (فايك نيوز) آخر يجري تداوله على مواقع التواصل الإجتماعي وتتناقله ايضاً وسائل إعلام محلية وعالمية (روسيا اليوم والعربية والعربي الجديد وغيرها نقلت الخبر). ولكن خروج خبر كهذا يضعنا أمام سؤال وجودي وربما تأسيسي حول لبنان “الفكرة” الذي يزوره ماكرون في مئوية تأسيسه (إعلان دولة لبنان الكبير). ولبنان هذا، الذي علّقه سعيد عقل صخرة في النجم، رفعه الرحبانيان عاصي ومنصور بصوت فيروز إلى مرتبة الوهم: “تاجك من القمح مملكتك السلام، شعبك بيحبّك تتبرد الشمس وتوقف الإيام”، يعيش في الرمزية منذ تأسيسه، وحتى في أفضل فترات رخائه، كان يفتقد إلى الروح كما يقول المؤرخ يوسف السودا: “الرخاء، النقد، المال، الأسعار، البنايات، السيارات، المطار، مصبات البترول، المصارف، الصناعة، التجارة، الفنادق، علب الليل… مادة، مادة. كلها مادة. تبهر العين، تملأ الجيب، تشبع الجسد. أما الروح، أين الروح في كل هذه المظاهر؟ الإستقلال، سيدي، كلمة جوفاء مظلمة إذا لم تنر حروفها أشعة من الروح!”.
اليوم يزور ماكرون بلداً فقد كل هذه العناصر التي ذكرها السودا. فقد رخاءه وبناه التحتية ومصارفه وتجارته وصناعته وسياحته وليله ونهاره، بالإضافة إلى فقدانه الروح. صار بلداً من خراب بلا روح. كان بلداً من ازدهار بلا روح. وكان هناك فيروز. فيروز كانت محاولة من الرحبانيان لإيجاد روح لبنان. وهذه الروح كانت افتعالاً من الوهم. كانت شيئاً من التعويض المعنوي عن الخواء العاطفي للبنان الكبير. حتى في الحرب والتقسيم والمتاريس كانت الروح تحاول ان تعاند وتحضر فوق الجسد المقطّع الأوصال: “بشمالك بجنوبك بسهلك بحبك”. كانت فيروز تغني مع انها تعلم ان “النار والبواريد” كانت “مزروعة عالداير”. ولكنها ايضاً كانت تتأمّل: “قلتلن بلدنا عم يخلق جديد لبنان الكرامة والشعب العنيد”. وهذه البضاعة لم يشترها حتى ابنها زياد الرحباني الذي أخرج مسرحية بعنوان “بخصوص الكرامة والشعب العنيد” سخر فيها من والده وعمّه اللذين يبيعان الوهم في اعمالهما، وسبق له ان “فَرَم” بـ”المولينكس” كل مفهوم “الدلعونا والميجانا وجبال الصوان…” وسواها من الأدبيات الرحبانية في مسرحيته “شي فاشل”.
الزيارة تفترض، بأن العواطف وحدها، مع النوستالجيا إلى زمن التأسيس، قادرة على إنقاذ البلاد من خرابها
فيروز ظلّت تصرّ على حب لبنان كيفما كان، “بجنونك بحبك”. حتى لو أدى هذا الجنون إلى تدمير بيروت عن بكرة ابيها. فكانت تستكمل السردية الفولكلورية نفسها عن ان لبنان “راجع يتعمر”(زكي ناصيف) و”لبنان قطعة سما”(وديع الصافي)، وغيرها من الأوهام الرومانسية التي تصوّر قطعة الأرض الممتدة على 10452 كيلومتراً مربعاً كما لو انها اشبه بقرية تراثية حيث “الخير يهزم الشرّ في نهاية المطاف”، على ما تقول الباحثة خالدة سعيد في كتابها “يوتوبيا المدينة المثقفة”، والذي تقول فيه إن اعمال الرحبانيان، خصوصاً المسرحية الغنائية والفولكلورية، كانت تنتمي إلى “فردوس يكاد ان يغيب في الواقع بسبب التطور الإجتماعي وبدء القرية اللبنانية في الزوال”. وأبعد من التطور الإجتماعي، يحضر “التطور” السياسي للبنان الكيان ليصطدم هو الآخر بصخرة سعيد عقل التي غنتها فيروز ويفتّتها. وهذه الصخرة هي نفسها التي تظهر في مسرحية “الليل والقنديل”، وهي نفسها “جبال الصوّان”، التي تغني فيها فيروز “يا تراب اللي سبقونا/ وعاشوا فيك من مية سنة/ ومن ألف سنة ومن أول الدني”.
لبنان الرحبانيان وفيروز اذاً لا زمان ولا مكان له. أما لبنان ماكرون الذي يزوره الرئيس الفرنسي بمناسبة مئويته، فلا تبدو الزيارة قادرة على فرض تغيير سياسي بقدر غرقها في الرومانسية الرحبانية، اذا صحّ أو لم يصح خبر استهلال ماكرون زيارته بلقاء فيروز. الزيارة تفترض، بأن العواطف وحدها، مع النوستالجيا إلى زمن التأسيس، قادرة على إنقاذ البلاد من خرابها، على قاعدة أن “الوطنية الفنية التي اسس لها الرحبانيان كانت اعمق وأبعد أثراً من الوطنية التي تعلّمها اللبناني في مدارسه وجامعاته ومؤسساته المدنية والحزبية”، كما يقول هاشم قاسم في كتابه “الظاهرة الرحبانية”. وفي اعتقاد قاسم ان الخطاب الفني الرحباني بتجلياته المختلفة “حاول تجاوز الوعي المأزوم من خلال ملء الفراغات والشروخ في الشخصية الوطنية اللبنانية”. هذا تماماً ما يحاول ماكرون فعله، من خلال زيارته الأولى، ومن خلال زيارته الثانية المرتقبة بعد أيام. لقد زار ماكرون فيروز بالفعل في زيارته الأولى، وسيزورها ثانية، حتى لو لم يذهب للقائها في منزلها. كيف؟
في حوار مع غادة السمّان في “الحوادث” (أيلول 1988) تسأل فيروز: “مين أنا؟ وليش جيت؟ وليش صرت هيك؟ بنت مين أنا”؟ يستعير فواز طرابلسي في كتابه “فيروز والرحابنة” ما قاله فلوبير عن بطلة روايته “مدام بوفاري” ليقدّم جواباً على هذه التساؤلات الفيروزية الوجودية: “فيروز هي نحن”. ماكرون بهذا المعنى، يزورنا نحن، نحن اللبنانيين الذين لا نعرف جواباً على كل هذه الأسئلة.