عندما زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بيروت بعيد تفجير المرفأ في عام 2020، ومشى في شارع الجميزة الذي كان أحد أكثر المناطق تضرراً، كان اللبنانيون لا يزالون تحت وطأة الصدمة والفجيعة. هرع يومها، سكان الحي إلى ماكرون الذي تجول بينهم، وانتشرت صورة لسيدة لبنانية تحتضن الرئيس الفرنسي، وهي تبكي وتخاطبه كـ”منقذ”.
كنتُ هناك حينها، ولوهلة انتابني الشعور الجميل ذاته تجاهه، كنا شعباً مكلوماً متروكاً يلملم جروحه، وأتى رئيس دولة أخرى يطمئن علينا، ويمشي بين الناس في شوارع بيروت المدمرة، ويشاركنا الحزن والغضب، ويقدّم لنا الدعم، في ظل غياب تام لأي مسؤول لبناني آنذاك، لا رئيس جمهورية، ولا مجلس نواب أو حكومة، أو حتى وزير نزل حينها إلى الشارع.
في ذروة ذلك المشهد المشحون يومها، وصلتني رسالة من صديقتي في باريس، التي كتبت لي ما يشبه التوبيخ بعد انزعاجها من الاحتفاء، الذي لقيه ماكرون هنا في بيروت، جاء في رسالتها: “ماكرون شخصية مكروهة في فرنسا، ما عنده شعبية، ليه مبسوطين فيه هيك!”، وأكملت غاضبة “هيدا واحد كذاب” وأنهت رسالتها.
بقي كلامها يتردد في أذني، ولكن كان التمسك بالأمل أقوى من صدى ما قالته، أو على الأقل لقد وقعت أنا نفسي أسيرة للمشهد العاطفي آنذاك. كنت كغيري حينها “غريقة متعلقة بقشة”، أرى أمام عيني مدينتي وبيوتها وشوارعها مدمرة جراء انفجار مروّع، بعد أن تركت الطبقة الفاسدة أطناناً من نيترات الأمونيوم مخزنة في مرفأ بيروت قرب مناطق سكنية.
الفساد والإهمال فجّرا المرفأ والمدينة، وأهل مدينتي أصابتهم النيران والشظايا، وغطاهم الدم والموت، وكنا نبحث عن أي سند يقول لنا: “أنا إلى جانبكم”، فكان هذا الشاب إيمانويل ماكرون رئيس جمهورية فرنسا.
مر بعض الوقت، أياماً وأسابيع، وبدأ يتكشف الوجه الذي لم نلاحظه يومها لهذا الرئيس الشاب الوسيم “الحنون”، الذي علّق اللبنانيون آمالاً عليه في إنقاذ لبنان، شيئاً فشيئاً اكتملت حقيقته بأبهى صورتها، وهي الصورة الشهيرة له محاطاً بكافة أقطاب المنظومة السياسية الفاسدة والحاكمة في لبنان، التي زارته في مقر السفير في قصر الصنوبر كأب روحي و”المفوض السامي” الجديد للبلاد.
انكشفت تفاصيل ذاك اللقاء لاحقاً، والذي كان بمثابة تعويم صريح من قبل الرئيس الفرنسي للمنظومة الحاكمة، التي كانت على وشك أن تنهار بعد انفجار مرفأ بيروت جراء فشلها، ونتيجة الغضب العارم الذي كان عليه اللبنانيون تجاهها.
لم نر ماكرون حينها إلا راعياً للمنظومة، وساعياً لتثبيتها وتعويمها من خلال تدوير السلطة، عبر خطة أصر فيها على مواصفات رئيس حكومة يعكس توازنات الطبقة الحاكمة في البلد، من دون الأخذ بالاعتبار الاحتجاجات التي ملأت شوارع بيروت ولبنان في سياق انتفاضة “17 تشرين”.
دعم ماكرون حينها، هو ما ساهم في وصول نجيب ميقاتي إلى رئاسة الحكومة، باعتباره رجل المنظومة المناسب لإتمام الصفقات. وهنا سقطت كل المصالح الوطنية اللبنانية لحساب مصالح الدولة الفرنسية، لتحقيق المكاسب وتوقيع الصفقات لصالح شركات فرنسية في المرفأ والنفط والبريد وغيرها، وفي بلد منهار شبه مفلس.
بالعودة إلى الوراء قليلاً، حين ضغط ماكرون باتجاه تكليف ميقاتي برئاسة الحكومة أيضاً في 2022، كان اسم القاضي نواف سلام هو الاسم المقابل المطروح والوحيد من قبل جمهور “17 تشرين”، والحائز على إجماع عدد من القوى اللبنانية، كرئيس إنقاذ ورجل قانون، وكحل للعبور من دولة الاهتراء إلى دولة المؤسسات، ومن دولة المافيا إلى دولة القانون، إلا أن ماكرون لم يدعم هذا الخيار، بل ساهم مجدداً بالدفع باتجاه ميقاتي.
في 17كانون الثاني/ يناير 2025المشهد يعيد نفسه، لكن من زاوية جديدة ومع اختلاف شاسع في الشكل والمضمون. المشهد يبدأ من شارع الجميزة أيضاً. ماكرون يزور لبنان بعد حرب إسرائيلية طاحنة، وبعد وصاية أميركية لتطبيق القرار 1701 وخلط توازنات إقليمية ساهمت في وصول قائد الجيش جوزاف عون إلى رئاسة الجمهورية، وتكليف القاضي نواف سلام بتشكيل الحكومة.
وسط هذا الواقع الجديد، وصل ماكرون، وشرع يتجول في شارع الجميزة نفسه، الذي زاره قبل أكثر من 4أعوام، لكن هذه المرة من دون دمار. المحال والمباني التي دمرها تفجير المرفأ أُعيد ترميمها، والمقاهي والمطاعم مفتوحة، وماكرون يسير في الشوارع يلتفت يميناً ويساراً، لعله يأمل أن تلتقط الكاميرات مجدداً، مشهد امرأة تهرع إليه كمنقذ وكأنه رئيس لبنان، أو طفل فرح يركض إليه من أي اتجاه، أو طلب ما، لكنه لم يجد نفسه إلا محاطاً بجمع من الصحافيين، والناس تتفرج عليه أثناء استعراضه، كمن يجس النبض في الشارع ذاته الذي استقبله بحفاوة وكأنه رئيس البلاد في 6 آب 2020.
استكمل ماكرون جولته في الجميزة برشاقته المعتادة، “رئيس شاب” ذو ابتسامة لا تخفي عصبيته، متوقفاً عند أحد المقاهي ليحتسي قهوته، لينقذ جولته صاحب مطعم le chef (مطعم قديم كمعلم من معالم الجميزة) متوجهاً إليه بعبارة vive la france أي تحيا فرنسا، ثم يدعوه لتذوق فطائر السبانخ المشهورة لبنانياً، فيتناول الرئيس الفطيرة المنقذة لجولته! .
لوهلة تخيلت هذه المشهدية، احتفالية بالنصر للبنان الجديد الذي حلمنا به طويلاً، والمرأة تضيفه البقلاوة وتقول له انتصرنا نحن كلبنانيين بإرادة وطنية، وأهلاً وسهلاً بك ضيفاً.
أراد اختبار المشهد وتجديد الثقة مع اللبنانيين مرة أخرى، فأتاه الجواب من الشارع، من الحفاوة إلى البرود، إذ عصف “هوا تشرين”، وعصفت إرادة التغيير، وتوحيد الصف، وبماكينة شعبية لم يشهد لها مثيلاً أي استحقاق من قبل، وبمساندة معظم القوى اللبنانية لاتخاذ قرار وطني، بعيداً عن التدخلات الدولية بتكليف نواف سلام، وهذا كان أقوى رد على طموح الرئيس الشاب ماكرون وصديقه ميقاتي.
كانت نهاية مدوية تليق برجل المنظومة، وباتفاق لا يخدم إلا تثبيت الأزمات الحالية، وتخدم مصالح الخارج. مشهدان اختبرهما ماكرون نفسه، يعكسان سياسته الخارجية مع لبنان، التي تدل على ضعف حساسيته تجاه الشعور العام، فالناس ليسوا سذجاً.
كان ليستقبل مجدداً كبطل، لولا إصراره على أن يصبح لاعباً ضمن فريق المنظومة اللبنانية، بعد أن طرح نفسه “مفوضاً سامياً” عليهم، فعوّم السلطة ثم عوّمته معها.
وإن كان واضحاً تلقفه المطالبة الشعبية بالرئيس المكلف نواف سلام، وأتى على وجه السرعة. فهل يأخذ العبرة من شارع الجميزة في بيروت، ورسالة صديقتي في باريس؟