يحاول اليكسي نيكولايف، الذي كان واحداً من 56 مليون روسي أعادوا انتخاب فلاديمير بوتين رئيساً للدولة الروسية في آذار/ مارس الماضي، أن يحسب تكلفة تراجع سعر الروبل مقابل الدولار على دخله الحالي. اليكسي متأكد أن قدرته الشرائية ستقلّ تناسباً مع الارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية والخدمات، ما يحتّم عليه وعلى جميع الروس أن يسارعوا إلى شدّ الأحزمة على البطون، ما دامت عملتهم الوطنية في تدهور مستمر منذ فترة ليست قصيرة. مردّ التدهور العقوبات الأميركية والأوروبية المتزايدة، كما تزعم السلطة، وبسبب السياسات الخاطئة للكرملين وتدخّلاته في الدول الأخرى وفقاً للخبراء الاقتصاديين والمعارضة الروسية.
نيكولايف البالغ من العمر 56 سنة يعمل مصمّم غرافيك، وهو كما أبلغ وكالة “رويترز”، يعشق السفر إلى الخارج ويحتسي النبيذ المستورد غالي الثمن ولكنه يصرّ على توجيه إصبع الاتّهام إلى الغرب، لا إلى بوتين لما تشهده البلاد من أوضاع اقتصادية متفاقمة. ويؤكّد أنه لا يتأسّف على تصويته لمصلحة الرئيس بوتين الذي برأيه الشخص المناسب لقيادة روسيا في هذه الأزمات العصيبة. يقول نيكولايف “من المؤلم والمحزن أن ينتكس بلدنا وتسوء أوضاعنا المعيشية، ولكن هذا لن يغير من موقفي بأن فقدان الروبل أكثر من 10 في المئة من قيمته سببه الرئيسي هو العقوبات الأميركية، ولن تتزحزح قناعتي بأن الغرب يسعى إلى تدمير روسيا”.
يشارك نيكولايف موقفه من عدم مسؤولية بوتين عن تدهور الأوضاع الاقتصادية ملايين من الروس، بحسب استطلاع أجراه مركز (ليفادا) لدراسة اتجاهات الرأي العام في روسيا. يقول الباحث الاجتماعي في المركز ستيبان غونتشاروف لـ”رويترز” إن الناس في الواقع لا يعون جوهر المحرّكات والمؤثرات الدينامية التي تؤطر العمليات المالية والتطورات الاقتصادية، ولهذا فالرئيس بوتين يتمتّع تقليدياً بحصانة وربما بدرع مجتمعية تقيه من سيل الانتقادات الشعبية”.
الروبل والمؤامرة الأميركية
الرأي الغالب لدى معظم الروس هو أن انهيار سعر الروبل ناجم عن مؤامرة أميركية لإضعاف روسيا وتحجيم دورها الجيو- سياسي والاقتصادي ونفوذها ودورها في السياسة الدولية. وبحسب ما نقلته “رويترز” عن المتحدثة باسم الاتحاد الروسي للصناعة السياحية إيرينا تورينا، فإن “وكالات السياحة سجّلت تراجعاً في الطلب على الرحلات السياحية في الخارج بنسبة 10 – 16 في المئة خلال الأسابيع الماضية وذلك بسبب انخفاض سعر الروبل مقابل الدولار الأميركي”. وأضافت: “إن الزبائن الذين لم يسدّدوا الدفعة الثانية من أثمان رحلاتهم سارعوا إلى القيام بذلك مع علمهم بأن العقود التي أبرموها لا تلزمهم بهذا الشيء، ولكنهم ببساطة يريدون أن يتجنبوا احتمال قيام الوكالات باحتساب الفروقات في أسعار الصرف وإرغامهم على دفع مبالغ إضافية، هذا في حين أن من لم يقم بحجز رحلات سياحية قرر تأجيل ذلك، لأنهم سيحتاجون إلى مزيد من الدولارات لمواجهة تكاليف إقامتهم في البلد الذي اختاروه لقضاء إجازاتهم السنوية، ما سيزيد من الكلفة المالية الذي يؤدي بدوره الى مصاعب معيشية لاحقة”.
لا يتوقف الكرملين عن حملاته الهادفة إلى اقناع الروس بأن تفاقم الأوضاع الاقتصادية ناجم عن مؤامرة غربية وليس عن تورّطه في نزاعات خارجية، أو تفشي الفساد في مؤسسات الدولة، أو تسرّب المال العام إلى جيوب الأوليغارشية المقرّبة من بوتين التي تتحكّم بموارد الدولة. وصرّحت الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا بأن “العقوبات الغربية ضد روسيا ليست لها أي علاقة بالدور الذي تلعبه موسكو في نزاعات مثل التي في أوكرانيا أو سوريا، وإنما لأن ما تعمل من أجله واشنطن هو ممارسة المزيد من الضغط على منافسيها الدوليين”. ويظهر من استطلاع (ليفادا) أن الروس بغالبيتهم يشاطرون زاخاروفا هذا الرأي، متأثرين بما تضخّه ماكنة الدعاية الرسمية عبر القنوات التلفزيونية والميديا المموّلة من الدولة التي تكرّس خطابها الرامي لإشعال هستيريا معاداة الغرب في أوساط المجتمع الروسي.
احتكار تدفّق المعلومات
يستقي معظم السكان الأخبار من قنوات التلفزيون المحلي الخمس أو الست التي تخضع لسيطرة الدولة. وبالتالي، تعتبر القضايا والشخصيات السياسية التي لا تظهر على قنوات التلفزيون الرئيسية غير مرئية للجمهور الروسي. كما أن احتكار الدولة للمجال الإعلامي يساعد أيضاً على تصفية أي انتقاد للسلطات والحدّ من عرض المعلومات “غير المرغوبة”، مثل المظاهرات في المناطق الروسية أو الخسائر البشرية في سوريا. وتسمح السيطرة على التلفزيون لبوتين بالبقاء في دائرة الضوء، إضافة إلى تشويه سمعة خصومه السياسيين. كما يستقي معظم الشباب الروسي الأخبار بشكل رئيسي من الإنترنت، لكنهم لا يهتمّون بالسياسة. فهم بحسب المحلّل في الشؤون الروسية ايليان فاسيليف” يعتمدون بشكل كبير للغاية في آرائهم السياسية على البالغين من حولهم، مثل الوالدين والأجداد والأساتذة في المدارس والجامعات، وهو ما يحد من قدرتهم على التفكير بشكل نقدي”. وفي نظر الأغلبية، فإن “بوتين أعاد الهيبة والعظمة إلى روسيا مرة أخرى، لأول مرة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي”. ويرى الباحث بيتر كارابويف “أن تفاقم حدّة التوتّرات مع الغرب ساعد على حشد الدعم وراء الرئيس بالقدر ذاته الذي ساعدت فيه السيطرة على وسائل الإعلام والمجال السياسي على الحفاظ على هذا الدعم حتى الآن”.
الفقر والبحث عن موارد إضافية
إيرينا سيميونوفا مواطنة روسية تقف يومياً عند مدخل محطّة مترو في سان بطرسبورغ لتبيع طماطم معلّبة، وقد اضطرت هذه السبعينية المتقاعدة على غرار كثر من الروس إلى البحث عن موارد إضافية تدعم قليلاً معاشها التقاعدي الزهيد، إذ هي تتقاضى معاشاً شهرياً قدره 12 ألف روبل (نحو 170 يورو) لا يبقى منه بعد دفع الفواتير والأدوية الضرورية لها سوى 4 آلاف روبل أي ما لا يكاد يزيد عن 50 يورو. وتتساءل: “هل يمكن العيش بأربعة آلاف روبل، ولا سيما في مدينة مثل سان بطرسبورغ حيث كل شيء باهظ الثمن؟.”
بعدما كانت نسبة الفقر قد تراجعت من 29 في المئة عام 2000 الى 10.7 في المئة عام 2012 بحسب وكالة (روس ستات) للإحصاءات، رأينا أنها عادت وارتفعت إلى 13.4 في المئة عام 2016، إذ بات عدد الروس الذين يعتبر البنك الدولي أنهم ينعمون بالأمان الاقتصادي (أي عند خط الفقر) يبلغ أقل من نصف عدد سكان البلاد حيث انخفضت نسبتهم الى 46.3 في المئة، أي بتراجع قدره 10 نقاط عن عام 2015. كما يشهد الوضع المعيشي في ضواحي العاصمة بعيداً من ألق موسكو ومظاهر الرفاه الشكلي، صعوبات يشكو منها السكان الذين يؤكدون أن رواتبهم لم تعد تكفي لتأمين احتياجاتهم اليومية على خلفية التدهور المستمر في قيمة الروبل. ونقلت صحيفة (دنفنيك) الصادرة في صوفيا عن المتقاعد غينادي كونتسكوف قوله “الأسعار جنوبية، لم أعد أستطيع شراء أي شيء”. وتشير دراسة أعدها مصرف “كريدي سويس” إلى أن “الـ10 في المئة الأكثر ثراء في روسيا يملكون 77 في المئة من ثروات البلاد، ما يضع روسيا في مرتبة الولايات المتحدة التي تتصدر الدول المتطوّرة من حيث الفوارق بين السكان”.
كراهية أميركا وسلبيات بوتين
مع ذلك، وعلى رغم تفاقم الأوضاع الاقتصادية وتزايد الأزمة الاجتماعية، إلا أن المزاج المعادي للغرب لا يزال يتصاعد بين مواطني روسيا الاتحادية، كما يتضح من استطلاع سابق أجرته (ليفادا) يشير الى أن الولايات المتحدة تحظى بالدرجة الأولى من الكراهية في عيون الروس. في المقابل، بدأت تتبلور اتجاهات تراجع في شعبية بوتين التي كانت أعلى دائماً من أى مسؤول روسي آخر، قد شهدت انخفاضاً فى أربعة أسابيع متتالية منذ حزيران/ يونيو الماضى، فتراجعت من 79 في المئة إلى 72 في المئة، فى حين تزايد الاستياء من 13 إلى 18 في المئة، وفق وكالة “ويكيوم” الروسية لاستطلاعات الرأي. فيما أظهر استطلاع أخرى لوكالة “فوم” في الشهر نفسه أن 54 في المئة من الروس كانوا سيصوتون لبوتين لو أجريت الانتخابات في فترة الاستطلاع، ويعد هذا تراجعاً عن نسبة 62 في المئة، لتصبح بذلك تلك المرة الأولى منذ عام 2014 التي يتراجع فيها هذا الرقم لأقل من 60 في المئة. وهذه الارقام لا تختلف كثيراً عن نتائج استطلاع أجراه مركز “ليفادا”، حيث ظهر أن نسبة المؤيدين لسياسة بوتين الخارجية تراجعت من 22 في المئة في آذار/ مارس 2016 إلى 16 في المئة بحلول تموز/ يوليو الماضي 2018، إضافة إلى أنّ نسبة المقتنعين بأن بوتين يدافع عن المصالح الوطنية للبلاد، تراجعت أيضاً من 25 إلى 17 في المئة. وعزت مجلة “نيوزويك” سبب هذا التراجع فى شعبية بوتين الى قراره غير الشعبوي بإصدار قانون التقاعد الجديد الذي قضى برفع سن التقاعد للرجال والنساء من 60 و55، إلى 65 و63 على التوالي.
التأرجح وعدم الثبات في مواقف الروس من بوتين رفع منسوب الحيرة والارتباك في صفوف المحلّلين ،لا سيما أن استطلاع “ليفادا” أظهر أيضاً تزايداً في نسبة من يعتبر أن بوتين “سياسي ذو خبرة” من 33 إلى 49 في المئة، كما أشاد (30 في المئة) بحزمه، (22 في المئة) ببعد نظره السياسي، بينما أشار الكثير من الروس في الوقت نفسه إلى السمات السلبية للرئيس وسياسته، إذ ذكر 17 في المئة “ارتباطه برؤوس الأموال الكبيرة”، و16 في المئة “بعده عن مصالح الشعب”، و14 في المئة “ارتباطه بسياسيين فاسدين”. وقال الباحث في علم الاجتماع بمركز “ليفادا”، دينيس فولكوف “أن سياسة بوتين الخارجية وتدخل الكرملين في اوكرانيا وسوريا باتت تثير استياء الروس مع تراجع المداخيل الحقيقية ورفع سن التقاعد”. وأضاف: “يردّد الناس الآن لنتوقف عن إنفاق الأموال على دول أخرى، لننفقها داخل البلاد”.
إقرأ أيضاً:
الصحافيّون الروس القتلى كانوا على وشك كشف أمر خطير يخصّ بوتين
كيف أغضبت روسيا إيران وأي مستقبل للعلاقة بينهما في سوريا؟
كيف فضح ذلك الصحافي الذي زُيِّف وفاته عصابات روسيا وجواسيسها؟
مسؤوليّة روسيا في إدلب
“روسيا تاريخي” : كيف يتم تزييف الماضي