على رغم أنّ تنظيم “الدولة الإسلاميّة” (داعش) قد فقَدَ نحو 98 في المئة من الأراضي التي كانت تخضع لسيطرتِه يَوماً ما، إلّا أنَّه قد أصبح جاهزاً للعودة من جديد إلى المناطق ذات الأغلبيّة السنّيّة في العراق وسوريا.
يُعدُّ السبب الأساسيّ في ذلك، وجود صندوق حرب لدى التنظيم، مصحوباً ببراعته في استحداث مصادر متجددة للإيرادات والدخل. اعتاد تنظيم “الدولة الإسلاميّة” أن يعوّل في الغالب على الأراضي التي تخضع لسيطرته -بما في ذلك المدن والمواقع الحضريّة الحصينة- من أجل تكديس مليارات الدولارات وتجميعها، من خلال: الابتزاز وفرض الضرائب وعمليّات السطو وعوائد بيع النفط المنهوب. لكن أثبت التنظيم أنّه قادرٌ على كسبِ المال؛ حتّى إذا لم يسيطر على مراكز ذات كثافة سكانيّة كبيرة.
في أوج سيطرته على الأراضي عام 2015، جمَعَ تنظيم “الدولة الإسلاميّة” نحو 6 مليارات دولار، وهو ما يجعله أغنى جماعة إرهابيّة في التاريخ حتّى الآن. إذاً، كيف بإمكان جماعة مسلّحة جمْع ما يعادل الناتج المحليّ الإجماليّ لدولةٍ قوميّة؟ عندما كان “داعش” يسيطر على بعض الأراضي بالفعل، فإنه قام بإنتاج ثروتِه بالدرجة الأولى من ثلاثة مصادر رئيسيّة: أولاً؛ النفط والغاز، حيث بلَغَ مجموع العائد خلال عام 2015 نحو 500 مليون دولار، معظمه من خلال المبيعات الداخليّة. ثانياً؛ من خلال فرض الضرائب والابتزاز، والتي ساهمَت في جمْع نحو 360 مليون دولار عام 2015. وثالثاً؛ أعمال النهب التي حدثت في الموصل عام 2014، والتي سرَقَ تنظيم “الدولة الإسلاميّة” خلالها نحو 500 مليون دولار من خزائن المصارف.
فقدَ تنظيم “الدولة الإسلاميّة” الآن معظمَ الأراضي التي كان يسيطِر عليها. فقد انحصرت الأراضي التي تخضع لسيطرته، من مساحات تُعادِل تقريباً حجمَ بريطانيا العظمى إلى محاولة النجاة، فيما كان التنظيم تحت الحصار في معاقلَ حصينة في وادي نهر الفرات.
دمَّر “التحالفُ العالمي لمحاربة داعش” التنظيمَ الإرهابيَّ الذي يُعدّ شبهَ دولةٍ في الشرق الأوسط، وجرَّدَ قائدَه أبا بكر البغداديّ من أحلامِه المتمثّلة في إقامة “خلافة إسلاميّة” في قلب المنطقة. ومن دون إمكان الوصول إلى الأراضي –وبالتالي شهد التنظيم انخفاضاً ملحوظاً في مصادر تدفّق الدخل الآتية من الضرائب والابتزاز وبَيع النفط- انخفَضَ تمويل تنظيم “الدولة الإسلاميّة” بصورةٍ حادّة.
لم تَعُد المجموعة –على رغم ذلك- تعتمد، من أجل بقائها الاقتصاديّ، على المناطق التي تُسيطِر عليها. يَرجِع ذلك جزئيّاً إلى أنَّ قيادتَها التي تمكَّنت من النجاة ربَّما هرَّبَت ما يصل إلى 400 مليون دولار خارجَ العراق وسوريا. سوف تسعى الشبكة الموسَّعة للتنظيم إلى غسل هذه الأموال من خلال شركاتٍ صوريّة وهميّة في المنطقة، بخاصّة في تركيا. كما يمكن تحويل بعض النقود إلى ذهب وتخزينِه من أجل بَيعه في المستقبل.
في هذه الأثناء، وحتّى مع انخفاض مدخولات تنظيم “الدولة الإسلاميّة” إلى حدٍّ بعيد، تُعَدّ نفقات التنظيم ضئيلةً مقارنة بما كانت عليه قبل سنة فحسب. فلَم يعُد للتنظيم شبه حكومة تكون مسؤولةً عن الرعاية الصحيّة والتعليم ودفع رواتب البلديّة وتوفير الأشغال العامّة، بما في ذلك خدمات الصرف الصحيّ وجمع القمامة.
ومع مثل هذه الميزانيّة التنفيذيّة المُخفَّضة بشكلٍ كبير، فإنَّ الأموال التي نهبَها التنظيم ستوفر له أموالاً تفيض عن حاجته من أجل البقاء حركةً إرهابيَّةً سريّة، مع تمكينِه من شنِّ حملةٍ مطوَّلة من حرب العصابات في جميع أنحاء العراق وسوريا.
من المرجّح أنْ يُعيد تنظيم “الدولة الإسلاميّة” إلى الأبد استراتيجيّته بالاختفاء قليلاً قبل أن يظهر مرّة أخرى بقوّة، إلى أن تسحب الولايات المتّحدة قوّاتها العسكريّة تماماً أو إلى أن يتمكّن التنظيم مرّة أخرى من استعادة الاستيلاء على ما يكفي من الأراضي بحيث يُعِيد هندسة المرحلة المقبلة من مشروعه لبناء “الخلافة”.
كما عزَّزَ تنظيم “الدولة الإسلاميّة” مقتنياتِه الماليَّة من خلال حافظاتٍ تمويليّة متنوِّعة. وقد استحدثَ موهبةً في جمع الأموال من خلال مجموعةٍ جديدةٍ من الأنشطة الإجراميّة الواسعة، بما في ذلك -على سبيل المثال لا الحصر- الابتزاز، والاختطاف طلَباً للفِدْية، وعمليّات السطو والسرقة، وتهريب المخدِّرات، والاتجار في التحف الأثريّة.
لا تتطلَّب هذه الأنشطةُ السيطرةَ على الأراضي، ولكن ثمَّة مخاطر تتعلّق بفُرادَى المتمرِّدين، الذين يُمكِن -على الأقلّ من الناحية النظريّة- أنْ يُقبَض عليهم. ومع ذلك، فإنَّ فرَصَ تعرُّضِهم للاعتقال ضئيلة، لأنّه حتّى اليوم، ما زالت الخدمات الأمنيّة أو قوات الشرطة في العراق وسوريا غير قادرة على تسيير هذا النوع من الأنشطة الشرطيّة التي من شأنها رَدع الأعمال الإجراميّة واسعة النطاق.
كما يُمكِن للتنظيم أيضاً -في المستقبل القريب- إنعاش مصادر تدفّق الإيرادات والدَّخل التي أصبحت خاملةً، من خلال ابتزاز السكّان الذين يعيشون في المناطق المُحيطة بالأماكن الواقعة تحت سيطرة الحكومة. خلال السنوات التي كانوا يسيطرون خلالها على تلك المناطق، جمَعَ أعضاء تنظيم “الدولة الإسلاميّة” بدِقّة بياناتٍ شخصيّةٍ من السكّان، تضمَّنَت معلوماتٍ مفصَّلة عن الأصول والدخل، إضافة إلى عناوين أفراد العائلة الموسَّعَة. تمُدّ هذه المعلوماتُ الاستخباراتيّة بالغةُ الأهمّيَّة حول السكان التنظيمَ بالمزيد من النفوذ خلال عملية تخويف المدنيّين وابتزازهم، ما يسمح له بتجديد الاحتياطات النقديّة خلال عمليّة إنعاش مصادِره الماليّة.
إضافةً إلى الابتزاز، هناك طريقة أخرى يستطيع تنظيم “الدولة الإسلاميّة” من خلالها الاستمرار في جني الأموال من دون أن تكون له سيطرة فعليّة على الأرض، وذلك من خلال ابتزاز القائمين على عمليّة إعادة إعمار مدينة الموصل وغيرها من المدن المدمَّرة. كان التنظيمان اللذان سبقا تنظيمَ “الدولة الإسلاميّة”- وهما “تنظيم القاعدة في العراق” وتنظيم “دولة العراق الإسلاميّة”- قد أتقنَا فنّ ابتزاز شركات الإعمار وغيرها من الهيئات التي تحاول المساعدة في إعادة بناء المدن والبلدات والقرى التي تسعى إلى التعافي من سنوات الصراع الطائفيّ الوحشيّ في العراق. لم يسيطر هذان التنظيمان في أيّ وقتٍ من الأوقات على أراضٍ باتّساع ما كان يقع تحت قبضة تنظيم “الدولة الإسلاميّة” يوماً؛ إلّا أنّهما كانا بين عامَي 2006 و2009 قادران على جمع مبالغ كبيرة من المال، عبر ابتزاز شبكات توزيع النفط المحلّيّة والإقليميّة.
من المرجّح جدّاً أن تتكرّر هذه العمليّة نفسها خلال الأعوام المقبلة، فيما يسعى المجتمع الدوليّ إلى مساعدة العراق وسوريا للتعافي من عقدٍ من الحرب الأهليّة. وعلى رغم النيات الحسنة المصاحبة للدعم الموجّه لإعادة الإعمار في المناطق التّي مزّقتها الحرب في العراق وسوريا، إلّا أنّه قد يكون هدفاً جذّاباً لتنظيم “الدولة الإسلاميّة”، ومن المحتمل أن يساعد في تمويل عودته من جديد، وهو الأمر الذي يمكن للتنظيم تحقيقَه من دون أن يسيطر على مساحاتٍ كبيرة من الأراضي. فقد يكون من السهل على التنظيم أن يبدأ في اختلاس الأموال من عقود إعادة الإعمار؛ فما يحتاجه المسلّحون ببساطة هو تأسيس علاقات مع المسؤولين المحلّيّين المرتبطين بمشروعات إعادة الإعمار وإدماج نشطائهم وعملائهم في سلسلة التوريد، وجني مبالغ ماليّة شتى في كلّ خطوة من خطوات العمليّة. يعمل المسلّحون على التأكّد من أن المشروع سيكتمل في نهاية المطاف، وإنْ بثمنٍ مُبالَغٍ فيه، لتوفير بعض الأموال التي تُختلس في جيوب المسلّحين.
لم يتوقّف تنظيم “الدولة الإسلاميّة” عن السعي إلى السيطرة على الأراضي؛ ففي محيط دير الزور، يسعى إلى استعادة السيطرة على حقول النفط تمهيداً للهجوم المعلّق مِن قِبَل “قوّات سوريا الديموقراطيّة” (SDF). ووِفقاً لتقريرٍ صادرٍ عن مجلس الأمن في تمّوز/ يوليو، استعاد التنظيم السيطرة على حقول النفط شمال شرقي سوريا، ويواصل استخراج النفط لاستخدامِه من قِبَل مقاتليه ولبيعِه لأطراف محلّيّة. ولكن حتّى بعد استعادة تلك الحقول بشكلٍ حتميّ – بمساعدة القوّات الأميركيّة- فإنّ التنظيم ببساطة سيعود إلى الأنشطة الإجراميّة التي لا تتطلّب الحفاظ على سيطرةٍ فعليّةٍ على الأراضي.
إنّ المزج بين تلك الأصولِ الحاليّة والقدرةِ المستقبليّة على كسب المال؛ سيسمح للتنظيم بإعادة تجميع مقاتليه وتنظيمهم، الأمر الذي قد بدأ بالفعل في أجزاء مختلفة من العراق وسوريا. ففي شوارع كركوك شمال العراق، أقام المسلّحون نقاط تفتيش وهميّة للتربّص بقوّات الأمن العراقيّة التي تعمل في المنطقة منذ أوائل العام الحالي. وفي أجزاء أخرى من العراق، منها ديالي وصلاح الدين، تنشط الخلايا النائمة لتنظيم “الدولة الإسلاميّة” في إجراء عمليّات المراقبة والاستطلاع في تلك المناطق لتحديد أفضل الطرق للعمل هناك، قبل إعادة تنظيم تشكيلات صغيرة من المقاتلين. وعلى رغم هجمات الغارات الجويّة الأميركيّة، تبقى بؤر المسلّحين متحصّنة في مدينتَي هجين -شمال البوكمال- ودشيشة في سوريا.
يميل الغرب إلى رؤية الحرب ضدّ تنظيم “الدولة الإسلاميّة” في مراحل منفصلة، مسنودةٍ بإدارات رئاسيّة أو تغييرات طفيفة في السياسات. ولكن بالنسبة إلى الجهاديّين، فإنّ الأمر عبارة عن حملة واحدة طويلة الأمد، منذ الأيّام الأولى للمؤسّس أبو مصعب الزرقاويّ. وإلى أنْ تُدرِك الولايات المتّحدة وحلفاؤها هذا الأمر، فإنّ من المرجّح أنْ يُعيد تنظيم “الدولة الإسلاميّة” إلى الأبد استراتيجيّته بالاختفاء قليلاً قبل أن يظهر مرّة أخرى بقوّة، إلى أن تسحب الولايات المتّحدة قوّاتها العسكريّة تماماً أو إلى أن يتمكّن التنظيم مرّة أخرى من استعادة الاستيلاء على ما يكفي من الأراضي بحيث يُعِيد هندسة المرحلة المقبلة من مشروعه لبناء “الخلافة”.
*كولين بي كلارك – خبير في العلوم السياسيّة بمؤسسة راند للأبحاث والتطوير، وهي مؤسسة أميركيّة غير ربحيّة وغير حزبيّة، وزميل مساعد في المركز الدوليّ لمكافحة الإرهاب في لاهاي، هولندا.
هذا المقال مترجَم عن موقع foreignpolicy.com ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي.