قبل يومين، أُسدلَ الستار على حفل Joy awards في العاصمة السعودية الرياض، المهرجان الذي أصبح علامة عربية بارزة في السنوات الخمس الأخيرة. من كل البلدان العربية والعالمية، حجّ الفنانون إلى القبلة الفنية الجديدة، إلا إن حضور الممثلين السوريين كان مميزاً، ليس بسبب سقوط النظام منذ شهر، بل لكثافة الحضور.
حضر الممثلون السوريون في غالبيتهم الحفل، لا بل وصل الحضور السوري إلى مخرجين منفّذين ومدرّبي ممثلين، الى درجة كان بالإمكان إحصاء الممثلين السوريين الغائبين عن المهرجان وليس الحاضرين!!
المفارقة في حضور الممثلين السوريين بهذه الكثافة هي في كم الأعمال السورية المرشّحة والحاضرة في المهرجان، والتي تمثلت بعمل واحد فقط، وهو مسلسل “ولاد بديعة”، وحضور متفرّق في أعمال الدراما المعربة التي تندرج تحت نوع الأعمال المشتركة Pan Arab (سوريون ولبنانيون)، حتى أن جائزة أفضل ممثل التي حصدها الممثل السوري سامر اسماعيل كانت عن دوره في مسلسل “العميل” المُعرب وليس عن دوره في “ولاد بديعة” الذي حصدت مخرجته رشا شربتجي جائزة أفضل مخرج/ة!
يدفع ذلك كله، وتحديداً مع لحظة سقوط النظام، إلى الوقوف أمام الدراما التلفزيونية التي أُنتجت في خضم الثورة السورية، ماذا قالت؟ وكيف قالته؟ وهل فعلاً كانت على مستوى الحدث السوري؟ وهل ما زال التلفزيون يسكن بيت السوريين وعقولهم؟
الدراما التلفزيونية كجزء من المنظومة أم من النظام؟
القول عن الدراما التلفزيونية إنها جزء من النظام البائد هو قول لا يأخذ بالحسبان العلاقة المعقّدة بين المسلسلات التلفزيونية والمجتمع السوري. هذا النوع من العمل الفني استحال في سوريا إلى أسلوب حياة يومية.
كان المسلسل التلفزيوني هو مرجع أخلاقي ومعرفي وسياسي في المجتمع السوري. لا بل إن الصناعة الدرامية التلفزيونية ولّدت خلال عقود، توتراً مع القطاعات الثقافية والفنية الأخرى في سوريا، حيث طغى حضور الفن التلفزيوني على باقي الفنون، لعلَّ العلاقة المتوتّرة بين العاملين في التلفزيون والعاملين في القطاعات الفنية والثقافية الأخرى تُرَدُّ إلى سيطرة التلفزيون المطلقة على الحياة السورية، والاستيلاء على المفردات وعلى آليات التفكير والتلقّي وتعميم قيم الربح المادي التي فُرضت على المسرح والسينما، البعيدين عن شرط الربح المادي، حسب تعبير المسرحي والأكاديمي زياد عدوان في مقالته “حين يصبح المسلسل السوري هو العمل، ما العمل؟”.
كونها كانت في هذا المقام، توقّع الجمهور السوري أن تنفجر الدراما كما هو حال واقعه المشتعل. فهي إذ قدمت نفسها كمرآة للواقع والتاريخ والمجتمع، كانت هي الماكينة الأولى التي انتظرها السوريون.
وعلى عكس ما سبق، ففيما انطلقت السينما السورية بكل الاتجاهات، وتحديداً الوثائقية، واستمر العمل المسرحي السوري في سوريا ولبنان وكان نشطاً في أوروبا، عجزت الدراما التلفزيونية عن الانفصال عن النظام والابتعاد عنه في سنوات الثوران.
وتحوّلت الصناعة التي غذاها النظام لسنوات، والدعم الذي قدمه، إلى دين في رقبة هذه الصناعة الفنية، وعقبة جدية في محاولة الانفصال عن النظام. والميزة التي حصل عليها العمل التلفزيوني عبر عشرات السنوات غدت مسؤولية، وصار السؤال منذ موسم 2012، ماذا ستقول الدراما التلفزيونية السورية اليوم في خضم الثورة والانفجار؟
هل أنتجت الثورة دراما تلفزيونيّة فاعلة؟
تحتاج الإجابة عن السؤال السابق الى أبحاث ودراسات، لكن في إشارة سريعة، يمكن فرز الأعمال التلفزيونية السورية في هذه الحقبة إلى ثلاثة مجالات وفي كل مجال أنواع مختلفة (كوميديا، تراجيديا، تاريخي…الخ)، الأول هو الأعمال التي قامت ضمن بروباغندا سياسية واضحة، كأعمال نجدة أنزور وجود سعيد، من جهة النظام الأسدي. وكذلك بعض المحاولات المعدودة من جهة دراما المعارضة إن أمكن تسميتها بذلك، كعملَي “وجوه وأماكن” و”ابتسم أيها الجنرال”.
أما النوع الثاني، فهو الأعمال التي خاطرت في مُشاكلة الواقع، وحاولت أن تحاكيه كما فعلت الأعمال الاجتماعية الكبرى في الدراما السورية قبل الثورة، وهذا النوع من الأعمال وقع في مفارقة مستحيلة، مشاكلة الواقع من دون مشاكلة النظام، وهو أشبه بالكلام من دون الكلام.
أما النوع الثالث، فهو الذي نسف الواقع بالكامل، إما عبر نكران حال سوريا والمنطقة، وتقديم واقع موازٍ، سواء في الهروب الى الخلف (كما هي حال دراما البيئة الشامية والتاريخية) أو أنه فضل الهروب الى مكان آخر، أي المسلسلات التي صُورت خارج سوريا، وكان السقف فيها أعلى، وتمكنت من مقاربة الواقع بتحرر محدود من النظام، كما حال الأعمال الاجتماعية السورية التي صُوِّرت في بيروت ومنها (العراب، قلم حمرة، الولادة من الخاصرة 3، غدا نلتقي).
بين هذه المستويات الإجرائية الثلاثة، تتوزع الأعمال الدرامية السورية، وتختلف بتنوّعها. لكن هل بقيت الدراما السورية غير مؤثرة ولم تعد عاملاً في حركة المجتمع والتأثير فيه؟ الإجابة بالطبع لا. بقي التلفزيون مؤثراً وفاعلاً، ولنأخذ على سبيل المثال أشهر المسلسلات في الحقبة هذه، وهو مسلسل “الهيبة” في أجزائه الخمسة، من إخراج سامر البرقاوي وبطولة تيم حسن ومجموعة من الكتاب. بدأت سلسلة “الهيبة” عام 2017، ومن جزئها الأول عملت على تكريس العصابات والعمل المسلّح الخارج عن القانون، وقدمت تجار المخدرات على أنهم أبطال يحمون مناطقهم وعائلاتهم، ووطدت مفهوم الشرف/العِرض وعملت على تمرير العقلية العشائرية القبلية كمرجعية أخلاقية.
إلا أن أسوأ ما قدمته السلسلة، هو تمرير صورة البطل الفحل، جبل شيخ الجبل، الرجل الذي بدّل نساءه في أجزاء العمل كما بدل أعداءه. ورغم أن شخصية رجل العصابات (سكسي) حاضرة في التلفزيون والسينما منذ عقود، إلا أن خطورة شخصية (جبل) أنها أتت في وقت ازدهار صورة (الفحل الشبيح) في المجتمع السوري واللبناني. ولم تُقدم الشخصية على أنها شخصية خطيرة وفوضوية، على العكس تماماً، بُنيت على اعتبارها مرجعاً وقدوة لجيل كامل من (الجبال)!
إقرأوا أيضاً:
صحافة نقدية، صحافة فنية، وجمهور لا يقرأ
إذاً، الدراما التلفزيونية خطيرة، وفاعلة جداً في المجتمع، لكن هل رافقها نقد وقراءات نقدية؟ رغم أنها حاضرة في حياة السوريين ويومياتهم منذ الستينات، ونشطت في التسعينات، لم ينشأ نقد جدي للدراما التلفزيونية إلا في عام 2009، مع تأسيس ملحق (تشرين دراما). قبل ذلك، كان النقد الدرامي التلفزيوني محصوراً في مقالات متفرقة وأسماء صحافية محددة في صفحات المنوعات في الجرائد المحلية والعربية. انفجرت الثورة السورية، أغلق ملحق تشرين دراما عام 2012، هل توقف النقد التلفزيوني في سوريا؟ وهل استمرت المقالات النقدية في دراما سنين النار والموت؟
واحدة من الإجابات الأولية عن غياب النقد التلفزيوني، هي ميوعة الاصطلاحات النقدية في الحقل الدرامي التلفزيوني، على عكس السينما والمسرح. يكفي لنا أن ننظر كيف احتكرت الدراما التلفزيونية كلمة (الدراما) في سوريا، وأزيحت من معناها الواسع لتشير فقط الى الدراما التلفزيونية! أو كيف تم تصدير النجم التلفزيوني، كمثقف وسياسي وعالم اجتماع أحياناً.
التحول الذي أصاب الاصطلاحات، تجاوز النقد حتى وصل إلى اللغة اليومية للسوريين، وذلك ما أشار إليه الشاعر الراحل أمجد ناصر، حينما عبر عن اندهاشه من استخدام السوريين كلمة (العمل) في إشارة فقط الى العمل التلفزيوني، (فإن قال الممثل أو الكاتب أو المخرج لدي “عمل”، فالمقصود بذلك هو المسلسل التلفزيوني حصرياً. أما السينما والمسرح، فيٌطلق عليهما السينما والمسرح).
إلا أن هذا لم يمنع الناقد التلفزيوني من الكتابة، لا بل إن هناك أبحاثاً وكتباً نقدية قرأت الدراما السورية وفككت عناصرها ورصدت أثرها. منها مثلاً كتب الناقد التلفزيوني، وصاحب تجربة ملحق تشرين دراما، ماهر منصور (نقد الدراما التلفزيونية، دراما النار والقلق) أو ملفات نقدية عملت عليها بعض المواقع الصحافية السورية (الجمهورية.نت، حكاية ما انحكت…). لكن هل تُقرأ هذه المقالات والكتب، وهل يقرأها صناع الدراما وممثلوها؟ هل يناقشونها؟ هل يقرأها الجمهور؟ هل هي مؤثرة؟ غالباً لا، بل على رغم أن بعض المقالات كانت شرسة نقدياً، ومكتوبة بحد السكين، إلا أنها لم تنشئ، في 13 عاماً، سجالات تذكر بين المبدع والناقد، أو بين المتلقي والمادة النقدية.
هناك صحافة فنية، وهي مختلفة عن النقد الفني، مهما لبس أصحابها لبوس النقاد، منصات ومواقع فنية عدة، عملت على مدار سنوات على تغطية الدراما التلفزيونية، تغطية صحافية قائمة على عبارات فضفاضة من مثيل (حقق نجاحاً واسعاً، أثار جدلاً كبيراً…) من دون أي قراءة نقدية أو حكم قيمي إلا بالإيجاب والانبهار والإعجاب بالفن والفنان، وبذلك هي صحافة تسويقية أكثر مما هي صحافة نقدية. وتأكد ذلك بعدما رفد هذه الصحافة وعززها عشرات اليوتيوبرز والتيك توكرز بانطباعاتهم الشخصية حول المسلسلات المعروضة والتي تقدم على أنها وجبة نقدية خفيفة.
دراما رمضان 2025
ربما سيكون الموسم التلفزيوني السوري في رمضان المقبل، هو الأكثر حماسة وتسلية، لا لكونه الموسم الرمضاني الأول بعد السقوط النظام، بل لأن كل الأعمال التي صورت أو لا تزال تصوّر في سوريا هي أعمال كتبت وأخرجت وأنتجت في أيام نظام الأسد الأخيرة.
وبحسب طبيعة الصناعة الدرامية، حيث لا مجال إنتاجياً للتوقف، استمرت شركات الإنتاج في تصوير أعمالها، وعادت كاميرات المسلسلات الى التصوير بعد توقف قصير إبان السقوط، لذلك سيلتقي المشاهد مع دراما تلفزيونية سورية خاصة جداً، كُتبت وصُورت بعهد، وستعرض في عهد آخر.
لا مبالغة في القول إن المتلقي للدراما السورية اليوم، وتحديدا المتلقي السوري بعد السقوط، هو متلقي متربص إن أمكننا تسميته في ذلك. متلقي يحمل خزان صور قاسية وهائلة مازالت طازجة في رأسه. لن يكن هينا على العمل الدرامي مشاكلة الواقع ومحاكاته في هذه الحالة الةخاصة.
مثلا، ستشير عناوين مثل “تحت الأرض”، وهو من إخراج مضر ابراهيم وبطولة مكسيم خليل، و”تحت سابع أرض” من تأليف عمر أبو سعدة وإخراج سامر برقاوي، إلى المعتقلات والأقبية التي اكتُشفت مع السقوط الكبير. هل هذه الأعمال عن المعتقلات حقاً؟ هل ستعدّل أو عُدلت لتتكلم عن المعتقلات؟ هل سيتكلم مسلسل “البطل” من إخراج الليث حجو، عن سقوط مفهوم البطل وصعوده في الأيام السورية الماضية؟ وما هي التعديلات التي سيجريها فريق العمل ليواكب الزمن اليومي المنفجر؟ وهل ستنفع أي تعديلات درامتورجية مرتجلة في مراوغة متلقٍّ حاذق، ومترع بالصورة والدراما الحقيقية.
عام 2000، وفي اليوم الأخير من رمضان، عُرضت الحلقة الأخيرة من المسلسل السوري “الخوالي”، إخراج بسام الملا، وهو من أوائل المسلسلات التي أطلقت ما اصطلح عليه لاحقاً بدراما البيئة الشامية.
في الحلقة الأخيرة، يقتاد العثمانيون بطل العمل (نصار ابن عريبي/ بسام كوسا) للإعدام كونه ثائراً. على حافة الموت، وعلى أبواب المشنقة، تنظر خطيبة نصار (لطفية/أمل عرفة) بعينيها تجاهه، فإذ به يشير إليها لتغطي وجهها الذي كشفته أمام الناس. تغطي لطفية وجهها، يبتسم نصار، ويبتسم الجمهور السوري، ويهيئ نفسه للموت سعيداً قبل أن ينقذه ثوار الغوطة. ستعاد اللقطة ذاتها بعد 24 عاماً، لكن ليس في الدراما بل في الواقع، واقعٌ أسسته هذه الدراما وشاركت في نسج شبكة قيمه ومرجعيته.
إقرأوا أيضاً: