fbpx

ما الذي يريده الإسرائيليون من الاجتياح البري للبنان؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نحن الآن، كائناً ما كان موقفنا مما حدث في لبنان، وسواء أكنا ضحايا لـ “مقاوم” ما، أو أنصار لهذا “المقاوم” نفسه، نحن الآن في طريقنا إلى العودة للعب الدور الذي لم يتوقف عن الفتك فينا جيلاً بعد جيل، منذ تأسيس دولة إسرائيل، ودخولنا في حقبة الظلام العسكري الحاكم: مجرد ضحايا جانبية لما يخططه الآخرون، من دون علم من طرفنا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أكتب هذه السطور، والدبابات الإسرائيلية ما زالت تحتشد جنوب خط الحدود مع لبنان. التوقعات تقول إن هناك اجتياحاً برياً مقبلاً، بعد كل التصعيد الذي مارسته الحكومة الإسرائيلية بدءاً من يوم “البايجرز” المشهود. 

وكان كثر، كاتب هذه السطور من بينهم، توقعوا أن ما بدأ في ذلك اليوم ليس إلا توطئة لما هو بعده، وأكثر مرارة منه. وفعلاً، وصلت الأمور إلى ذروتها باغتيال زعيم حزب الله اللبناني، حسن نصرالله. ولكن، هل هذه الذروة فعلاً؟ أم أن الأمر مجرد ذروة من بين ذرى كثيرة متعددة، ستصل بالحكومة الإسرائيلية الحالية إلى ما عبّر عنه رئيسها، بنيامين نتانياهو، غداة يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر: الخريطة السياسية للمنطقة بكاملها ستتغير إثر هذا “الاعتداء”.

إن بدأ الاجتياح الإسرائيلي البري لجنوب لبنان، وهو ما يبدو أنه في طريقه إلى التحقق، فإن مقارنته بما حدث عند الاجتياح السابق، 1982، سيكون خطأ كبيراً، طالما تعودنا على ممارسته بالاستناد إلى تلك “القاعدة” الشهيرة: قياس الغائب على الشاهد. فالزمن، والرجال، والظروف كلها، تغيروا دفعة واحدة، وما عاد أي نوع من القياس يصلح حتى ولو لمقارنة بسيطة. 

الخروج من وصف “ضحية جانبيّة”

نحن الآن، كائناً ما كان موقفنا مما حدث في لبنان، وسواء أكنا ضحايا لـ “مقاوم” ما، أو أنصار لهذا “المقاوم” نفسه، نحن الآن في طريقنا إلى العودة للعب الدور الذي لم يتوقف عن الفتك فينا جيلاً بعد جيل، منذ تأسيس دولة إسرائيل، ودخولنا في حقبة الظلام العسكري الحاكم: مجرد ضحايا جانبية لما يخططه الآخرون، من دون علم من طرفنا، ولا حتى رغبة منا في أن نعلم. وبالتالي، فإن أضعف الإيمان في حالتنا، هو أن نحاول فهم ما يدور، عسانا نستطيع أن نجد لأنفسنا مخرجاً، لن يوجد في أي حال من الأحوال، ونحن نتخبط في الظلام، كعهدنا، وكما أراد الطغاة لنا، دائماً. 

القياس على اجتياح الـ 82 لن يفلح في إكسابنا أية رؤية جديدة بالاستناد إلى كل ما استجدّ. والاستناد إلى هذا المستجد، قد يسعفنا ببعض رؤى، لكوابيس مقبلة لا ريب. وأهمها أن هدف الاجتياح لن يقتصر فقط على إقامة منطقة عازلة تحمي سكان شمال إسرائيل من قذائف حزب الله، التي قد يعود إلى إطلاقها إن أراد استمراراً بأي شكل من الأشكال لـ “مبرر وجوده” كما يراه، أقله أمام داعميه الإيرانيين ضمن الصراع الإقليمي المرير الذي يبدو أنه لن ينتهي بقدر ما سينتقل إلى أفق أكثر سعة ودماراً في آن. 

في كل الأحوال، فإن كل ما حولنا، وما وصل إليه الصراع في لحظته الراهنة الآن يقول بأن حزب الله، وبعد تلك الهزائم والمصائب كلها التي نزلت به، لن يعود إلى سيرته السابقة مع إسرائيل، لو ترك الأمر على حاله منذ اللحظة. لذلك أقدر بأن الهدف من التوغل سيكون أساساً لتحقيق هدف سياسي، هو في صلب مشروع اليمين المتطرف الحاكم الآن في إسرائيل: إيجاد حلّ للكتلة السكانية الفلسطينية المستعصية على الإبادة، أو الترحيل إلى دول مجاورة ترفض استقبالهم. 

الاجتياح، هدفه بالدرجة الأولى إقامة تلك المنطقة البديلة، ونقل الفلسطينيين، فلسطينيو غزة بالدرجة الأولى، إلى تلك المناطق الجديدة وتوطينهم فيها… هذا جنون بالتأكيد… ولكن من قال أن الثلاثي الحاكم في إسرائيل حالياً: نتنياهو، بن غفير، وسموتيرتش، هم بعيدون عن ذلك الجنون ولو مقدار شعرة؟! 

ما يحصل اليوم لا يشبه 2006

لن أطيل في شرح سكرة القوة التي تعيشها النخبة الحاكمة في إسرائيل الآن، جميعنا يعرف التفاصيل، ولو من موقع المهزوم، وربما من هذا الموقع بالذات، يمكننا أن نرى الأمور أكثر وضوحاً من غيرنا. نحن أقرب هنا إلى فهم أولئك “المنتصرين” كوننا ضحاياهم المباشرين، وعلى احتكاك، بلحمنا ودمنا، بسيوفهم. ما يعنيني هنا، الإشارة إلى أمر ممكن يلوح في الأفق، وبإمكان معاتيه النخبة الحاكمة الإسرائيلية أن ينقضوا عليه، ويجيروا آلتهم الحربية الهائلة، شديدة التفوق والعتو، في منطقتنا كلها، لتحقيقه. 

إخلاء جنوب لبنان بالكامل من مدنييه، تحقق أو في طريقه الى التحقق بشكل كامل ما أن تعبر الدبابة الأولى خط الحدود. القوة المدافعة الوحيدة عن المكان، والتي أجبرت جميع اللبنانيين على الخضوع لها بهذه الصفة، وحرمت كثر من المقاومين، من ألوان أيديولوجية وطائفية مختلفة، من القيام بدورهم، حتى ولو اقتضى الأمر قتلهم غيلة.

هذه القوة الآن في أضعف حالاتها، هذا إن لم تنته فعلاً بعد قتل قائدها، إثر سلسلة من الهزائم المدوخة، والاختراقات غير المعقولة، وعلى مدار أيام فقط. راعي تلك القوة الإقليمي، يريد بأي ثمن، حتى ولو كان ماء وجهه، تجنب المصير الذي أوصل بنفسه اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين إليه، وبالتالي ستدخل الدبابات في نزهة غالباً، ولكنها لن تكون من دون ثمن، ندفعه نحن، كاملاً، كالعادة. 

لو اكتفى الإسرائيليون بتدمير خصمهم، وتجريده من سلاحه، وفرض استسلام مر عليه، لما اضطروا لتعريض حياة جندي واحد من جنودهم للخطر، وهو أمر قائم، إذ ستحدث اشتباكات برية لا شك. ما يقومون به الآن، جواً وسبرانياً، كاف لجعل الأمور تصل إلى تلك التسوية المرتجاة، إذ لن يعود بعدها الحزب إلى سابق عهده، إثر غرقه في اشتباك أهلي، أيضاً قادم لا محالة، والحزب قد جرد من أنيابه، التي كان يعض بها خصومه الداخليين في لبنان قبل أي أحد آخر.

الجيش الإسرائيلي ليس بحاجة إلى حشد كل تلك القوة البرية، والتوغل في أماكن، من المرجح أنهم لن يجدوا فيها ذلك الخصم القديم الذي تصدى لهم في تموز 2006. ولكن، إن كان الهدف أبعد من مجرد هزيمة، تحققت فعلياً، لخصم قديم، فإن التأمّل في هدف جديد، قد يكون مجزياً، أقله لنفهم إلى أين نحن يُسار بنا. 

هل سيقبل فلسطينيو غزة، أو أي جزء منهم مهما كان حجمه، وربما، وغالباً، فلسطينيو الضفة بعدهم، هذا المصير؟ بالتأكيد لا… ولكن، وقبل أن نقفز إلى تلك الـ “لا” المجلجة، علينا أن نسأل أنفسنا ما هي الخيارات المتاحة لأولئك الذين فقدوا كل سبل الحياة الممكنة في غزة، القطاع بمدنه كاملة، التي تحولت إلى… غبار؟

 لو أتيح الآن لأي غزاوي أو غزاوية الانتقال إلى مصر، من دون أية خطة مسبقة لتأمين سبل العيش هناك، لما ترددا لحظة واحدة في ذلك، إذ إن العيش في غزة ما عاد ممكناً بأي شكل من الأشكال. وهذا ما قاله كثر إثر كارثة السابع من أكتوبر، ومع بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية في القطاع. قلنا، إن ما يحدث ليس إلا بداية لتحقيق حلم قديم: تهجير قسري لسكان القطاع، أو للنسبة العظمى منهم، إلى مصر أو إلى أي بلاد أخرى. وهذا ما سعى الإسرائيليون إلى تحقيقه، والمطالبة به علناً، عبر جميع متحدّثيهم، منذ تلك اللحظة السوداء التي بدأت فيها عملية الثأر من كارثة السابع من أكتوبر، التي وقعت علينا أكثر بمليون مرة مما وقعت على الإسرائيليين. ثم، هل كان للضحايا رأي في يوم من الأيام؟! 

وحتى لا نخطئ الحساب، نحن، لسنا ضحايا إسرائيل فحسب، بل ضحايا “مقاومينا” أيضاً، وقبل أي أحد آخر. ولكن هذا حديث ما عاد من المجزي الخوض فيه، وكارثة على الأبواب ستقع، خصوصاً وأن التبرير “الأخلاقي” لعملية التطهير المتوقعة- هي دنيئة لا ريب، ولكن من قال إن عدونا ملاك؟!- هذا التبرير سيقول، إن أولئك المهجرين من الجنوب اللبناني قد وجدوا بديلاً لهم في البلدات والقرى السورية القريبة من الحدود اللبنانية، والتي فرض حزب الله سيطرته عليها، والتي لجأ بعضهم إليها فعلاً، ويمكنهم أن يعيشوا هناك في بيئة لا تختلف إطلاقاً عن بيئتهم… علينا ألا ننسى أن المشروع الاستيطاني الإسرائيلي من أساسه بني على هذه الفرضية (عرب هجّروا إلى أرض عربية). فهل هذا ممكن، بعد كل ما خبرناه وعشناه طيلة 76 عاماً من صراع لم ينته، ولم يرد القائمون عليه أن ينتهي أبدا؟! 

ما بعد “الشهادة” و”الرومانسيّة”

لا أدري حقيقة لمَ أكتب هذا الكلام الآن، ولكني، وفي محاولة يائسة من طرفي للخروج من أحد دورين فرضا عليّ وعلى محيطي كله: إما ضحايا أو متفرجين، أحاول القفز إلى دور آخر، ذلك المتعلق بمحاولة فهم ما يدور وتوقع ما قد يلي، عسانا نخرج، ونحن نفكر، بشيء ما ينفعنا، في حال قررنا أن نقول لا. أقله هذه الـ “لا” ستكون مبنية على معرفة من أي نوع. تلك التي لم نحاول اكتسابها مطلقاً، إذ بقينا مصرين على فهمنا السحري للعالم القائم على مبدأ وحيد: لا يموت حق وراءه مطالب! يا لهذه الرومانسية المكتفية بذاتها، لدرجة حولتنا إلى شهداء، أو مشاريع شهداء… تلك الكلمة التي نختارها دائماً للتغطية على كوننا ضحايا ليس إلا. 

وللساخر مما ذُكر أعلاه، أتمنى له من كل قلبي أن ينعم بسخريته، وأنعم معه بحياة ينقصها كابوس إضافي. ولكن، ما شهدناه خلال الأسابيع الأخيرة أقرب إلى أن يكون خيالاً علمياً، من كونه مجرد صراع سياسي بالسلاح، كائناً ما كانت دمويته، خيالاً علمياً مقارنة مع كل قراءاتنا للحدث المدوي الذي تتعلق به كامل مصائرنا في تلك المنطقة التي فعليا أصبحت حقلاً للموت، لم يكن الإسرائيليون وحدهم المتسبّب به. 

الآن، علينا أن نفكر بشكل جدي في احتمالات أشد هولاً، قادمة لا ريب، وإن بأشكال مختلفة، ليس بالضرورة أن تطابق المتوقع أعلاه، ولكنها تبقى كوابيس مع ذلك، ولا نملك بين أيدينا لردها سوى بقايا رطانة مقاومة، لم تثبت الأحداث الأخيرة فقط عجزها، وفواتها، وعدم صلتها بالواقع، بل إن أحداثاً كثيرة جرت، منذ ذلك الاجتياح “القديم”، 1982، لم نفعل شيئاً في قراءتها سوى إعادة إطلاق تلك الرطانة التي جرّدها “أبطال” تلك المقاومة أنفسهم من كل معنى.

 أقل ما يمكن أن نفعله، لنحافظ على بقايا إدراك لدينا، هو أن نحاول أن نفهم، لمَ، وكيف، وصلنا إلى هنا. عسانا، في أيام قد تأتي، أو لا تأتي، نتجنب أن نكون مجرد خسائر جانبية. 

01.10.2024
زمن القراءة: 7 minutes

نحن الآن، كائناً ما كان موقفنا مما حدث في لبنان، وسواء أكنا ضحايا لـ “مقاوم” ما، أو أنصار لهذا “المقاوم” نفسه، نحن الآن في طريقنا إلى العودة للعب الدور الذي لم يتوقف عن الفتك فينا جيلاً بعد جيل، منذ تأسيس دولة إسرائيل، ودخولنا في حقبة الظلام العسكري الحاكم: مجرد ضحايا جانبية لما يخططه الآخرون، من دون علم من طرفنا.

أكتب هذه السطور، والدبابات الإسرائيلية ما زالت تحتشد جنوب خط الحدود مع لبنان. التوقعات تقول إن هناك اجتياحاً برياً مقبلاً، بعد كل التصعيد الذي مارسته الحكومة الإسرائيلية بدءاً من يوم “البايجرز” المشهود. 

وكان كثر، كاتب هذه السطور من بينهم، توقعوا أن ما بدأ في ذلك اليوم ليس إلا توطئة لما هو بعده، وأكثر مرارة منه. وفعلاً، وصلت الأمور إلى ذروتها باغتيال زعيم حزب الله اللبناني، حسن نصرالله. ولكن، هل هذه الذروة فعلاً؟ أم أن الأمر مجرد ذروة من بين ذرى كثيرة متعددة، ستصل بالحكومة الإسرائيلية الحالية إلى ما عبّر عنه رئيسها، بنيامين نتانياهو، غداة يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر: الخريطة السياسية للمنطقة بكاملها ستتغير إثر هذا “الاعتداء”.

إن بدأ الاجتياح الإسرائيلي البري لجنوب لبنان، وهو ما يبدو أنه في طريقه إلى التحقق، فإن مقارنته بما حدث عند الاجتياح السابق، 1982، سيكون خطأ كبيراً، طالما تعودنا على ممارسته بالاستناد إلى تلك “القاعدة” الشهيرة: قياس الغائب على الشاهد. فالزمن، والرجال، والظروف كلها، تغيروا دفعة واحدة، وما عاد أي نوع من القياس يصلح حتى ولو لمقارنة بسيطة. 

الخروج من وصف “ضحية جانبيّة”

نحن الآن، كائناً ما كان موقفنا مما حدث في لبنان، وسواء أكنا ضحايا لـ “مقاوم” ما، أو أنصار لهذا “المقاوم” نفسه، نحن الآن في طريقنا إلى العودة للعب الدور الذي لم يتوقف عن الفتك فينا جيلاً بعد جيل، منذ تأسيس دولة إسرائيل، ودخولنا في حقبة الظلام العسكري الحاكم: مجرد ضحايا جانبية لما يخططه الآخرون، من دون علم من طرفنا، ولا حتى رغبة منا في أن نعلم. وبالتالي، فإن أضعف الإيمان في حالتنا، هو أن نحاول فهم ما يدور، عسانا نستطيع أن نجد لأنفسنا مخرجاً، لن يوجد في أي حال من الأحوال، ونحن نتخبط في الظلام، كعهدنا، وكما أراد الطغاة لنا، دائماً. 

القياس على اجتياح الـ 82 لن يفلح في إكسابنا أية رؤية جديدة بالاستناد إلى كل ما استجدّ. والاستناد إلى هذا المستجد، قد يسعفنا ببعض رؤى، لكوابيس مقبلة لا ريب. وأهمها أن هدف الاجتياح لن يقتصر فقط على إقامة منطقة عازلة تحمي سكان شمال إسرائيل من قذائف حزب الله، التي قد يعود إلى إطلاقها إن أراد استمراراً بأي شكل من الأشكال لـ “مبرر وجوده” كما يراه، أقله أمام داعميه الإيرانيين ضمن الصراع الإقليمي المرير الذي يبدو أنه لن ينتهي بقدر ما سينتقل إلى أفق أكثر سعة ودماراً في آن. 

في كل الأحوال، فإن كل ما حولنا، وما وصل إليه الصراع في لحظته الراهنة الآن يقول بأن حزب الله، وبعد تلك الهزائم والمصائب كلها التي نزلت به، لن يعود إلى سيرته السابقة مع إسرائيل، لو ترك الأمر على حاله منذ اللحظة. لذلك أقدر بأن الهدف من التوغل سيكون أساساً لتحقيق هدف سياسي، هو في صلب مشروع اليمين المتطرف الحاكم الآن في إسرائيل: إيجاد حلّ للكتلة السكانية الفلسطينية المستعصية على الإبادة، أو الترحيل إلى دول مجاورة ترفض استقبالهم. 

الاجتياح، هدفه بالدرجة الأولى إقامة تلك المنطقة البديلة، ونقل الفلسطينيين، فلسطينيو غزة بالدرجة الأولى، إلى تلك المناطق الجديدة وتوطينهم فيها… هذا جنون بالتأكيد… ولكن من قال أن الثلاثي الحاكم في إسرائيل حالياً: نتنياهو، بن غفير، وسموتيرتش، هم بعيدون عن ذلك الجنون ولو مقدار شعرة؟! 

ما يحصل اليوم لا يشبه 2006

لن أطيل في شرح سكرة القوة التي تعيشها النخبة الحاكمة في إسرائيل الآن، جميعنا يعرف التفاصيل، ولو من موقع المهزوم، وربما من هذا الموقع بالذات، يمكننا أن نرى الأمور أكثر وضوحاً من غيرنا. نحن أقرب هنا إلى فهم أولئك “المنتصرين” كوننا ضحاياهم المباشرين، وعلى احتكاك، بلحمنا ودمنا، بسيوفهم. ما يعنيني هنا، الإشارة إلى أمر ممكن يلوح في الأفق، وبإمكان معاتيه النخبة الحاكمة الإسرائيلية أن ينقضوا عليه، ويجيروا آلتهم الحربية الهائلة، شديدة التفوق والعتو، في منطقتنا كلها، لتحقيقه. 

إخلاء جنوب لبنان بالكامل من مدنييه، تحقق أو في طريقه الى التحقق بشكل كامل ما أن تعبر الدبابة الأولى خط الحدود. القوة المدافعة الوحيدة عن المكان، والتي أجبرت جميع اللبنانيين على الخضوع لها بهذه الصفة، وحرمت كثر من المقاومين، من ألوان أيديولوجية وطائفية مختلفة، من القيام بدورهم، حتى ولو اقتضى الأمر قتلهم غيلة.

هذه القوة الآن في أضعف حالاتها، هذا إن لم تنته فعلاً بعد قتل قائدها، إثر سلسلة من الهزائم المدوخة، والاختراقات غير المعقولة، وعلى مدار أيام فقط. راعي تلك القوة الإقليمي، يريد بأي ثمن، حتى ولو كان ماء وجهه، تجنب المصير الذي أوصل بنفسه اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين إليه، وبالتالي ستدخل الدبابات في نزهة غالباً، ولكنها لن تكون من دون ثمن، ندفعه نحن، كاملاً، كالعادة. 

لو اكتفى الإسرائيليون بتدمير خصمهم، وتجريده من سلاحه، وفرض استسلام مر عليه، لما اضطروا لتعريض حياة جندي واحد من جنودهم للخطر، وهو أمر قائم، إذ ستحدث اشتباكات برية لا شك. ما يقومون به الآن، جواً وسبرانياً، كاف لجعل الأمور تصل إلى تلك التسوية المرتجاة، إذ لن يعود بعدها الحزب إلى سابق عهده، إثر غرقه في اشتباك أهلي، أيضاً قادم لا محالة، والحزب قد جرد من أنيابه، التي كان يعض بها خصومه الداخليين في لبنان قبل أي أحد آخر.

الجيش الإسرائيلي ليس بحاجة إلى حشد كل تلك القوة البرية، والتوغل في أماكن، من المرجح أنهم لن يجدوا فيها ذلك الخصم القديم الذي تصدى لهم في تموز 2006. ولكن، إن كان الهدف أبعد من مجرد هزيمة، تحققت فعلياً، لخصم قديم، فإن التأمّل في هدف جديد، قد يكون مجزياً، أقله لنفهم إلى أين نحن يُسار بنا. 

هل سيقبل فلسطينيو غزة، أو أي جزء منهم مهما كان حجمه، وربما، وغالباً، فلسطينيو الضفة بعدهم، هذا المصير؟ بالتأكيد لا… ولكن، وقبل أن نقفز إلى تلك الـ “لا” المجلجة، علينا أن نسأل أنفسنا ما هي الخيارات المتاحة لأولئك الذين فقدوا كل سبل الحياة الممكنة في غزة، القطاع بمدنه كاملة، التي تحولت إلى… غبار؟

 لو أتيح الآن لأي غزاوي أو غزاوية الانتقال إلى مصر، من دون أية خطة مسبقة لتأمين سبل العيش هناك، لما ترددا لحظة واحدة في ذلك، إذ إن العيش في غزة ما عاد ممكناً بأي شكل من الأشكال. وهذا ما قاله كثر إثر كارثة السابع من أكتوبر، ومع بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية في القطاع. قلنا، إن ما يحدث ليس إلا بداية لتحقيق حلم قديم: تهجير قسري لسكان القطاع، أو للنسبة العظمى منهم، إلى مصر أو إلى أي بلاد أخرى. وهذا ما سعى الإسرائيليون إلى تحقيقه، والمطالبة به علناً، عبر جميع متحدّثيهم، منذ تلك اللحظة السوداء التي بدأت فيها عملية الثأر من كارثة السابع من أكتوبر، التي وقعت علينا أكثر بمليون مرة مما وقعت على الإسرائيليين. ثم، هل كان للضحايا رأي في يوم من الأيام؟! 

وحتى لا نخطئ الحساب، نحن، لسنا ضحايا إسرائيل فحسب، بل ضحايا “مقاومينا” أيضاً، وقبل أي أحد آخر. ولكن هذا حديث ما عاد من المجزي الخوض فيه، وكارثة على الأبواب ستقع، خصوصاً وأن التبرير “الأخلاقي” لعملية التطهير المتوقعة- هي دنيئة لا ريب، ولكن من قال إن عدونا ملاك؟!- هذا التبرير سيقول، إن أولئك المهجرين من الجنوب اللبناني قد وجدوا بديلاً لهم في البلدات والقرى السورية القريبة من الحدود اللبنانية، والتي فرض حزب الله سيطرته عليها، والتي لجأ بعضهم إليها فعلاً، ويمكنهم أن يعيشوا هناك في بيئة لا تختلف إطلاقاً عن بيئتهم… علينا ألا ننسى أن المشروع الاستيطاني الإسرائيلي من أساسه بني على هذه الفرضية (عرب هجّروا إلى أرض عربية). فهل هذا ممكن، بعد كل ما خبرناه وعشناه طيلة 76 عاماً من صراع لم ينته، ولم يرد القائمون عليه أن ينتهي أبدا؟! 

ما بعد “الشهادة” و”الرومانسيّة”

لا أدري حقيقة لمَ أكتب هذا الكلام الآن، ولكني، وفي محاولة يائسة من طرفي للخروج من أحد دورين فرضا عليّ وعلى محيطي كله: إما ضحايا أو متفرجين، أحاول القفز إلى دور آخر، ذلك المتعلق بمحاولة فهم ما يدور وتوقع ما قد يلي، عسانا نخرج، ونحن نفكر، بشيء ما ينفعنا، في حال قررنا أن نقول لا. أقله هذه الـ “لا” ستكون مبنية على معرفة من أي نوع. تلك التي لم نحاول اكتسابها مطلقاً، إذ بقينا مصرين على فهمنا السحري للعالم القائم على مبدأ وحيد: لا يموت حق وراءه مطالب! يا لهذه الرومانسية المكتفية بذاتها، لدرجة حولتنا إلى شهداء، أو مشاريع شهداء… تلك الكلمة التي نختارها دائماً للتغطية على كوننا ضحايا ليس إلا. 

وللساخر مما ذُكر أعلاه، أتمنى له من كل قلبي أن ينعم بسخريته، وأنعم معه بحياة ينقصها كابوس إضافي. ولكن، ما شهدناه خلال الأسابيع الأخيرة أقرب إلى أن يكون خيالاً علمياً، من كونه مجرد صراع سياسي بالسلاح، كائناً ما كانت دمويته، خيالاً علمياً مقارنة مع كل قراءاتنا للحدث المدوي الذي تتعلق به كامل مصائرنا في تلك المنطقة التي فعليا أصبحت حقلاً للموت، لم يكن الإسرائيليون وحدهم المتسبّب به. 

الآن، علينا أن نفكر بشكل جدي في احتمالات أشد هولاً، قادمة لا ريب، وإن بأشكال مختلفة، ليس بالضرورة أن تطابق المتوقع أعلاه، ولكنها تبقى كوابيس مع ذلك، ولا نملك بين أيدينا لردها سوى بقايا رطانة مقاومة، لم تثبت الأحداث الأخيرة فقط عجزها، وفواتها، وعدم صلتها بالواقع، بل إن أحداثاً كثيرة جرت، منذ ذلك الاجتياح “القديم”، 1982، لم نفعل شيئاً في قراءتها سوى إعادة إطلاق تلك الرطانة التي جرّدها “أبطال” تلك المقاومة أنفسهم من كل معنى.

 أقل ما يمكن أن نفعله، لنحافظ على بقايا إدراك لدينا، هو أن نحاول أن نفهم، لمَ، وكيف، وصلنا إلى هنا. عسانا، في أيام قد تأتي، أو لا تأتي، نتجنب أن نكون مجرد خسائر جانبية.