برزت منذ انتشار وباء “كوفيد-19” منصّة جديدة تابعة للدولة اسمها Impact، استخدمها كثيرون في لبنان لأخذ أذونات للخروج خلال فترة الإغلاق العام ولتسجيل أسمائهم والحجز من أجل اللقاح. إلا أنّ دور المنصّة لا يقتصر على ذلك، بل يتعدّاه إلى عرض بيانات مفتوحة أمام جميع اللبنانيّين، تتطرق إلى قضايا أبعد من “كورونا” ولقاحاته المتاحة. اتاحة هذه المعلومات المتنوعة، للرأي العام أمر أساسي في سياق اعتماد الشفافية لكن في دولة يتغلغل الفساد في معظم مرافقها وإداراتها العامّة، فأمر كهذا كفيل بإثارة الريبة والأسئلة. فهل هي فعلاً معلومات جدية متاحة أم أن هناك أمراً خلف هذه المنصة؟
منصة Impact التابعة للتفتيش المركزي، هي أوّل منصّة حكوميّة إلكترونيّة في لبنان.
أُطلقت في آذار/ مارس 2020 تزامناً مع أزمة انتشار “كورونا” في لبنان. إلّا أنّها لم تكن وليدة هذه الأزمة، بل كانت قيد التخطيط منذ بداية العام. وبينما كان هدفها الرئيسي مكننة آلية الرقابة والتفتيش وتعزيز العلاقة بين التفتيش المركزي والمؤسسات العامّة، إلا أنّ انتشار الوباء غيّر الاستراتيجيّة التي كان “التفتيش” يتبعها، متجهاً إلى رقمنة العلاقة مع البلديّات والمساهمة في إدارة الأزمة، وفقاً للدكتورة كارول الشاراباتي، مديرة مشروع GOAL، الذي تقوم به مؤسسة Siren مع التفتيش المركزي والذي يتضمّن منصّة Impact، في مقابلة لها مع “درج”.
ولكن يبقى السؤال الأكبر، إلى أي مدى ستستطيع منصّة عامّة الاستمرار والحفاظ على الحياديّة والشفافيّة ومجابهة الضغوط السياسيّة التي تحاول أن تحيدها عن هدفها الرئيسي وهو، بحسب موقعها الرسمي، “إتاحة الوصول إلى البيانات التي تم جمعها رقميّاً” و”توفير الأدوات والأدلة لمراقبة عمل الإدارة المركزية والمحلية ورصدها والتدقيق بها”؟

أفق واستدامة؟
لا يخفي رئيس التفتيش المركزي جورج عطية الضغوط التي يتعرّض لها التفتيش والفريق الذي طوّر منصّة IMPACT، على رأسهم الشاراباتي، إمّا من أجل الحصول على البيانات والمعلومات الخاصّة من المنصّة أو من أجل إخفاء البيانات المفتوحة للعموم (Open Data)، لكنّ التفتيش المركزي حتى الآن مصمّم على الاستمرار في هذا النهج، ولكن إلى متى سيستطيع الفريق مجابهة الضغوطات وهل سنشهد لاحقاً أم آجلاً إمّا توقيف المنصّة، أو سحب المعلومات عنها ومنع تطوّرها، خصوصاً بعد الانتهاء من الحاجة إليها خلال تفشي الوباء؟
وفي هذا السياق، تقول الشاراباتي لـ”درج” أنّ لدور التفتيش المركزي شرعيّة وتفويضاً ولذلك فإنّ كل الإدارات العامّة تتحمّل مسؤوليّة توفير البيانات والمعلومات اللازمة والمنصّة “تأخذ وتعطي” أي أنّها تحصل على بياناتها من الإدارات العامّة وتمنحها في المقابل بيانات إضافيّة وتحليلاتها.
فالمنصّة تقوم على بيانات من الإدارات العامّة وبعض الوزارات، إضافة إلى العنصر الذي قد يكون الأهم، وهو البلديات والقائمقاميات، ويقول عطيّة إنّ “البلديّات غير موصولة برابط معلوماتي مع السلطة المركزية في وزارة الداخليّة”، ولذلك هذه المنصّة تساهم في خلق هذا الرابط وفي مقارنة البيانات بين السلطات المحليّة والمركزيّة. وبدلاً من أن يتمّ ذلك من خلال المفتّشين وعبر الورقة والقلم، تمنح المنصّة آليّة تعاون جديدة بين التفتيش والمؤسسات وذلك عبر الإشعار الاإكتروني الذي يصل إلى المؤسسات لإدخال المعلومات بطريقة ممكننة، وهذا ما يسمح “بالتفتيش والرقابة المتزامنة والمواكبة للحدث عوضاً عن التدقيق الذي يأتي بعد سنوات، عندما يكون من ضرب ضرب ومن هرب هرب”، بحسب الشاراباتي.
الّا أنّ الحصانة والضمانة، بحسب فريق التفتيش، هي في سياسة الخصوصيّة التي تلتزم بها المنصّة، فلأوّل مرّة في تاريخ المواقع الالكترونيّة التابعة للدولة، يتضمّن موقع عام Privacy Policy (أي سياسة خصوصيّة) عالية المعايير بناءً على إحدى لوائح قانون الاتحاد الأوروبي بشأن حماية البيانات والخصوصية وهي اللائحة العامة لحماية البيانات (General Data Protection Regulation GDPR) والتي يستخدمها التفتيش لمواجهة أي محاولات للحصول على البيانات من المنصّة.

ماذا بعد انتهاء عقد الشركة الخاصّة؟
تقنيّاً، تتولّى تنفيذ هذه المنصّة وتحديثها حتى اليوم شركة Siren Analytics الخاصّة التي سينتهي عقدها في آذار 2022، الّا أنّه من المرجّح تمديد هذا التعاون واستكماله، بحسب الشاراباتي التي أكّدت أنّ الشركة تقدّم المساعدة التقنية وتنقل المعرفة وتبني القدرات التقنية لفريق التفتيش المركزي، إلّا أنّ التفتيش هو صاحب رؤية المنصّة وإدارة وحوكمة.
تمويل المشروع هو بريطاني ولكن بعد آذار 2022، ستصبح المنصّة جزءاً من موازنة التفتيش المركزي التابعة لرئاسة مجلس الوزراء، إذ إنّ كلّ التكاليف الأساسيّة تمّت تغطيتها في هذه المرحلة.
فميزانيّة التفتيش المركزي في انخفاض مستمرّ، فبلغت ميزانيّته في مشروع قانون الموازنة العامة لعام 2021، 9 مليارات و682 مليون ليرة لبنانيّة، مقارنة بـ 10 مليار و990 مليوناً، عام 2020 وما يزيد عن 12 ملياراً عام 2019 و14 مليار ليرة لبنانيّة عام 2018.

لماذا التفتيش المركزي؟
عملاً بمبدأ “العودة إلى المستقبل” أي استرجاع الدور الذي أُنشئ من أجله التفتيش المركزي، عمد التفتيش، بحسب عطية، إلى تأسيس هذه المنصّة من أجل المساهمة في لعب دوره في الرقابة الشاملة والتفتيش المنوط به قانونيّاً.
تنصّ المادّة 2 من المرسوم الاشتراعي رقم 115/59 (إنشاء التفتيش المركزي) على مهمات التفتيش وهي:
1- مراقبة الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات.
2- السعي إلى تحسين أساليب العمل الإداري.
3- إبداء المشورة للسلطات الإدارية عفواً أو بناءً لطلبها.
4- تنسيق الأعمال المشتركة بين عدة إدارات.
5- القيام بالدراسات والتحقيقات والأعمال التي تكلفه بها السلطات.
القانون يمنح التفتيش المركزي صلاحيّات رقابيّة واسعة ولكن “الفساد ليس بالنصوص بل بالنفوس” وفقاً لعطيّة. إلّا أنّ إمكانات التفتيش المركزي محدودة، خصوصاً أنّ في الدولة اللبنانية قرابة الـ1500 إدارة عامّة وحوالى 130 ألف موظّف عام وبالتالي فإنّ عدد المفتّشين الذي لا يزيد عن 150، وفقاً لعطيّة، ليس بمقدوره ممارسة دوره الطبيعي بالرقابة والتفتيش، خصوصاً في ظلّ الحصانات السياسيّة والخطوط الحمر لبعض الموظّفين. ولذلك تعتبر الشاراباتي أنّ “التفتيش في الوضع الذي كان عليه لن يتمكّن من ممارسة مهماته لغياب العناصر البشرية الكافية وضعف آلية الوصول للمعلومات وبالتالي غياب القدرة على تحايل البيانات وأي مخاطر محتملة”، ولذلك تجب الاستفادة من التقنيات التكنولوجيّة المتوفّرة.

ما دور المنصّة؟
لا شكّ في أنّ أزمة “كورونا” سهّلت عمليّة انتشار المنصّة، فعُرف دورها في تعبئة طلبات أذونات الخروج أو التجوّل خلال حظر التجوّل، إضافة إلى استمارة تسجيل الوافدين لتتبع الحجر الصحي وطلب إذن لشركة/ مؤسسة. إلّا أنّ ما لا يعلمه الكثير من اللبنانيّين أنّ المنصّة تحتوي على بيانات وأرقام واسعة وشاملة وهي نتاج شراكة بين الوزارات والبلديات والمواطن نفسه.
تتضمنّ المنصّة معلومات عن الأضرار التي خلّفها انفجار 4 آب/ أغسطس، كل التفاصيل عن الوباء واللقاح وعدّد الملقّحين ونوع اللقاح، إضافة إلى التنمية الريفيّة، مستلزمات البلديّات، الأسر الأكثر حاجة، القرارات والإجراءات الإدارية المتخذة من قبل الجهات الحكومية، وغيرها من المعلومات.
بحسب التفتيش المركزي، هناك 5 عناصر/ أبعاد أساسيّة للمنصّة:
1- التطوير التنظيمي: والذي يتضمّن بناء القدرات وتحسين عمليّة التواصل.
2- الحوكمة: تعزيز التعاون بين الوزارات وتطوير العلاقات المؤسسية مع التفتيش المركزي.
3- التنمية المحلية: تعزيز التعاون بين البلديات وبينها وبين السلطة المركزيّة والتفتيش المركزي، وتطوير دور البلديات.
4- إدارة الأزمات: من خلال تبادل البيانات وتحليلها من أجل إعطاء المشورة وتنسيق الجهود (أزمة “كورونا” مثالاً).
5- تحليل البيانات: تحسين استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والضغط من أجل الحفاظ على خصوصيّة البيانات وأمنها في مقابلة مشاركة الأساسيّة منها مع المواطنين لإشراكهم في عمليّة الرقابة والمحاسبة.
وكل هذه المهمات أساسيّة ومهمّة في حال استطاعت المنصّة الحفاظ على صدقيتها وتوسّع نشاطها ليشمل بيانات من جميع المؤسسات والإدارات العامّة والوزارات، من دون تدخّلات وضغوط سياسيّة، حتى تساهم في حق وصول المواطن إلى المعلومات والبيانات، والمشاركة في عمليّة الرقابة والمحاسبة، ممّا يوجب تفعيل الصلاحيات التأديبيّة للتفتيش المركزي أيضاً.
أحد البيانات الأساسيّة المتوفّرة على المنصّة هي تلك المتعلّقة بالتنمية الريفيّة والتي تسلّط الضوء على واقع الحياة الريفيّة، ويتضمّن ذلك شبكات الاتصال والسياحة والطرق والقطاع الزراعي والواقع التعليمي وغيرها من التفاصيل، علماً أنّ هذه البيانات تمّ الحصول عليها من البلديات نفسها وهذا بدوره يساهم في تفعيل دور البلديّات وتحديد إمكاناتها وحاجاتها وبالتالي ذلك “أساسي في صنع القرارات والسياسات العامة والاستراتيجيات”، بحسب الشاراباتي.
المنصّة بشكلها الحالي ورؤيتها هي خطوة أولى وحجر أساس لاستعادة دور التفتيش المركزي، إلّا أنّها إذا لم تترافق مع الرقابة الحقيقيّة والمحاسبة – من خلال الصلاحيات التأديبيّة المتاحة أمام التفتيش المركزي وفق القانون – ستبقى قاصرة عن تحقيق أحد الأهداف الرئيسيّة للتفتيش وهي أن يلعب دوراً أساسيّاً في عمليّة مكافحة الفساد الفعليّة. وبالتالي ستضاف Impact، إلى لائحة مؤسسات ومراكز بيانات وأبحاث الدولة التي في أحيان كثيرة تقدّم معلومات ودراسات واستراتيجيّات مهمّة، لكنها تبقى حبراً على ورق ولا تؤخذ في الاعتبار في قرارات الدولة واستراتيجيّاتها.
إقرأوا أيضاً: