لم يبقَ شيء على حاله بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر (2023)، أو بعد عملية “طوفان الأقصى”، إذ وجدت إسرائيل في العملية التي شنّتها “حماس” فرصة سانحة لشن حرب وحشية، مدمّرة، طويلة، ومكلفة، بشكل غير مسبوق في تاريخ هذه الدولة، تحت مسمى: “السيوف الحديدية” ثم “عربات جدعون” 1 و2. وقد أدّت تلك الحرب في نتيجتها إلى تغيير واقع الفلسطينيين وقطاع غزة وحركة “حماس”، وحتى المشرق العربي برمّته، وصولًا إلى إيران، لصالح إسرائيل.
الآن، وبعد مرور عامين على حرب الإبادة ضد فلسطينيي غزة، استطاعت إسرائيل تدمير 90 في المئة من عمران مدن وبلدات القطاع وبناه التحتية، وتغيير معالمه بالكامل، وجعله منطقة غير صالحة للعيش.
اليوم، يعيش نحو مليوني فلسطيني بلا مأوى، ولا موارد، ويفتقدون أبسط مقوّمات الحياة من ماء وغذاء وكهرباء ودواء ووقود، في مكان بات يُعدّ أكبر مقبرة، وأكبر خرابة، وأكبر معسكر اعتقال، وأكبر حقل رماية، وأوسع مساحة فرجة في العالم، مع أكثر من ربع مليون ضحية بين قتيل وجريح وأسير ومفقود تحت الركام.
لا يتوقف الأمر عند قطاع غزة؛ إذ إن إسرائيل شملت في حربها تلك تكريس واقع الاحتلال والهيمنة في الضفة الغربية، عبر تعزيز الاستيطان، وإنشاء ميليشيا مسلحة للمستوطنين، وإقامة مئات الحواجز العسكرية لقطع التواصل بين المدن والبلدات والقرى الفلسطينية، وعزلها عن بعضها البعض، مع تدمير أجزاء عدة من المخيمات، ولا سيما مخيمات جنين ونور شمس وطولكرم، إضافة إلى خلق وقائع جديدة تُساهم في تهميش مكانة السلطة الفلسطينية.
إقرأوا أيضاً:
في المحصلة، تمكنت إسرائيل، بقيادة الحكومة الأكثر تطرفًا في تاريخها منذ إقامتها عام 1948، من فرض هيمنتها على الفلسطينيين من النهر إلى البحر، مستهدفة وأد أي مسعى لتأسيس دولة فلسطينية. كما تسعى إلى فصل غزة عن الضفة، وفق الواقع الناشئ حاليًا، ومحاولة فرض تغييرات على بنية السلطة الفلسطينية ومعناها في الضفة.
أما “حماس”، التي شنّت الهجوم بشعارات “التخلّص من حصار غزة” و”إنهاء الاحتلال” و”زلزلة الأرض تحت أقدام إسرائيل” باعتبارها “آيلة للانهيار” و”أوهن من بيت العنكبوت”، فقد انكشف بعد ذلك كله أن تلك الشعارات كانت مبنية على أوهام ورهانات خاطئة وإخفاقات كارثية. إذ استطاعت إسرائيل تقويض القدرات العسكرية لـ”حماس”، وتصفية عدد كبير من قياداتها وكوادرها، مع انحسار شرعيتها في غزة لعدم صدقية شعاراتها ومنطلقاتها، سواء في صدّ العدوان الإسرائيلي، أو الدفاع عن الفلسطينيين، أو حتى في قدرتها على تأمين حاجاتهم الأساسية، فضلًا عن عجزها عن إدراك ضرورة وضع سلّم للنزول، أو استراتيجية للتراجع.
الأهم من ذلك، أن قيادة “حماس”، التي عجزت عن تقديم خطاب واقعي ومقنع أثناء الحرب، كشفت عن انفصال تام عن الواقع، بتبنّيها مقولات من قبيل “المقاومة بخير”، و”إسرائيل لم تحقق أهدافها”، و”ليس لدى الفلسطينيين ما يخسرونه”، و”خسائرنا تكتيكية وخسائرهم استراتيجية”، فيما كانت إسرائيل تمعن في قتل الفلسطينيين وتشريدهم وتجويعهم وتدمير عمرانهم.
كان بإمكان “حماس”، التي خضعت لاحقًا لصفقة ترامب على رغم ما فيها من إجحاف، أن تتجه إلى خيار أفضل أثناء الهدنة الأولى أواخر عام 2023، لتجنيب غزة الدمار وتجنيب أهلها ويلات الحرب ومآسيها، وإفشال مخطط إسرائيل. كما كان بإمكانها خلال العام الأول للحرب، أن تسعى إلى صفقة للإفراج عن الرهائن الإسرائيليين، لكنها ظلت تراهن على أوهام “وحدة الساحات”، ودعم “العالمين العربي والإسلامي”، وقدرتها على صدّ إسرائيل، من دون إدراك أن حكومة نتانياهو–سموتريتش–بن غفير كانت تصر على استمرار حرب الإبادة بوحشية غير مسبوقة، لتمرير خطتها في التخلّص من أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين في غزة، وتحويل حياتهم إلى جحيم، والتخلّص من أي بعد فلسطيني في التسوية، والقضاء على فكرة المقاومة، بل وحتى على ما يُعرف بمحور “المقاومة والممانعة”.
وفي مرحلة لاحقة، وقبيل نهاية العام الأول للحرب، نجحت إسرائيل في إخراج “حزب الله” من ساحة المعركة، أو من “معركة إسناد غزة” وفق تعبيراته، وذلك بعد عملية “البايجرز” (17/9/2024)، ثم اغتيال قيادة “قوة الرضوان” في الحزب (20/9/2024)، واغتيال زعيمه حسن نصر الله (27/9/2024). وكانت إسرائيل قد اغتالت قبل ذلك بشهر إسماعيل هنية في طهران (1/7/2024).
وعلى رغم كل هذا التصعيد، وما كشفه من تفوّق إسرائيل التدميري والتكنولوجي والاستخباراتي، فإن قيادة “حماس” لم تُبدِ أي مبادرة للبحث عبر الوسطاء عن صفقة ممكنة لتجنيب الفلسطينيين أهوال الحرب، وكأن المقاومة أهم من الشعب، أو كأن “حماس” أهم من غزة.
وهكذا، استمرت قيادة “حماس” في إدراكاتها الخاطئة، مكرّرة مقولات من قبيل أن “إسرائيل لم تحقق أهدافها” وأن “المقاومة بخير”، حتى بعد اغتيال إسرائيل يحيى السنوار، الرئيس الجديد لمكتبها السياسي ومهندس عملية “طوفان الأقصى”، بل وحتى بعد انهيار النظام السوري (أواخر 2024)، وبعد حرب الاثني عشر يومًا التي شنتها إسرائيل على إيران نفسها (حزيران/ يونيو 2025) بمشاركة أميركية، ما أدى إلى إخراجها نهائيًا من لبنان وسوريا، وحتى من العراق تقريبًا.
ومع ذلك كله، ما زالت “حماس” تتوهّم أن ورقة الأسرى الإسرائيليين في يدها، وأن تظاهرات إسرائيل أو أزماتها الداخلية ستضغط على حكومة نتانياهو!
الآن، وللأسف، خرجت الأمور عن السيطرة. وأصبح موقف قيادة “حماس” تحصيلاً حاصلاً، بخاصة مع موافقة الأطراف العربية والإسلامية، بما فيها القريبة منها، على خطة ترامب. أي أن “حماس” باتت أمام اتفاق إذعان كامل، مع نضوب مصادر التمويل والتسلح وحتى الدعم السياسي، ما فرض عليها قبول ما لم تقبله من قبل، وبشروط أسوأ، بما في ذلك خروجها من المشهد وإطلاقها سراح الأسرى الإسرائيليين. علمًا أن تلك الورقة لم تكن يومًا بيد “حماس”، بقدر ما كانت أداة بيد نتانياهو، إذ حتى التظاهرات الإسرائيلية لم تزحزحه عن مكانه، لأن الإسرائيليين في غالبيتهم تمحوروا حوله باعتباره “يدافع عن وجود إسرائيل”، فيما كانت إسرائيل تمسك بحياة ولقمة عيش أكثر من مليوني فلسطيني تحت رحمتها، في حياة أشبه بالعذاب أو الجحيم الخالص.
في المحصلة، أدّت عملية “طوفان الأقصى” والاستثمار الإسرائيلي فيها، على شكل حرب إبادة في غزة، وحرب هيمنة من النهر إلى البحر، وحرب لإعادة هندسة المنطقة وإنهاء نفوذ إيران في المشرق العربي، إلى إدخال الفلسطينيين في طور جديد من تاريخهم:
من النكبة الأولى (1948) التي أفرزت مشكلة اللاجئين وقيام إسرائيل، إلى النكبة الثانية (1967) التي سيطرت فيها إسرائيل على كل فلسطين من النهر إلى البحر، إلى النكبة الثالثة المتمثلة بحرب الإبادة في غزة، التي كانت الأقسى والأشد مرارة وفظاعة من سابقتيها.
كما أن هذه الحرب أغلقت صفحة في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية التي شكّلها الكفاح المسلح، والتي انطلقت في منتصف الستينات ومرت بمحطات عدة: الخروج من الأردن (1970)، ثم من لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي (1982)، ثم انقسامها بعد ظهور “حماس” (1987) كحركة إسلامية مسلحة، وصولًا إلى تحوّلها إلى حركة استقلال وطني في الضفة وغزة مع اتفاق أوسلو (1993)، ثم انقسامها السياسي والجغرافي (2007).
وجاءت عملية “الطوفان” (2023) لتكون ذروة الكفاح المسلح الفلسطيني، لكنها في الوقت نفسه كانت ذروة انهياره، لأنها انبنت على رهانات خاطئة، وتجاهلت تفوّق إسرائيل العسكري والتكنولوجي والاستخباراتي، فضلًا عن دعمها الأميركي اللامحدود.
بعد كل ذلك، ما زال من المبكر معرفة الشكل الذي ستتموضع فيه القضية الفلسطينية والحركة الوطنية، لأن ذلك سيتوقف على كيفية تموضع إسرائيل في المنطقة داخليًا وإقليميًا، وعلى طريقة مواجهة العالم العربي للتحدي الإسرائيلي، وشكل تعاطي العالم مع إسرائيل، التي باتت مكشوفة ومعزولة ومنبوذة أكثر من أي وقت مضى، كدولة استعمارية وعنصرية واستيطانية، ودولة إبادة جماعية.
وذلك كله مع الأخذ بالاعتبار ضعف الوضع الفلسطيني، وضعف أهليته وإمكاناته لمواجهة التغيرات الهائلة وتداعيات هذه الحرب الفظيعة من مختلف النواحي.
إقرأوا أيضاً:













