fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

ما منصب أحمد الشرع؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

صحيحة ومشروعة وضرورية كل التساؤلات حول مدى صدق توجه الشرع الجديد وما يصحبها من نقد وتدقيق وتشكّك، ولكن إغفالها ليس صحيحاً ولا مشروعاً، وبالتأكيد ليس ضرورياً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

انتصرت قوات أحمد الشرع على جيش بشار الأسد في وقت قياسي أدهش الجميع بمن فيهم الشرع والأسد، على الأرجح. ووجد الشرع نفسه يجلس في مكاتب الرئيس الفار ويتصرف بمقادير الأمور، كما كان سلفه يتصرف، فعيّن الحكومة، وهو يلتقي المندوبين والمبعوثين والوزراء، من دون أن يكون له – هو نفسه – صفة رسمية. فما منصب أحمد الشرع؟ وهل من الضروري أن تكون له صفة رسمية؟ 

حالات سابقة

عندما قام الانقلابيون في مصر بقيادة جمال عبد الناصر بثورتهم العسكرية على الملك فاروق في تموز/ يوليو 1952، سارعوا إلى تأسيس مجلس قيادة الثورة، وأسندوا رئاسته إلى أعلى رتبة عسكرية بين الضباط الأحرار، اللواء محمد نجيب. مثّل مجلس قيادة الثورة في مصر الهيئة الحاكمة الجديدة وتولّى زمام الحكم خلال المرحلة الانتقالية نحو النظام الجمهوري. وكان له دور بالغ الأهمية في صياغة المسار السياسي لمصر، إذ ساهم في تعزيز السلطة تحت قيادة عبد الناصر ووضع اللبنات الأساسية لدولة اشتراكية ذات طابع قومي عربي. 

وكذا فعل البعثيون وحلفاؤهم إثر نجاح انقلابهم في آذار/ مارس 1963، حين اقتدوا بتجربة عبد الناصر في مصر، وأسسوا مجلس قيادة الثورة وأسندوا رئاسته إلى أعلى الضباط رتبة، وكان الناصري لؤي الأتاسي. اضطلع المجلس بمهمة ترسيخ السلطة وتطبيق أيديولوجية حزب البعث القائمة على الاشتراكية العربية والقومية، إذ أطلق حزمة من الإصلاحات الجذرية، شملت إعادة توزيع الأراضي، وتأميم القطاعات الصناعية الكبرى، وترسيخ نظام الحزب الواحد.

ونحا حزب البعث العراقي النحوَ نفسه، فأسسوا مجلساً بالاسم نفسه، ترأسه أحمد حسن البكر، وبرز كأعلى سلطة حاكمة عقب الانقلاب الذي قاده حزب البعث في 17 تموز/ يوليو من ذلك العام وأطاح حكومة عبد الرحمن عارف. وسرعان ما أصبح المجلس القوة المهيمنة في النظام البعثي، فتبنى المجلس سلسلة من الإصلاحات الكبرى، شملت تأميم الموارد النفطية، وإعادة توزيع الأراضي، والعمل على تحديث الاقتصاد والبنية التحتية في العراق. وكان أداة صدام حسين لتأسيس نظام استبدادي محكم استمر في ظل حكم البعث حتى عام 2003. 

ولاية الفقيه

التجربة الإيرانية تقدم لنا مثالاً آخر. بعد ثورة شباط/ فبراير 1979، برز آية الله روح الله الخميني كقائد محوري للثورة التي أطاحت النظام الشاهنشاهي ووضعت حداً لقرون من الحكم الوراثي في إيران. ورغم تمتعه بسلطة استثنائية، اختار الخميني عدم تولي أي منصب حكومي رسمي، لإيمانه العميق بأولوية القيادة الدينية على المناصب السياسية.

تصوّر الخميني نفسه (ونصّبها) مرشداً روحياً ومهندساً للجمهورية الإسلامية، حيث مارس نفوذه من خلال مبدأ ولاية الفقيه، الذي أعطى رجال الدين السلطة العليا في الدولة، وفوّض المهام التنفيذية للمسؤولين الحكوميين، لضمان توافق القرارات السياسية مع المبادئ الإسلامية تحت إشرافه المباشر.

كان سبيل الخميني هذا يجسد رؤيته لدولة ثيوقراطية تتفوق فيها السلطة الدينية على الهياكل السياسية التقليدية، ما مكنه من توجيه مسار الإصلاحات الداخلية والسياسات الخارجية من دون قيود الإدارة اليومية. ولم تؤدِّ هذه الاستراتيجية إلى ترسيخ موقعه كمرجع أعلى لا يُنازع فحسب، بل ساهمت أيضاً في تشكيل الهوية الثورية لإيران وترسيخ مكانتها كدولة ذات طابع إسلامي متفرد.

فماذا عن الشرع؟

النظر في التجارب السالفة يعطينا الحق في التساؤل عن المنصب الذي يحتلّه رجل دمشق القوي الآن، أحمد الشرع، أو ذاك الذي يبتغيه لنفسه. الغموض الذي يحيط الشرع نفسه به يجعل جميع الاحتمالات مفتوحة. فالسوابق المصرية والسورية والعراقية قد تمهد لمأسسة انقلابية-ثورية يمكن أن تنتهي بتنصيب الشرع ديكتاتوراً مقبلاً لسوريا. 

والمثال الإيراني مع الخلفية الدينية العميقة للشرع، قد يفتح طريقاً يبني فيه الشرع نظاماً يضع فيه نفسه فوق السلطات، وبالتالي يضمن استمرارية في الحكم، لأن منصب “المرشد” أو “القائد” لا يرتبط بفترة زمنية، لأنه ليس منصباً سياسياً أو حكومياً، بل هو مكانة فوق-سياسية وفوق-حكومية. وهو غير منتخب من الشعب، ويبقى حتى يموت صاحب المنصب أو يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

طريق ثالث

مع ذلك ثَمَّ طريق ثالث. حين انتفض السوريون ضد الحكم الدكتاتوري المافيوي الفاسد، كان هاجسهم تطلعاً غريزياً غير مؤدلج إلى الحرية والكرامة. وحين سقط نظام الأسد، كان التعبير الأولي للسوريين عن نفسهم عودة إلى التطلع القديم نحو الحرية والكرامة. وبالتالي، لم يسقط نهائياً احتمال أن تسير البلاد في ركاب انتقال ديمقراطي أو شبه ديمقراطي، يجعل من تداول السلطة وفصل السلطات وسيادة القانون الأطر العامة للدولة السورية. 

لتحقيق ذلك، لا بد من أن يمارس السوريون الذين يؤمنون بتلازم الديمقراطية السياسية والمدنية الاجتماعية (ولنسمّ هذا الاتجاه اصطلاحاً المدنيقراطية ونسمي المؤمنين به مؤقتاً المدنيقراطيين) ضغطاً متواصلاً على الحكم الجديد لكي يحافظ على توازن دقيق وحرج، ولكن مطلوب، بين التيارات السورية الدينية والتيارات المدنيقراطية. 

لا يمكن أن ننفي أو ننسى أن السيد الشرع جاء إلى السلطة على حصان إسلامي جامح. كانت كل الجهود الإقليمية انصبت لتقضي على الوجه المدنيقراطي للثورة السورية، وتبرز الوجه الإسلامي، وفيما دُفِع القليل على التعليم والنشاط المدني للمعارضة، دُفع الكثير لتسليح الفصائل الإسلامية الراديكالية. وكان أحمد الشرع – بصفته الفاتح أبي محمد – على رأس واحد من أكبر هذه الفصائل قوة وتنظيماً. ولا يمكن أيضاً أن ننسى أن قوة الفاتح كانت تعتمد على مدى تديّن محازبيه ومقاتليه. 

ولكن عندما خلع الفاتح عمامته، خلع معها جزءاً من تطرفه الديني. والحق أن الرجل يتمتع بحس براغماتي عالٍ وذكاء حاد ومقدرة على استيعاب الظروف الموضوعية، وهو ما افتقر إليه ديكتاتور سوريا السابق الذي كان يعيش في دائرة مغلقة من الأوهام. وانتقل الشرع مع مسؤولياته الجديدة وانفتاحه على المنطقة والعالم من الفكر الضيق الذي كان يحكم عقلية الفاتح، إلى الفكر الرحب الذي يميز الرجال والنساء الذين يقفون على قمة الهرم فيرون – إذا ما رغبوا – الأمور من كل الزوايا. 

ولا يمل الشرع من ترداد أن الثورة انتهت وأن سوريا انتقلت الآن من الثورة إلى الدولة. وكرجل دولة – لا كرجل فصيل إسلامي مسلّح – يحاول أن يتخلص من بعض أفكار الفصائل المسلحة وممارساتها. ومع العمامة واللباس الديني، تخلّى الشرع عن الخطاب القديم الراديكالي واستبدله بخطاب معتدل ومتوازن، وابتعد عن النهج العسكري للجماعة، متبنياً رؤية أكثر اعتدالاً تركز على الحوكمة. ولا تعوزنا الأمثلة لشرح ذلك، فقد اتخذ الزعيم الجديد جملة من الخطوات التي تدعم ما ذهبت إليه، فأعلن عن عزمه حلّ الميليشيات الطائفية ودمجها في جيش وطني موحّد، وتعهد بحماية حقوق الأقليات، واستضاف وفوداً عربية وأجنبية لمناقشة استقرار المنطقة وجهود التعاون، بدلاً من المواجهة، لإعادة الإعمار، ودعا الى الاستثمار الأجنبي في البنية التحتية الحيوية، مثل شبكات الطاقة وأنظمة إمدادات المياه، لخلق بيئة مواتية للتعافي الاقتصادي وخلق فرص العمل.

صحيحة ومشروعة وضرورية كل التساؤلات حول مدى صدق توجه الشرع الجديد وما يصحبها من نقد وتدقيق وتشكّك، ولكن إغفالها ليس صحيحاً ولا مشروعاً، وبالتأكيد ليس ضرورياً.

ضغط من الأدنى وآخر من الأعلى

على أن براغماتية الشرع وواقعيته و”انفتاحه” لا تسايرها براغماتية وواقعية وانفتاح من قاعدته الشعبية والعسكرية. ولن يكون عسيراً على أي متصفح لوسائل التواصل الاجتماعي أن يتعثر بفيديو أو تعليق من أحد مناصري الشرع الذين لا يعجبهم كثيراً اعتداله وتردده في تطبيق “شرع الله”. وظَنِّي أن الرجل يتعرض لضغط كبير من قاعدته (الضيقة ربما) من السوريين وغير السوريين. سأسمّي هذا الضغط “الضغط من الأسفل،” وأرى أنه هو على الأرجح ما جعل الشرع يسند منصب وزير العدل إلى رجل أشرفَ بنفسه على قتل امرأتين علناً بتهم “أخلاقية،” ويصمت عن التسرع في القيام بتعديل في المناهج السورية من دون اختصاص أو دراسة، بل ويعين غير سوريين ضباطاً برتب عالية في الجيش السوري.

وأسس عدد لا يستهان به من الإسلاميين السوريين لجاناً لـ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” كل على طريقته، وحاولوا فرض الحجاب على النساء وإغلاق البارات بالقوة أو بـ “النصح.” ولئن تدخلت قوات هيئة تحرير الشام الحاكمة اليوم لردع بعض هذه الحالات في دمشق مثلاً، فقد تغاضت عن حالات أخرى في أماكن أخرى من البلاد، وقد لا تفعل ذلك غداً. 

يرغب هؤلاء وسواهم في أن يعلن الشرع سوريا الجديدة دولة إسلامية بلا رتوش ولا تجميل. ولا يستطيع الشرع أن يستمر في حكمه من دون دعم هؤلاء ومساندتهم، ولذلك سيكون لزاماً عليه أن يحتويهم ويستمع إليهم. 

لكن ذلك قد يدفع بالرجل فعلاً إلى تلبية رغباتهم. فلا بدّ إذاً من وجود نوع آخر من الضغط يأتي من الطرف الآخر ليحافظ على اعتدال الشرع ووسطيته. سيأتي هذا الضغط من السوريين الليبراليين والعلمانيين والأقليات الدينية ودعاة المدنية والاعتدال وجزء لا يستهان به من السنّة المعتدلين. وسأسمي هذا الضغط “الضغط من الأعلى”.

للسوريين وغيرهم ممن يمارسون الضغط من الأسفل مصلحة عقائدية أو انتهازية قوية تجعلهم لا يتعبون من فرضها على الحكم الجديد. فإذا لم يكافئها ضغط لا يكل من الأعلى، فسيكون من شبه المؤكد أن ينحو الشرع نحو جماعته، ولا نحسبنّ لحظة أن الغرب سيمارس الضغط حتى النهاية نيابة عنا. 

تتمتع جماعة الضغط من الأسفل بقوة وجودها في الداخل السوري وقربها العقائدي من الزعيم، ولها عليه دالّة القتال معه. في المقابل، جزء كبير من جماعة الضغط من الأعلى موجودون في الخارج، ولئن انتابت معظمهم رغبة عاطفية جامحة في العودة فوراً، إلا أنهم على الأرجح لم يعودوا إلا إلى زيارة من تبقى من أهلهم في البلاد. وهذا ما يجعل الإصرار، واجتراح سبل جديدة، واستخدام ما يمكن أن تتمتع به منظمات سورية في الخارج على الحكومات الغربية، والاستفادة من رأس المال السوري في الخارج وسيلة للضغط، أساليب لا غنى عنها لتعويض نقاط ضعفهم. 

فرصة الشرع

في تمّوز/ يوليو 2016، كتبتُ في أعقاب الانقلاب الفاشل الذي حاول إطاحة حكم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مقالاً في جريدة “الحياة”، قلت فيه إن إفشال الانقلاب جاء بدعم شعبي وسياسي وتعاون المعارضة التركية معه. وقلت أيضاً إن أردوغان كان أمام خيارين: إما أن يكون زعيماً لحزب العدالة والتنمية أو يكون زعيماً للأمة. إما أن يكون طرفاً في الصراع وبالتالي يتصرف كمنتصر صغير، أو يكون فوق الصراع ويتصرف كزعيم يريد توحيد الأمة وانتصار الديمقراطية النهائي على آمال العسكريين المتجددة في الانقلاب والسيطرة مجدداً على الحكم في تركيا.

واضح أن أردوغان فضل الخيار الأول، ما جعل شعبيته تنحدر ومكانته كزعيم تتضاءل. كان يمكن أن يكون المؤسس الثالث لتركيا الحديثة، بعد مصطفى كمال أتاتورك وتورغوت أوزال، ويكون مؤسس تركيا القرن الواحد والعشرين. 

واليوم أطرح الخيارين نفسيهما.

 أمام أحمد الشرع، خياران فإما أن يكون زعيم جماعة إسلامية، كبرت أو صغرت، ستُبقي سوريا في زاوية مهملة من العالم، وإما أن يكون الرجل الذي سيعيد سوريا إلى التاريخ ويعيد التاريخ إليها، ويؤسس جمهورية جديدة في سوريا، تقوم على أساس المواطنة والمساواة وحقوق الإنسان وتداول السلطة وسيادة القانون. 

إذا اختار أن يكون خميني سوريا، فسينتهي بعد حين وسيفقد بريقه الذي منحه ثقة شريحة واسعة من السوريين، بمن فيهم ليبراليون وعلمانيون. وإذا اختار أن يكون أول رئيس منتخب لفترة محددة، فعليه أن يشجع على كتابة دستور مدني يتيح له الحكم سنوات، ثم تَؤول الأمور لغيره.

ومها يكن من أمر، فالشرع مدين للسوريين بأن يتحدث إليهم. واضح أن الشرع يخاطب الإعلام الغربي بلغة، ويتحدث إلى الإعلام العربي بما يرغب العرب في أن يسمعوه، ويتوجه إلى مناصريه بما يسرهم. 

ولكن أين السوريون من ذلك كلّه؟ نحن – الشعب – نريد أن نسمع من الحاكم الفعلي لسوريا، ومنه مباشرة في خطاب إلى السوريين، لا الترك ولا الغرب ولا العرب ولا الإسلاميين. ونريده حديثاً مباشراً من العقل والقلب، من دون فلترة أو تزويق، فنسمع فيه رؤية الشرع الحقيقية عن مستقبل سوريا وقضايا الحرية والديمقراطية وسيادة القانون ومسائل الحريات العامة والمواطنة المتساوية ودور النساء، وغير ذاك. 

نريد أن نعرف ماذا يقصد الشرع بالمؤتمر الوطني وما شروط المشاركة فيه، ولماذا تحتاج كتابة الدستور لسنوات والانتخابات لسنوات؟ وهل ستُجرى الانتخابات في ظل إشراف دولي أم لا، وكيف سيطبق مبدأ العدالة الانتقالية، وكيف سيبني الاقتصاد لتقف البلاد على رجليها وتنتفض كطائر الفينيق السوري، من الرماد. 

وما ذلك علينا بكثير، ولا ذلك على الشرع بعسير. 

20.01.2025
زمن القراءة: 8 minutes

صحيحة ومشروعة وضرورية كل التساؤلات حول مدى صدق توجه الشرع الجديد وما يصحبها من نقد وتدقيق وتشكّك، ولكن إغفالها ليس صحيحاً ولا مشروعاً، وبالتأكيد ليس ضرورياً.

انتصرت قوات أحمد الشرع على جيش بشار الأسد في وقت قياسي أدهش الجميع بمن فيهم الشرع والأسد، على الأرجح. ووجد الشرع نفسه يجلس في مكاتب الرئيس الفار ويتصرف بمقادير الأمور، كما كان سلفه يتصرف، فعيّن الحكومة، وهو يلتقي المندوبين والمبعوثين والوزراء، من دون أن يكون له – هو نفسه – صفة رسمية. فما منصب أحمد الشرع؟ وهل من الضروري أن تكون له صفة رسمية؟ 

حالات سابقة

عندما قام الانقلابيون في مصر بقيادة جمال عبد الناصر بثورتهم العسكرية على الملك فاروق في تموز/ يوليو 1952، سارعوا إلى تأسيس مجلس قيادة الثورة، وأسندوا رئاسته إلى أعلى رتبة عسكرية بين الضباط الأحرار، اللواء محمد نجيب. مثّل مجلس قيادة الثورة في مصر الهيئة الحاكمة الجديدة وتولّى زمام الحكم خلال المرحلة الانتقالية نحو النظام الجمهوري. وكان له دور بالغ الأهمية في صياغة المسار السياسي لمصر، إذ ساهم في تعزيز السلطة تحت قيادة عبد الناصر ووضع اللبنات الأساسية لدولة اشتراكية ذات طابع قومي عربي. 

وكذا فعل البعثيون وحلفاؤهم إثر نجاح انقلابهم في آذار/ مارس 1963، حين اقتدوا بتجربة عبد الناصر في مصر، وأسسوا مجلس قيادة الثورة وأسندوا رئاسته إلى أعلى الضباط رتبة، وكان الناصري لؤي الأتاسي. اضطلع المجلس بمهمة ترسيخ السلطة وتطبيق أيديولوجية حزب البعث القائمة على الاشتراكية العربية والقومية، إذ أطلق حزمة من الإصلاحات الجذرية، شملت إعادة توزيع الأراضي، وتأميم القطاعات الصناعية الكبرى، وترسيخ نظام الحزب الواحد.

ونحا حزب البعث العراقي النحوَ نفسه، فأسسوا مجلساً بالاسم نفسه، ترأسه أحمد حسن البكر، وبرز كأعلى سلطة حاكمة عقب الانقلاب الذي قاده حزب البعث في 17 تموز/ يوليو من ذلك العام وأطاح حكومة عبد الرحمن عارف. وسرعان ما أصبح المجلس القوة المهيمنة في النظام البعثي، فتبنى المجلس سلسلة من الإصلاحات الكبرى، شملت تأميم الموارد النفطية، وإعادة توزيع الأراضي، والعمل على تحديث الاقتصاد والبنية التحتية في العراق. وكان أداة صدام حسين لتأسيس نظام استبدادي محكم استمر في ظل حكم البعث حتى عام 2003. 

ولاية الفقيه

التجربة الإيرانية تقدم لنا مثالاً آخر. بعد ثورة شباط/ فبراير 1979، برز آية الله روح الله الخميني كقائد محوري للثورة التي أطاحت النظام الشاهنشاهي ووضعت حداً لقرون من الحكم الوراثي في إيران. ورغم تمتعه بسلطة استثنائية، اختار الخميني عدم تولي أي منصب حكومي رسمي، لإيمانه العميق بأولوية القيادة الدينية على المناصب السياسية.

تصوّر الخميني نفسه (ونصّبها) مرشداً روحياً ومهندساً للجمهورية الإسلامية، حيث مارس نفوذه من خلال مبدأ ولاية الفقيه، الذي أعطى رجال الدين السلطة العليا في الدولة، وفوّض المهام التنفيذية للمسؤولين الحكوميين، لضمان توافق القرارات السياسية مع المبادئ الإسلامية تحت إشرافه المباشر.

كان سبيل الخميني هذا يجسد رؤيته لدولة ثيوقراطية تتفوق فيها السلطة الدينية على الهياكل السياسية التقليدية، ما مكنه من توجيه مسار الإصلاحات الداخلية والسياسات الخارجية من دون قيود الإدارة اليومية. ولم تؤدِّ هذه الاستراتيجية إلى ترسيخ موقعه كمرجع أعلى لا يُنازع فحسب، بل ساهمت أيضاً في تشكيل الهوية الثورية لإيران وترسيخ مكانتها كدولة ذات طابع إسلامي متفرد.

فماذا عن الشرع؟

النظر في التجارب السالفة يعطينا الحق في التساؤل عن المنصب الذي يحتلّه رجل دمشق القوي الآن، أحمد الشرع، أو ذاك الذي يبتغيه لنفسه. الغموض الذي يحيط الشرع نفسه به يجعل جميع الاحتمالات مفتوحة. فالسوابق المصرية والسورية والعراقية قد تمهد لمأسسة انقلابية-ثورية يمكن أن تنتهي بتنصيب الشرع ديكتاتوراً مقبلاً لسوريا. 

والمثال الإيراني مع الخلفية الدينية العميقة للشرع، قد يفتح طريقاً يبني فيه الشرع نظاماً يضع فيه نفسه فوق السلطات، وبالتالي يضمن استمرارية في الحكم، لأن منصب “المرشد” أو “القائد” لا يرتبط بفترة زمنية، لأنه ليس منصباً سياسياً أو حكومياً، بل هو مكانة فوق-سياسية وفوق-حكومية. وهو غير منتخب من الشعب، ويبقى حتى يموت صاحب المنصب أو يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

طريق ثالث

مع ذلك ثَمَّ طريق ثالث. حين انتفض السوريون ضد الحكم الدكتاتوري المافيوي الفاسد، كان هاجسهم تطلعاً غريزياً غير مؤدلج إلى الحرية والكرامة. وحين سقط نظام الأسد، كان التعبير الأولي للسوريين عن نفسهم عودة إلى التطلع القديم نحو الحرية والكرامة. وبالتالي، لم يسقط نهائياً احتمال أن تسير البلاد في ركاب انتقال ديمقراطي أو شبه ديمقراطي، يجعل من تداول السلطة وفصل السلطات وسيادة القانون الأطر العامة للدولة السورية. 

لتحقيق ذلك، لا بد من أن يمارس السوريون الذين يؤمنون بتلازم الديمقراطية السياسية والمدنية الاجتماعية (ولنسمّ هذا الاتجاه اصطلاحاً المدنيقراطية ونسمي المؤمنين به مؤقتاً المدنيقراطيين) ضغطاً متواصلاً على الحكم الجديد لكي يحافظ على توازن دقيق وحرج، ولكن مطلوب، بين التيارات السورية الدينية والتيارات المدنيقراطية. 

لا يمكن أن ننفي أو ننسى أن السيد الشرع جاء إلى السلطة على حصان إسلامي جامح. كانت كل الجهود الإقليمية انصبت لتقضي على الوجه المدنيقراطي للثورة السورية، وتبرز الوجه الإسلامي، وفيما دُفِع القليل على التعليم والنشاط المدني للمعارضة، دُفع الكثير لتسليح الفصائل الإسلامية الراديكالية. وكان أحمد الشرع – بصفته الفاتح أبي محمد – على رأس واحد من أكبر هذه الفصائل قوة وتنظيماً. ولا يمكن أيضاً أن ننسى أن قوة الفاتح كانت تعتمد على مدى تديّن محازبيه ومقاتليه. 

ولكن عندما خلع الفاتح عمامته، خلع معها جزءاً من تطرفه الديني. والحق أن الرجل يتمتع بحس براغماتي عالٍ وذكاء حاد ومقدرة على استيعاب الظروف الموضوعية، وهو ما افتقر إليه ديكتاتور سوريا السابق الذي كان يعيش في دائرة مغلقة من الأوهام. وانتقل الشرع مع مسؤولياته الجديدة وانفتاحه على المنطقة والعالم من الفكر الضيق الذي كان يحكم عقلية الفاتح، إلى الفكر الرحب الذي يميز الرجال والنساء الذين يقفون على قمة الهرم فيرون – إذا ما رغبوا – الأمور من كل الزوايا. 

ولا يمل الشرع من ترداد أن الثورة انتهت وأن سوريا انتقلت الآن من الثورة إلى الدولة. وكرجل دولة – لا كرجل فصيل إسلامي مسلّح – يحاول أن يتخلص من بعض أفكار الفصائل المسلحة وممارساتها. ومع العمامة واللباس الديني، تخلّى الشرع عن الخطاب القديم الراديكالي واستبدله بخطاب معتدل ومتوازن، وابتعد عن النهج العسكري للجماعة، متبنياً رؤية أكثر اعتدالاً تركز على الحوكمة. ولا تعوزنا الأمثلة لشرح ذلك، فقد اتخذ الزعيم الجديد جملة من الخطوات التي تدعم ما ذهبت إليه، فأعلن عن عزمه حلّ الميليشيات الطائفية ودمجها في جيش وطني موحّد، وتعهد بحماية حقوق الأقليات، واستضاف وفوداً عربية وأجنبية لمناقشة استقرار المنطقة وجهود التعاون، بدلاً من المواجهة، لإعادة الإعمار، ودعا الى الاستثمار الأجنبي في البنية التحتية الحيوية، مثل شبكات الطاقة وأنظمة إمدادات المياه، لخلق بيئة مواتية للتعافي الاقتصادي وخلق فرص العمل.

صحيحة ومشروعة وضرورية كل التساؤلات حول مدى صدق توجه الشرع الجديد وما يصحبها من نقد وتدقيق وتشكّك، ولكن إغفالها ليس صحيحاً ولا مشروعاً، وبالتأكيد ليس ضرورياً.

ضغط من الأدنى وآخر من الأعلى

على أن براغماتية الشرع وواقعيته و”انفتاحه” لا تسايرها براغماتية وواقعية وانفتاح من قاعدته الشعبية والعسكرية. ولن يكون عسيراً على أي متصفح لوسائل التواصل الاجتماعي أن يتعثر بفيديو أو تعليق من أحد مناصري الشرع الذين لا يعجبهم كثيراً اعتداله وتردده في تطبيق “شرع الله”. وظَنِّي أن الرجل يتعرض لضغط كبير من قاعدته (الضيقة ربما) من السوريين وغير السوريين. سأسمّي هذا الضغط “الضغط من الأسفل،” وأرى أنه هو على الأرجح ما جعل الشرع يسند منصب وزير العدل إلى رجل أشرفَ بنفسه على قتل امرأتين علناً بتهم “أخلاقية،” ويصمت عن التسرع في القيام بتعديل في المناهج السورية من دون اختصاص أو دراسة، بل ويعين غير سوريين ضباطاً برتب عالية في الجيش السوري.

وأسس عدد لا يستهان به من الإسلاميين السوريين لجاناً لـ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” كل على طريقته، وحاولوا فرض الحجاب على النساء وإغلاق البارات بالقوة أو بـ “النصح.” ولئن تدخلت قوات هيئة تحرير الشام الحاكمة اليوم لردع بعض هذه الحالات في دمشق مثلاً، فقد تغاضت عن حالات أخرى في أماكن أخرى من البلاد، وقد لا تفعل ذلك غداً. 

يرغب هؤلاء وسواهم في أن يعلن الشرع سوريا الجديدة دولة إسلامية بلا رتوش ولا تجميل. ولا يستطيع الشرع أن يستمر في حكمه من دون دعم هؤلاء ومساندتهم، ولذلك سيكون لزاماً عليه أن يحتويهم ويستمع إليهم. 

لكن ذلك قد يدفع بالرجل فعلاً إلى تلبية رغباتهم. فلا بدّ إذاً من وجود نوع آخر من الضغط يأتي من الطرف الآخر ليحافظ على اعتدال الشرع ووسطيته. سيأتي هذا الضغط من السوريين الليبراليين والعلمانيين والأقليات الدينية ودعاة المدنية والاعتدال وجزء لا يستهان به من السنّة المعتدلين. وسأسمي هذا الضغط “الضغط من الأعلى”.

للسوريين وغيرهم ممن يمارسون الضغط من الأسفل مصلحة عقائدية أو انتهازية قوية تجعلهم لا يتعبون من فرضها على الحكم الجديد. فإذا لم يكافئها ضغط لا يكل من الأعلى، فسيكون من شبه المؤكد أن ينحو الشرع نحو جماعته، ولا نحسبنّ لحظة أن الغرب سيمارس الضغط حتى النهاية نيابة عنا. 

تتمتع جماعة الضغط من الأسفل بقوة وجودها في الداخل السوري وقربها العقائدي من الزعيم، ولها عليه دالّة القتال معه. في المقابل، جزء كبير من جماعة الضغط من الأعلى موجودون في الخارج، ولئن انتابت معظمهم رغبة عاطفية جامحة في العودة فوراً، إلا أنهم على الأرجح لم يعودوا إلا إلى زيارة من تبقى من أهلهم في البلاد. وهذا ما يجعل الإصرار، واجتراح سبل جديدة، واستخدام ما يمكن أن تتمتع به منظمات سورية في الخارج على الحكومات الغربية، والاستفادة من رأس المال السوري في الخارج وسيلة للضغط، أساليب لا غنى عنها لتعويض نقاط ضعفهم. 

فرصة الشرع

في تمّوز/ يوليو 2016، كتبتُ في أعقاب الانقلاب الفاشل الذي حاول إطاحة حكم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مقالاً في جريدة “الحياة”، قلت فيه إن إفشال الانقلاب جاء بدعم شعبي وسياسي وتعاون المعارضة التركية معه. وقلت أيضاً إن أردوغان كان أمام خيارين: إما أن يكون زعيماً لحزب العدالة والتنمية أو يكون زعيماً للأمة. إما أن يكون طرفاً في الصراع وبالتالي يتصرف كمنتصر صغير، أو يكون فوق الصراع ويتصرف كزعيم يريد توحيد الأمة وانتصار الديمقراطية النهائي على آمال العسكريين المتجددة في الانقلاب والسيطرة مجدداً على الحكم في تركيا.

واضح أن أردوغان فضل الخيار الأول، ما جعل شعبيته تنحدر ومكانته كزعيم تتضاءل. كان يمكن أن يكون المؤسس الثالث لتركيا الحديثة، بعد مصطفى كمال أتاتورك وتورغوت أوزال، ويكون مؤسس تركيا القرن الواحد والعشرين. 

واليوم أطرح الخيارين نفسيهما.

 أمام أحمد الشرع، خياران فإما أن يكون زعيم جماعة إسلامية، كبرت أو صغرت، ستُبقي سوريا في زاوية مهملة من العالم، وإما أن يكون الرجل الذي سيعيد سوريا إلى التاريخ ويعيد التاريخ إليها، ويؤسس جمهورية جديدة في سوريا، تقوم على أساس المواطنة والمساواة وحقوق الإنسان وتداول السلطة وسيادة القانون. 

إذا اختار أن يكون خميني سوريا، فسينتهي بعد حين وسيفقد بريقه الذي منحه ثقة شريحة واسعة من السوريين، بمن فيهم ليبراليون وعلمانيون. وإذا اختار أن يكون أول رئيس منتخب لفترة محددة، فعليه أن يشجع على كتابة دستور مدني يتيح له الحكم سنوات، ثم تَؤول الأمور لغيره.

ومها يكن من أمر، فالشرع مدين للسوريين بأن يتحدث إليهم. واضح أن الشرع يخاطب الإعلام الغربي بلغة، ويتحدث إلى الإعلام العربي بما يرغب العرب في أن يسمعوه، ويتوجه إلى مناصريه بما يسرهم. 

ولكن أين السوريون من ذلك كلّه؟ نحن – الشعب – نريد أن نسمع من الحاكم الفعلي لسوريا، ومنه مباشرة في خطاب إلى السوريين، لا الترك ولا الغرب ولا العرب ولا الإسلاميين. ونريده حديثاً مباشراً من العقل والقلب، من دون فلترة أو تزويق، فنسمع فيه رؤية الشرع الحقيقية عن مستقبل سوريا وقضايا الحرية والديمقراطية وسيادة القانون ومسائل الحريات العامة والمواطنة المتساوية ودور النساء، وغير ذاك. 

نريد أن نعرف ماذا يقصد الشرع بالمؤتمر الوطني وما شروط المشاركة فيه، ولماذا تحتاج كتابة الدستور لسنوات والانتخابات لسنوات؟ وهل ستُجرى الانتخابات في ظل إشراف دولي أم لا، وكيف سيطبق مبدأ العدالة الانتقالية، وكيف سيبني الاقتصاد لتقف البلاد على رجليها وتنتفض كطائر الفينيق السوري، من الرماد. 

وما ذلك علينا بكثير، ولا ذلك على الشرع بعسير.