بدأ الأمر بعد انفجار مرفأ بيروت مباشرة. أرسلت دول كثيرة مساعدات إنسانية إلى المتضررين من الكارثة التي ألمّت ببيروت، واشترطت دول كثيرة يومها أن تصل المساعدات بشكل مباشر إلى الشعب اللبناني، من دون المرور بالدولة اللبنانية الممثلة بالسلطة الحاكمة التي يحمّلها اللبنانيون مسؤولية الانفجار والانهيار الاقتصادي الذي سبقه، وكل ما آلت إليه أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية.
تولّت حينذاك جمعيات ومؤسسات تابعة للمجتمع المدني عملية تقديم المساعدات المالية والعينية للمتضررين من دون أن تمرّ الأموال بالطرق المعتادة، عبر الدولة. بدا أن الدول الكبرى، وعلى رأسها فرنسا، قد فقدت ثقتها بالطبقة السياسية وقررت ألا تمرّ أموال المساعدات عبرها، خوفاً من هدرها وسرقتها كما حدث مع مليارات الدولارات التي “طارت” من الخزينة اللبنانية ومن حسابات اللبنانيين في المصارف. كانت تلك إشارة واضحة إلى أن جمعيات المجتمع المدني ستكون بديلاً من السلطة السياسية، في ما يعني هذا النوع من المساعدات، وهذا الأمر أغضب جميع من في السلطة، خصوصاً اولئك الذين استفادوا بشكل كبير من الأموال والهبات التي كانت تمرّ عبر مؤسسات الدولة، فضلاً عن جمعيات ترتبط بشكل مباشر برموز السلطة، أسسّوها لتتولى عملية صرف الأموال بما يتلاءم مع الأهداف السياسية التي يسوّقون لها، واستخدموا هذه الأموال للتسويق لمشاريعهم السياسية والانتخابية.
من هنا، ليس مستغرباً الهجوم الممنهج الذي يقوم به زعماء الأحزاب الأساسية في السلطة ضد جمعيات المجتمع المدني وتمويلها، خصوصاً مع الشحّ الذي “تعاني” منه الأحزاب اللبنانية بعد تسكير “حنفية” التمويل السياسي، من المجتمع الدولي ودول الخليج العربي التي اعتاشت عليها لسنوات الطبقة السياسية اللبنانية، وأمّنت هذه الأموال استمرارية الطبقة السياسية في تغذية الاستزلام وشراء الذمم عبر “الخدمات” التي يفترض أن يكون تقديمها محصوراً بيد الدولة.

هذا فضلاً عن جفاف منابع التمويل داخل الموازنات اللبنانية المتعاقبة، التي كان تخصصها الطبقة السياسية لجمعيات على علاقة مباشرة بأحزابها السياسية وبزوجات الزعماء الذين يهاجمون اليوم تمويل جمعيات المجتمع المدني، بعدما استفادوا لسنوات طويلة من مليارات الليرات اللبنانية، التي تعادل ملايين الدولارات في زمن كانت فيه قيمة الليرة مستقرة أمام الدولار.
هكذا نجد أن نبيه بري، رئيس المجلس النيابي وزعيم حركة “أمل”، ينضم إلى أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله في إضفاء نظرية “المؤامرة” على عمل جمعيات المجتمع المدني، قائلاً في آخر تصريحاته “أنتم تعلمون حق العلم من وراءها ومن يدرّبها ومن يموّلها”، سائلاً: “لمصلحة من تقديم منظمات المجتمع المدني على أنها بديل منطقِ الدولة والمؤسسات والجميع يعلم من يدربها. لا ليس هكذا تولد الاستحقاقات؟”. والاستحقاقات هنا انتخابية بشكل أساسي، وهو ما يؤرق الطبقة السياسية، لاعتقادها أن الدعم الذي تناله جمعيات المجتمع المدني، سينسحب إلى دعم مرشحين تابعين لهذا المجتمع، ينافسون في الانتخابات النيابية المقبلة، وقد ينتزعون الكثير من المقاعد من تحت مرشّحي الأحزاب.
ومع انهيار الليرة واضطرار السلطة إلى التقشف في مصادر التمويل الخاصة برموزها بشكل لا يثير الشبهات والغضب، بات التمويل الذي تناله هذه الجمعيات من الدولة غير مجد. وكان الزعماء في السلطة يمنّون النفس أن ينالوا حصتهم من الهبات والأموال التي تصل إلى لبنان عبر الدول وجمعيات المجتمع المدني.
إقرأوا أيضاً:
“لا تبتغي الربح”؟!
ولشرح تفصيلي أعمق لما حدث فعلاً مع مصادر التمويل، نعود إلى ميزانية العام 2018، أي قبل عام واحد من الانهيار الاقتصادي الذي بدأت معالمه بالظهور عام 2019. في تلك الميزانية، تم تخصيص اعتماد 4.867 مليار ليرة لبنانية (كانت تساوي حينذاك نحو ثلاثة ملايين ومئتي ألف دولار أميركي) من أجل مساهمات أو عطاءات قدّمت من وزارة الصحة إلى جمعيّات خاصّة مؤسّسة أو تديرها غالباً زوجات بعض الرؤساء والوزراء الحاليّين والسابقين وزعماء الأحزاب، وكلها مصنفة تحت خانة “جمعيات لا تبتغي الربح”.
هذه الجمعيات استفادت سنوياً من مبالغ مماثلة في كل موازنة على مدار سنوات طويلة. وتبرز من بين الجمعيات المستفيدة، جمعيات ترتبط مباشرة بسياسيين يشنّون اليوم هجوماً على جمعيات المجتمع المدني وتمويلها، وبينهم رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي استفادت زوجته السيدة رندا من تمويل سنوي للجمعية اللبنانية لرعاية المعوقين بلغ 900 مليون ليرة عام 2018 وما يعادله في السنوات التي سبقتها. كذلك، استفاد ابنه عبدالله بري، عبر جمعية “مدرار”، بمبلغ 500 مليون ليرة سنوياً. كما استفادت عشرات البلديات والمؤسسات التابعة لبري من تمويل مشاريعها عبر مؤسسات أجنبية، بينها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID، التي مولت مشاريع في جنوب لبنان والبقاع في قرى وبلدات يسيطر عليها الثنائي الشيعي “أمل” و”حزب الله”.
وعلى غرار بري، استفاد رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. وقد عبّر هو أيضاً عن غضبه من تمويل جمعيات المجتمع المدني إلى حدّ أنه تحوّل إلى “مكافح” شرس للفساد عبر تغريدة نشرها بالإنكليزية (لغة المانحين) يقول فيها: “لمن يهمه الأمر ضاع الكثير من الأموال المخصصة للإغاثة الإنسانية وإعادة بناء المجتمع المدني بسبب الاحتيال والتبديد والانتهاكات”. وجنبلاط استفاد عبر زوجته نورا ومركز سرطان الأطفال الذي تديره بمبلغ مليار ليرة سنوياً من ميزانية الدولة، ولم يسأله أحد قبل ذلك عن ضياع أموال كثيرة في هذا السياق، وفي سياقات أخرى تتصل بصندوق المهجّرين، “بسبب الاحتيال والتبديد والانتهاكات”.
أيضاً، استفاد “حزب الله” من الموازنة المتعلقة بالجمعيات عام 2018 بمبلغ 100 مليون ليرة لبنانية لـ”مؤسسة الشهيد”، والحزب عبر أمينه العام حسن نصرالله ووسائل إعلامه، شنّ هجوماً كبيراً على جمعيات المجتمع المدني التي تعمل في لبنان، ومنظومته كلها تعمل، علناً، بتمويل إيراني صريح.
هذه الأرقام خُفّضت في ميزانية عام 2020 والعام الحالي، في بعض الأحيان إلى النصف تقريباً. فصار تمويل جمعية السيدة بري مثلاً، 450 مليون ليرة. وهذه الأموال خسرت الكثير من قيمتها بعد انهيار الليرة أمام الدولار، فبعدما كانت الـ450 مليون ليرة تساوي 300 ألف دولار أميركي، باتت اليوم تساوي نحو 23 ألف دولار أميركي. وقس على ذلك في الجمعيات الأخرى التي تتبع لزوجات السياسيين. وهذا يفسّر غضب السياسيين من تمويل جمعيات المجتمع المدني فيما تراجعت إيرادات جمعيات الزعماء وزوجاتهم بشكل دراماتيكي مع التقشف وانهيار العملة.
لا نناقش هنا عمل هذه الجمعيات التابعة للسياسيين، ولا تقديماتها، التي يمكن أن تكون مفيدة فعلاً لفئات واسعة من المجتمع اللبناني، خصوصاً على المستوى الإنساني. لكن هذه الجمعيات استفادت من ميزانية الدولة، واستخدمتها لمصلحة الزبائنية، وصبّت هذه الأموال في النهاية في خدمة الأحزاب والزعماء انتخابياً وسياسياً.

“خوش آمديد” مساعدات
أن يخرج الغضب على جمعيات المجتمع المدني، ممن استفادوا لسنوات طوال من ميزانية الدولة، فضلاً عن الهبات الأجنبية، والقروض الهائلة التي خصصت للبنان، لمصالحهم الخاصة ومصالح أحزابهم، من دون رقابة ولا تدقيق مالي، فهذا يدعو إلى إعادة فتح حسابات هؤلاء المتعلقة بهذه الهبات والميزانيات المخصصة لجمعيات تتصل بهم وتنفذ اجنداتهم ومصالحهم. فلا بدّ ان يُسأل بري عن مليارات الليرات التي صرفت لجمعيتين تتصلان بزوجته وابنه، ولا بد ان يُسأل جنبلاط كذلك عن مليارات الليرات التي خصصت لجمعية تتصل بزوجته، فضلاً عن أموال المهرجانات الفنية التي كانت ترأسها نورا جنبلاط في بيت الدين ورنده بري في صور وغيرهما من زوجات السياسيين في المهرجانات المناطقية التي كانت تصرف عليها ملايين الليرات (600 مليون ليرة في موازنة عام 2018) من ميزانية وزارة السياحة.
ولا بدّ أن يُسأل نصرالله عن ملايين الدولارات التي وصلت إلى لبنان بعد حرب تموز، والتي خصصت لإعادة الإعمار عبر جمعيات تتبع مباشرة للحزب، ومنها مؤسسة “جهاد البناء”، التي لم يسائلها أحد يوماً عن مصدر أموالها التي ساهمت فيها بعملية إعادة الإعمار، إضافة إلى ملايين الدولارات التي وصلت كهبات إلى لبنان من دول عربية وخليجية ومن إيران بعد الحرب، ولم نسمع أحداً من مسؤولي الحزب يومها، ولا بري ولا جنبلاط، يسأل عن مصدر الأموال ولا عن كيفية صرفها. بالعكس تماماً، تم التسويق لهذه الهبات عبر خطاب سياسي ممنهج، كان كل طرف فيه يشكر مموله الإقليمي، من “شكراً قطر” إلى “مملكة الخير” و”خوش آمديد” لإيران. وكان الحديث يومها عن “مال حلال”، وبعد تبدّل الأحوال وانقلاب الموازين السياسية، صار المال الخليجي حراماً بالنسبة إلى “حزب الله”، كما يحرّم اليوم مع أركان النظام الآخرين الأموال التي تصل إلى المجتمع المدني بعد تفجير مرفأ بيروت، ولا يستطيعون وضع اليد عليها كما جرت العادة في السنوات السابقة.
لا ضير أبداً من التدقيق في أموال مؤسسات المجتمع المدني ومراقبة طريقة صرفها، حتى لا تنتهي بها الحال كما انتهى بمليارات الدولارات التي عهدت إلى الدولة اللبنانية فصرفتها الأحزاب على منافعها الانتخابية، وعلى تكريس زعامات شخصيات ما برحت تستفيد من مناصبها منذ عشرات السنوات من دون حساب ولا تدقيق ولا مساءلة.
ولا ريب في أن هذه الأحزاب، ومعها زعاماتها السياسية، تخشى من أن يتحول جزء من أموال المجتمع المدني إلى تمويل انتخابي لشخصيات تترشح في وجهها في الانتخابات المقبلة. ما تخشاه هذه الأحزاب وزعاماتها، هو أن تقوم بعض هذه الجمعيات بانتهاج الأسلوب نفسه الذي انتهجته هي على مدى عقود سابقة، عبر صرف أموال المساعدات الإنسانية في صناديق الاقتراع.
إقرأوا أيضاً: