عاد ماثيو هيدغز، طالب الدراسات العليا في العلوم السياسية بجامعة دورهام، إلى بريطانيا بعد قضائه أكثر من ستة أشهر في السجن. ألقي القبض على هيدغز في الخامس من أيار/ مايو في مطار دبي أثناء قيامه برحلة بحثية، وبعد 5 أشهر من الاعتقال اتهمه المدعي العام الإماراتي بالتجسس لمصلحة بريطانيا. وفي الأسبوع الماضي، حُكم على هيدغز بالسجن المؤبد، ما تسبّب في صدمة للمجتمع الأكاديمي وأثار أزمة ديبلوماسية مع الحكومة البريطانية. وفي النهاية، أصدرت الإمارات عفواً رئاسياً عن هيدغز وأُطلق سراحه من السجن.
ومع ذلك، لا تزال القضايا التي أثارها اعتقاله والعقوبة التي صدرت بحقه في غاية الأهمية. لقد تغيرت المخاطر التي يتعرّض لها الباحثون في دول الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة بطرائق قد لا تكون مرئية وواضحة للأكاديميين الذين أجروا أبحاثهم في عصر سابق. إن أبرز الحالات الأخيرة للتهديد المتصاعد الذي يواجهه من يقوم بالأبحاث الأكاديمية هي مقتل طالب الدراسات العليا الإيطالي جوليو ريجيني في مصر واعتقال ماثيو هيدغز في الإمارات العربية المتحدة. وقد ألقت تركيا القبض على آلاف الأكاديميين المحليين كجزء من حملة قمع أوسع نطاقاً على المجتمع المدني. وتعتقل إيران الكثير من الأكاديميين الغربيين داخل سجونها جرّاء تهم تجسس مُبهمة. كما ألقت المملكة العربية السعودية القبض على الكثير من النشطاء البارزين في المجتمع المدني، وقد شملت تلك الحملة بعض الأكاديميين المشهورين مثل هتون الفاسي.
في هذا السياق، يشكك كثر من الأكاديميين الآن في إمكان إجراء أبحاث حساسة من الناحية السياسية في العديد من بلدان الشرق الأوسط. فقد أصبحت الخطوط الحمر في البيئة الحالية للمنطقة، والتي تتحكم في ما يمكن دراسته والكيفية التي يُدرس بها، مبهمة ومظلمة وضبابية. أما في ما يتعلق بالجهود النفيسة المبذولة لإعداد الطلاب بشكل أفضل لمواجهة مثل هذه المخاطر، فإن الحقيقة القاسية هي عدم استطاعة الطلاب تحديد المخاطر بشكل جدي أو حماية أنفسهم في البيئات الغامضة التي تشكلها الأنظمة المتقلبة والمريبة.
إلا أن تجنب إجراء الأبحاث في هذه الدول سيكون له تكلفة باهظة. يعتقد معظم الأكاديميين الذين يقومون بأبحاث العلوم السياسية في الشرق الأوسط بأهمية البحث العميق على أرض الواقع. إذ تعتمد أفضل البحوث، القائمة على أي منهجية، على إقامة طويلة وإلمام ثقافي وخبرة لغوية وإجراء مقابلات واسعة النطاق وأعمال وثائقية. لذا، يُعتبر إجراء البحث على أرض الواقع الطريقة الأفضل لتطوير أفكار جديدة ورؤية القضايا السياسية من خلال العيون المحلية وتجنب الاعتماد على مجموعات البيانات المضللة والافتراضات القديمة. ويبني مثل هذا البحث شبكات ودية من التضامن والتعاون الأكاديمي، والذي يُعتبر ضرورياً ليس لإفادة الباحثين الأجانب وحسب، إنما أيضاً لبناء قدرة الأكاديميات المحلية وكفاءتها.
هل ينبغي لحالات مثل هيدغز وريجيني أن تثني علماء السياسة عن إجراء البحوث في الشرق الأوسط؟ وهل يمكنها ذلك؟ وكيف يؤثر هذا الاتجاه في ممارسة العلوم السياسية في الشرق الأوسط؟
ماثيو هيدغز وأمن الباحثين في دولة الإمارات العربية المتحدة
أثارت القضية المرفوعة ضد هيدغز خوفاً وغضباً واسع النطاق داخل مجتمع العلوم السياسية. وورد في تقارير أن هيدغز قد أُلقي القبض عليه بعد أن أثارت تساؤلاته عن السياسة الخارجية الإماراتية وعمليات جلب السلاح في أعقاب الربيع العربي شبهة أحد الذين أجرى معهم مقابلات. تقع مثل هذه الموضوعات البحثية، على رغم حساسيتها المحتملة الواضحة في دولة الإمارات ذات الطبيعة الاستبدادية والقبضة الأمنية الشديدة، ضمن الاتجاه السائد للعلوم السياسية.
وقد تسبب اعتقاله واحتجازه القاسي والحكم عليه بالسجن المؤبد بصدمة، بخاصة لأن دولة الإمارات العربية المتحدة، على رغم القمع الذي يُمارس ضد نشطاء حقوق الإنسان والمجتمع المدني المدعوم جيداً بالوثائق، كانت تُعد الأكثر أماناً بين دول المنطقة. كانت الإمارات العربية المتحدة قد اكتسبت سمعة طيبة كشريك للمؤسسات الأكاديمية الغربية، إذ تستضيف فروعاً جامعية مثل جامعة نيويورك أبو ظبي وتغدق على الجامعات والمراكز البحثية بالأموال. كما اُعتبرت مكاناً ذا أهمية كبيرة لعقد المؤتمرات الأكاديمية والسياسية. وكانت تعتمد غالباً على رفض التأشيرات والترحيل والرقابة الذاتية التي تقوم بها المؤسسات الغربية التي تأمل بالحصول على تمويل لمنع الأبحاث النقدية.
كان من الممكن أن يظل هيدغز في السجن مدى الحياة لولا الحملة الشعبية الكبيرة لضمان الإفراج عنه. أفادت التقارير بأن السفارة البريطانية لم تفعل الكثير من أجله خلال خمسة أشهر، حيث فشلت الديبلوماسية الهادئة في ضمان الإفراج عنه. أصبحت قضية اعتقاله مسألة سياسية ساخنة في وسائل الإعلام البريطانية، بعد أن تحدثت زوجته إلى الناس، ما أشعل في نهاية المطاف فتيل أزمة خطيرة في العلاقات البريطانية الإماراتية. أصدرت الجمعيات المهنية الأكاديمية الرئيسية، بما في ذلك جمعية دراسات الشرق الأوسط ورابطة العلوم السياسية الأميركية، بيانات قوية تعرب فيها عن قلقها حيال تلك القضية. وكذلك فعلت منظمات حقوق الإنسان الرائدة. ووقع أكثر من 100 أكاديمي بارز خطاباً مفتوحاً لدعم قضية هيدغز.
وفي النهاية، قامت وزارة الخارجية البريطانية بالمشاركة بعمق في مفاوضات لضمان إطلاق سراحه. يتمثل أحد الدروس المستفادة في أن مثل هذه الحملة العامة يمكن أن يكون لها تأثيرٌ حقيقيٌ في ظل ظروف معينة. لكن أحد الدروس الأخرى هو: ليس كل أكاديمي معرض للخطر يحصل على هذا المستوى العالي من الدعم العام والخاص بشكلٍ مستمر أو أن تصبح قضيته كافية لتعريض تحالف وثيق للخطر.
ردت الإمارات العربية المتحدة على هذا الضغط العام بالدفاع عن التهم الموجهة لهيدغز بصورة عنيفة. وأفادت التقارير بأن الإمارات أرادت من بريطانيا الاعتراف بأن هيدغز جاسوس كشرط لإطلاق سراحه، بيد أن وزارة الخارجية البريطانية استمرت في إنكار هذه المزاعم. وما يثير القلق في هذه القضية أيضاً هو عدم ذهاب الأكاديميين الإماراتيين للدفاع عن زميلهم المستجد أو حتى الدفاع عن الحق في إجراء أبحاث حساسة سياسياً. وما قيل إن القضية ضد هيدغز بدأت عندما أبلغ عنه أحد الأشخاص الذين أجرى معهم مقابلة، إضافة إلى الدور الذي لعبه أحد كبار علماء السياسة في الإمارات العربية المتحدة في الدفاع عن قضية الحكومة المرفوعة ضد هيدغز، لهي إشارة مروعة حول سلامة الباحثين في دولة الإمارات العربية المتحدة في المستقبل.
التهديد الذي يواجهه الباحثون في مصر
جاءت قضية هيدغز في أعقاب جريمة القتل الأكثر بشاعة لطالب الدراسات العليا الإيطالي جوليو ريجيني. تعرض ريجيني للاختفاء القسري وقُتل قبل عامين أثناء إجرائه بحثاً حول النشاط العمّالي في مصر. تسبب موته في زلزلة المجتمع الأكاديمي، ما أثار موجة عاتية من التساؤلات التي طرحها الطلاب والهيئات التعليمية والمؤسسات عما إذا كان لا يزال ممكناً القيام بأبحاث في العلوم السياسية في مصر والتشاور بشأن كيفية ضمان سلامتهم. زاد مقتل ريجيني من اتجاه واسع النطاق، لكنه غير رسمي، نحو منع سفر الطلاب إلى مصر وإجراء الأبحاث فيها، ذلك الاتجاه الذي كان بدأ بالفعل في أعقاب الانقلاب العسكري بمصر في تموز/ يوليو 2013.
ريجيني ما هو إلا أبرز الضحايا في مصر. إذ تحتجز السجون المصرية عشرات الآلاف من السجناء السياسيين، بما في ذلك مجموعة واسعة من نشطاء المجتمع المدني والصحافيين والأكاديميين. في الوقت الحالي، إن أحد طلاب الدراسات العليا المصريين في العلوم السياسية من مؤسسة أميركية، والذي لم يحصل على الدعاية والشهرة التي حصل عليه هيدغز، ويدعى وليد سالم من جامعة واشنطن، قد سُجن أكثر من 6 أشهر بعد إلقاء القبض عليه، مثله مثل هيدغز، جرّاء إجرائه مقابلات متعلقة بسياسات القضاء المصري.
هل ما زالت الأبحاث في الشرق الأوسط أمراً ممكناً؟
سلطت حالات مثل هيدغز وريجيني وسالم الضوء على الحيرة والشك بشأن الخطوط الحمراء التي تتحكم في إجراء البحوث في الأنظمة الاستبدادية العربية. بدا إجراء الأبحاث أمراً طبيعياً ومقبولاً تماماً منذ بضعة أعوام، أما الآن فيمكنه أن يتسبب في فرض عقوبات رسمية بالغة الصرامة. وقد لا يكفي تجنب مثل هذه البحوث والالتزام بالمواضيع الآمنة أو دراسة اللغة. ففي تموز، أُلقي القبض على سائحة لبنانية وحُكم عليها بالسجن لمدة 8 سنوات لقيامها بنشر شكوى على صفحتها على موقع “فيسبوك” حول تعرضها للتحرش الجنسي. ما الذي يمكن أن يُتوقع من طالب يتوخى الحذر على الإنترنت بما فيه الكفاية لتجنب هذه المراقبة؟
أبرزت مثل هذه الحالات، إلى جانب الصعوبة الواضحة في إجراء الأبحاث في البلدان التي مزقتها الحروب مثل سوريا وليبيا واليمن، مسألة القدرة على إجراء الأبحاث بأمان، والتي كانت منذ فترة طويلة جوهر العلوم السياسية في الشرق الأوسط. حذرت “جمعية دراسات الشرق الأوسط” من أن إصدار أي عقوبات على هيدغز من شأنه أن “يبعث بموجات صادمة داخل المجتمع الأكاديمي ويجبر الجامعات على إعادة تقييم الإمارات كمكان آمن لإجراء البحوث العلمية”. كذلك منعت مؤسسات بريطانية كثيرة سفر الموظفين والطلاب إلى الإمارات العربية المتحدة رداً على قضية هيدغز، كما منعت مؤسسات أكاديمية غربية بشكل غير رسمي البحث والدراسة في مصر. ويبدو أن مثل هذه الإجراءات مناسبة بالنظر إلى مستويات المخاطر الجديدة، ولكنها تهدد بفقدان الدراسة الأكاديمية للمنطقة بشكل جذري وقطع الروابط الحيوية بين الأكاديميين الغربيين والشرق أوسطيين.
يتمثل أحد الحلول في اتخاذ خطوات معززة لتوقع واستباق المخاطر والتخفيف من حدتها. الحل الآخر هو القيام بحملات عامة مستمرة والضغط الديبلوماسي لزيادة الثمن الذي تدفعه الحكومات الإقليمية لانخراطها في مثل هذه التجاوزات ضد الباحثين الأكاديميين. لكن ثمة حدوداً لمثل هذه الجهود. فالخطوط الحمراء مبهمة وغير واضحة، والعقوبات شديدة القسوة والوحشية، فضلاً عن شدة ضعف الحماية التي توفرها السفارات الغربية. وقد يؤدي ذلك إلى زيادة الأبحاث حول الموضوعات “الآمنة” في البلدان “الآمنة”، أو إجراء البحث بالاعتماد على مصادر ثانوية أو الاستعانة بمصادر خارجية نظراً إلى الخطر الذي يتعرض له العلماء المحليون. لا شيء من هذا يبشر بالخير في مجال العلوم السياسية أو لفهم أفضل للشرق الأوسط.
هذا المقال مترجم عن موقع Washington Post ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي