fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

متجولاً بين وكالة سانا ومنزل نزيه أبو عفش

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نزيه سريع العطب، وقد كسرته الدماء التي أريقت في بلاده، فارتبك ووقف مع القاتل ضدّ القتيل. ونزيه الذي كنّا نتداول دواوينه كمنشورات للحرية، قال قبل أشهر فقط: «قبّح الله الحرية”.. انكسار نزيه كسر فيّ شيئا ثميناً لا يستطيع أن يعوّضه أحد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في هذه المادّة يتابع الكاتب السوري وائل السّواح سرديّته عن جيل آخر من شعراء اليسار السوري في السبعينات واحتكار الإعلام من قبل حزب البعث في سوريا.

كان العمل في وكالة سانا مملّا، لولا بعض المسرّات. من هذه المسرّات رئيس الفترة لؤي معروف ورئيس الفترة الآخر صفوان غانم، البعثي الذكي الذي صار مديرا للإذاعة قبل أن يتحوّل إلى دبلوماسي. ومن المسرّات أيضا أن مبنى الوكالة (القديم في السبع بحرات) كان قريباً جداً من بيت أميرة شيحا حيث كنت أهرب من العمل أحيانا لأزور تلك العائلة النبيلة. ومسّرة صغيرة أخرى كان يضيفها بائع فلافل على عربة، كان يقف قبالة الوكالة في مدخل حديقة الأرسوزي، وكان يقدّم أفضل سندويشة فلافل عربي في كلّ المدينة. ولكنّ التي كانت تضيء الوكالةَ بكلّ اقسامها بحضورها الدافئ وابتسامتها المتخابثة وجمالها السوري الأصيل كانت سيّدة أخطأت الطريق فغدت صحفية في الوكالة، وسأسّميها هنا باسم الدلع الذي كنا نناديها به: هيفونة. كانت هيفونة تفيض أنساً وحبوراً على كلّ الوكالة. حين لم تكن تكتب خبراً (ونادراً ما كانت تفعل) كانت تنتقل من قسم لقسم، حاملةً معها روحاً خفيفة تغمر المكان بالألفة والمودّة. زارني مرّة في الوكالة الشاعر الفلسطيني الراحل أحمد دحبور، فوقعتْ في هواه، ولم تخفِ ذلك على أحد.

مقر وكالة سانا في دمشق

أعرف أحمد منذ طفولتي. كان صديقا لأخي سحبان في مدينتي الجميلة الوادعة حمص. كان أحمد في الثانية من عمره حين حمله أهله، هرباً من الموت، من مدينة حيفا على الساحل الفلسطيني وجاؤوا به إلى حمص. وقد صار حمصياً أكثر من معظم الحماصنة الذين عرفتهم، ولكن حيفا وفلسطين بقيتا في أعمق نقطة في وجدانه. كان يزور أخي في بيتنا في قلب المدينة، قادماً من مخيم الفلسطينيين جنوب حمص، محمّلا بقصائده وقلقه وأسئلته، وكان يقرأ لأخي آخر قصائده، ويسمع منه آخر قصصه، ثم يغوص الفَتَيان في نقاش حميم حول الشعر والحداثة والوجودية. كلاهما، أحمد وسحبان، حمل أسئلة أكبر من وعيه، وحاول الإجابة عنها، دون جدوى. وكنت أجلس في طرف غرفة الضيوف، أستمع إلى الشعر والقصة والنقاش، دون أن أتنفس، مخافة أن يطلب مني أخي مغادرة الغرفة. عرفت أحمد أكثر في تشرين الثاني/أكتوبر 1973، كان سحبان قد عاد لتوّه من الجبهة مثخناً بجروح حارقة. كنت في زيارة إلى خالتي الجميلة الوحيدة القريبة منا، حين جاء أبي يطلبني في ساعة متأخرة من المساء.

“جاء سحبان”، قال لي. فانخلع قلبي، وسألته:

“به شيء؟”

“إنه حيّ. هذا هو المهم.”

جريت صوب البيت، وقفزت الدرجات وثباً إلى الشقة، ونظرت إليه: كان وجهه وعنقه ويداه سوداء كلّها، ومن وراء السواد، برقت عيناه اللطيفتان، وافترت شفتاه عن ابتسامة متعبة، عانقته، ولكن أمي سحبتني بلطف، لكيلا أزيد في أوجاعه.

بعد أيام زارنا أحمد دحبور، ليطمئن على صديقه. كان وضع سحبان قد تحسّن، وراح يحدّث أحمد عن الحرب وعن إصابته وكامل طاقم الدبابة التي كان يقودها.

كان لسحبان تأثير كبير عليّ في طريقة النظر إلى الأمور وعيش الحياة يوما بيوم. علّمني كتابة القصة وساعدني في نشر قصصي الأولى. وتعلّمت من قصصه رشاقة العبارة وقوة الكلمة وكيف تتحول الجملة إلى نسمة تدخل روحك بدون استئذان. ساعدتني ابتسامته الدائمة وضحكه العريض على تقبل مصاعب الحياة. وساعدتني شجاعته في ثلاثة حروب على فهم أن لأي قضية ثمناً ينبغي التمتع بدفعه. أصيب سحبان في 1967 عندما ترك الجامعة ليدافع عن العاصمة. أرسله البعثيون دون تدريب ولا تغطية إلى الجبهة فأصيب بقدمه، وفي أيلول الأسود دخل الأردن ليدافع عن الفلسطينيين، وعاد هذه المرّة دون إصابة، ودون أن ينصر الفلسطينيين، وفي 1973 أصيبت دبابته ورشم كامل جسمه بوشم من الشظايا، لا يزال بعضها في عنقه حتى اليوم. تعلّمت من سحبان الشجاعة: لم يكن أبداً عضواً في أي حزب معارض، ولكنه عارض سلطة البعث في كل كلمة وسلوك له. واستدعي مراراً للتحقيق ثم اضطر إلى الهرب من دمشق في ليلة ليلاء، تاركاً خلفه دار النشر الخاصة به وكتبه وبيته، إلى قبرص ليعيش فيها سنوات. أثناء سجني لم يتخلف مرة واحدة عن زيارتي، وفي كل زيارة كان يبثّ فيّ القوة والأمل والقدرة على الصمود.

ولكن سحبان ليس رجل سياسة. هو رجل الحياة: في كل ما يفعله ثمة دفقة حياة. كان أول من صحبني إلى ديسكوتيك وأول من صحبني إلى خمارة فريدي وأول من عرفني على امرأة. وكان مدخلي إلى كوكب من الأصدقاء. عن طريقه تعرفت على فاتح المدرس وسعد الله ونوس وناديا خضور ومصطفى الحلاج وصخر فرزات وعائشة أرناؤوط ونزيه أبو عفش وأحمد دحبور وتوفيق الأسدي ونبيل حفار وكان مدخلي لمعرفة دمشق وقد جئت إليها في السابعة عشرة خائفاً، مرتبكاً، وتائقاً في آن معا، فصحبني في شوارعها وحاراتها ومكتباتها ومقاهيها وباراتها. ولكن أهم من ذلك، دلني على التقاط الروح في الأشياء. روح الكلمة، وروح المقهى، وروح اللوحة، وروح فنجان القهوة والجريدة والمنضدة التي تضع عليها كتابك بعد أن تنتهي من قراءته ليلا ثم تأوي إلى النوم.

وقال سحبان لأحمد، “لقد رأيت مياه طبريا. رأيت فلسطين، يا أحمد.” وأحمد، الولد الفلسطيني كما يدعو نفسه، وكما دعوناه جميعا، كان يبتسم، ويقول: “أنت رأيت فلسطين، وأنا ههنا قاعد.”

في الخامسة عشرة نشر أحمد أول قصيدة له بعنوان ” همسات “في مجلة ثقافية حمصية، أيام كانت حمص تصدر أربع جرائد يومية ومجلات متخصصة في الأدب والثقافة والشعر، وفي الثامنة عشرة نشر أول مجموعة له “الضواري وعيون الأطفال” في حمص ايضا، ثمّ توالت مجموعاته التي كان في كلّ منها يجرّب عالما جديدا من اللغة والصورة والتركيب.

أذكر، أن الجبل العظيم كان يمشي

والمطر الذي يروِّي القمح لا يبلل الأطفال

أذكر أن جارنا الحمّال

توجّني بكعكة،

وقال لي: كن ملكاً في الحال

وهكذا وجدت نفسي ملكاً… والذكريات جيشي

أذكر أن الجبل العظيم كان يمشي

من شفتيْ أبي إلى خيالي

وكانت الثمار في سلالي.  

كم أثرى هذا الرجل حياتي. خين خرجت من السجن، أرسل لي من تونس رسالة يهنئني ويدعوني إلى تونس، حيث كان مقر منظمة التحرير الفلسطينية، وحيث عمل أحمد مديراً لدائرة الثقافة الفلسطينية ورئيساً لتحرير مجلة البيادر. لم أذهب بالطبع، ولكن حين مات أحمد في عام 2017، أحسست بالغبطة لأن الرجل الذي لم يستطع الموت في حمص، مات في فلسطين، قريباً من مسقط رأسه حيفا.

شاعر آخر سيلعب دوراً كبيراً في ذائقتي الشعرية تعرفّت إليه أثناء نقاهة سحبان من جروحه وحروقه في الحرب. هو نزيه أبو عفش الذي جاء أيضا يزور الجريح ويواسيه. كنت قرأت لنزيه مجموعته “حوارية الموت والنخيل” وأغرمت بها.

نزيه وأحمد ولدا في نفس السنة 1946: أحمد في حيفا ونزيه في مرمريتا بوادي النصارى بحمص. في دمشق، توطّدت علاقتي بنزيه كثيرا، وصرت أزوره في بيته في جادّة الخطيب مرّة أو مرّتين أسبوعيا، نشرب العرق ونأكل ما تجود به يدا زوجته اللطيفة ناديا. تحتاج إلى صبر غريب، لكي تحبّ نزيه، ولكن ما إن تألفه حتى تتولّع به. قد تجلس إليه سهرة بأكملها لا تنبسان بأي كلمة، ولولا السماحة التي تضفيها ناديا على الجلسة، فستشعر بأنك ضيف ثقيل. ولكنني كنت أعرف أنني لم أكن ضيفاً ثقيلاً، لسبب وحد: لو كنت كذلك لما خجل نزيه من طردي من منزله، وقد فعل ذلك مراراً مع آخرين. يحبّ نزيه الصيد، ويعزف على العود، ويدندن أحيانا أغنية وديع الصافي “عم حلّفك بالغصن يا عصفور”، ويعتني بعصافيره حين لا يكون صريع الشقيقة، وقد حقن نفسه بإبرة فيها مزيج من الفاليوم ومسكن النيسيدينا القوي، لكي يهدأ الوجع الصارخ في صدغيه قليلا. وحين سأله في منزله شاعر ملتزم كيف يقتل العصافير بينما يهتمّ بها في بيته، انفجر في وجهه قائلا: “إي سيدي، أنا بقتل العصافير بالبريّة وبدللها ببيتي. عندك مشكلة؟” والشاعر الذي جرحت كبرياءه ترك كأسه وصحنه المليء بالباذنجان المقلي، وخرج غاضباً. ولم يحاول نزيه منعه.

كان نزيه يسكن بيتا صغيرا جدا (كان أساسا كراجا خاصّا في بناية) في جادة الخطيب القريبة من فرع الأمن الداخلي التابع لإدارة المخابرات العامة، وهو الفرع المتخصص بملاحقتنا في رابطة العمل، وفي كلّ مرّة كنت أزوره، كان قلبي ينخلع من مكانه حين أمرّ بجوار الفرع، وأتخيل رفاقي يعانون في دخله.

رافقت نزيه في تحولاته الشعرية من قصيدة الستينات الغنائية التي تُعني بالجملة أكثر من الصورة والبناء أكثر من جدّة الفكرة، إلى عالم خاص أوجده شعراء السبعينات، بمن فيهم رياض الصالح الحسين وبشير البكر ومنذر المصري ومرام المصري ومحمد خير علاء الدين وحسان عزّت. ونزيه، الذي  كان في طليعة هذه القافلة، أوجد معاني جديدة لله وللعشق وللبلاد وللبشر العاديين، وبعث هذه المعاني في كلمات بسيطة، ولكنها مؤلمة حدّ القبح:

“يكفي…!”

إكراماً “لنا” سأقولُ: “يكفي!”

ليسَ لأنهُ يكفي

بل، فقط، لنرتاحَ مِن حَملِ كلِّ هذه الأسلحةِ وهذه التوابيت

ونتركَ البابَ مفتوحاً لـِما نحن في أَمَسِّ الحاجةِ إليه

مِنْ عقاقيرِ الندمِ، والمغفرةِ، والـ… نِسيانْ).

نزيه أبو عفش

مثل معظم أبناء جيله، قرأ نزيه سارتر وكامو وكولن ويلسون، وكان عنده أكثر من غيره أسئلة قلقة لا يجد أجوبة لها، وكسرته من الداخل، كما كسرتنا جميعا، هزيمة حزيران، بيد أنه لم يلجأ للصراخ الخارجي، انكفأ إلى الداخل. نادراً ما كنت تلتقي نزيه في مقهى أو خمّارة، ولكنك قد تلمحه أحياناً يسير في الليل وحيداً أو برفقة صديق أو صديقة، يتحدّثان أحيانا بالكلمات وأحياناً بالصمت. ونزيه سريع العطب، وقد كسرته الدماء التي أريقت في بلاده، فارتبك ووقف مع القاتل ضدّ القتيل. ونزيه الذي كنّا نتداول دواوينه كمنشورات للحرية، نزيه الذي وقّع على بيان الـ 99، نزيه الذي كتب مرة “كم من البلاد ايتها الحريّة”، قال قبل أشهر فقط: «قبّح الله الحرية، أنا أخاف من هذه الحرية، أحتاج اليوم نظاماً، أريد ستالين، أريد القيصر إيفان الرهيب.” انكسار نزيه كسر فيّ شيئا ثميناً لا يستطيع أن يعوّضه أحد.

إذن، أحبّت هيفونة أحمد دحبور الشاعر الوسيم بعينيه الناعستين وشاربيه الأسودين اللطيفين. كانت هيفونة سيدة سورية من آخر جيل متحرر في سوريا، قبل أن تلفحنا رياح التعصب والسلفية والتديّن الأجوف والتنافس الرخيص في الله، وهيفونة العاشقة عطّرت بعشقها مبنى الوكالة الكئيب ولوّنته بألوان ربيع دائم.

كان عملي في الوكالة محرّر أخبار أجنبية، وهو يعني حرفياً سرقة الأخبار من الوكالات ونسبتها إلى سانا. فخبر زيارة رئيس وزراء الهند إلى اليابان يأتي من طوكيو أو نيودلهي باسم سانا، رغم أن الوكالة لم يكن لديها مراسلون هناك. وكنت آخذ خبر رويترز أو الأسوشييتد برس، فألوي عنقه وأنسبه إلى سانا، مع ذكر اسم الوكالة الأصلية مرّة واحدة عرضاً. وحين كنت أشتكي للؤي معروف، كان يقول لي بكلبيته المحبّبة: “لم تشغل بالك؟ كم تقبض في اليوم الواحد؟ ترجم خبرين أو ثلاثة، فهم لا يستحقون أكثر.”

بسبب أفكاري الماركسية ركزت أكثر على أخبار الأنظمة العنصرية في أفريقا: روديسيا (زمبابوي) وجنوب أفريقيا وناميبيا. وغطيت بحماس أخبار الأسقف ديزموند توتو والزعيم المناضل وقتها روبرت موغابي. لم يخطر ببالي آنذاك أن المناضل اليساري الذي عشقته سوف يدمّر بلاده، بعد طرد العنصريين من زمبابوي، ويقتل ويعذّب مواطنيه ويتشبث في الحكم نحو أربعة قرون، اسوة بكثير من المناضلين اليساريين الذين تقلّدوا مقاليد الحكم في كوريا وكوبا واليمن الجنوبي.

كنت في نوبة مسائية، برفقة لؤي معروف وهيفونة وصحفية شقراء جميلة نسيت اسمها ومخبر مداوم سمين يعرف الإنكليزية أفضل بقليل من معرفتي باليابانية، يجلس إلى مكتبه وبجانبه قاموس المورد، يبحث فيه عن كلمات الخبر كلمة كلمة، ثم يترجم الخبر ويعطيه لرئيس الفترة، الذي يعيد صياغته بصمت قبل أن يرسله. كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل بقليل، حين رنّ الهاتف على مكتب رئيس الفترة. رفع لؤي السماعة، واصغى للحظات، ثمّ وضع السمّاعة، والتفت إلي، وقال: “الحجّي يطلبك”.

الحجي كان رئيس التحرير قاسم ياغي. وهو لم يطلب أيا من المحرّرين لخيرٍ أبدا. التفتت هيفونة إلي، وقالت نصف ضاحكة نصف قلقة: “بتضلّك بتشاغب؟ ما رح تنضبّ؟” اغتصبت ابتسامة وارتقيت الدرج إلى مكتب رئيس التحرير، فدخلته راسما شبح ابتسامة على وجهي. جميعنا كان يعلم أن المخابرات، وليس وزير الإعلام، هي من عيّن الرجل في منصبه. كان الحجّي في بدلة ركض jogging suit (رغم أنه لم يركض في حياته)، وبادرني بدون كلمة ترحيب:

“من الذي حرّر هذا الخبر؟”

وأعطاني ورقة التيليبرنتر. كان الخبر عن أحد انتهاكات حكومة الأرجنتين العسكرية التي جاءت بانقلاب عسكري قاده الجنرال خورخي رافائيل فيديلا قبل سنة.  اثناء تحريري للخبر، أضفت عبارة “حكومة الأرجنتين الفاشية”. وأجبته: “أنا”، فسحب الورقة مني من جديد وقال لي:

“أين وردت كلمة فاشية في الخبر؟” لم يكن الحجّي يجيد العربية ناهيك عن الإنكليزية.

“لم تَرِدْ.”

فصاح وشرر يتطاير من عينيه وزبد يتقاذف من فمه: “كيف تضيف كلمة غير موجودة في الأصل؟”

قلت له إنني محرر وكالات ولست مترجما وإن المحرّرين يضيفون أحياناً، كما نفعل حين نبدّل كلمة إسرائيل كلما وردت إلى “الكيان الصهيوني”. ولكنه لم يكن يصغي. كان يُزبد. صاح بي:

“أتعرف ماذا فعلتَ الليلة؟ لقد خلقت أزمة دبلوماسية بيننا وبين بلد صديق. لقد اتصل سفير الأرجنتين بوزير الخارجية محتجاً، واتصل وزير الخارجية بوزير الإعلام، الذي اتصل بي (لسبب ما لمّ يمر الوزير عن طريق المدير العام كما تتطلّب اللياقة)، وسحبني من سريري في منتصف الليل.”

لم تفد حجّتي بشيء. قال:

“كنت أعرف أنك يساري، ولكن أن تكون شيوعيا شيء آخر.”

قلت مدافعا: “إذا تقصد ماركسي فأنا لا أنفي.”

“بل أقصد شيوعي. ولا مكان للشيوعيين في سانا.”

“ولكن الشيوعيين في الجبهة،” قلت في محاولة أخيرة للدفاع.

حجّة أخرى لم تفد بشيء.

“انزل. خذْ أغراضك وغادر، ولا تعد غدا. تعال آخر الشهر واقبض أجر الأيام التي داومتها.”

استدرت لأخرج، مشيت خطوة أو اثنتين. توقفّت عند الباب، واستدرت نحو الرجل الذي بدا لي وكأنه يتشاغل بقراءة شيء ما.

“وكالة أنباء من لون واحد ليست وكالة. إنها مدرسة حزبية،” قلت.

لم أنتظر ردّه، فتحت الباب وخرجت، وصفقت الباب خلفي، فأصدر في سكون الليل دويّا لا يزال يطنّ في أذني.

إقرأ أيضاً:

في سجن تدمر كنا نلمحهم من بعيد

وقال لي صاحب الخمّارة: هذه طاولة أبيك

21.09.2018
زمن القراءة: 10 minutes

نزيه سريع العطب، وقد كسرته الدماء التي أريقت في بلاده، فارتبك ووقف مع القاتل ضدّ القتيل. ونزيه الذي كنّا نتداول دواوينه كمنشورات للحرية، قال قبل أشهر فقط: «قبّح الله الحرية”.. انكسار نزيه كسر فيّ شيئا ثميناً لا يستطيع أن يعوّضه أحد.

في هذه المادّة يتابع الكاتب السوري وائل السّواح سرديّته عن جيل آخر من شعراء اليسار السوري في السبعينات واحتكار الإعلام من قبل حزب البعث في سوريا.

كان العمل في وكالة سانا مملّا، لولا بعض المسرّات. من هذه المسرّات رئيس الفترة لؤي معروف ورئيس الفترة الآخر صفوان غانم، البعثي الذكي الذي صار مديرا للإذاعة قبل أن يتحوّل إلى دبلوماسي. ومن المسرّات أيضا أن مبنى الوكالة (القديم في السبع بحرات) كان قريباً جداً من بيت أميرة شيحا حيث كنت أهرب من العمل أحيانا لأزور تلك العائلة النبيلة. ومسّرة صغيرة أخرى كان يضيفها بائع فلافل على عربة، كان يقف قبالة الوكالة في مدخل حديقة الأرسوزي، وكان يقدّم أفضل سندويشة فلافل عربي في كلّ المدينة. ولكنّ التي كانت تضيء الوكالةَ بكلّ اقسامها بحضورها الدافئ وابتسامتها المتخابثة وجمالها السوري الأصيل كانت سيّدة أخطأت الطريق فغدت صحفية في الوكالة، وسأسّميها هنا باسم الدلع الذي كنا نناديها به: هيفونة. كانت هيفونة تفيض أنساً وحبوراً على كلّ الوكالة. حين لم تكن تكتب خبراً (ونادراً ما كانت تفعل) كانت تنتقل من قسم لقسم، حاملةً معها روحاً خفيفة تغمر المكان بالألفة والمودّة. زارني مرّة في الوكالة الشاعر الفلسطيني الراحل أحمد دحبور، فوقعتْ في هواه، ولم تخفِ ذلك على أحد.

مقر وكالة سانا في دمشق

أعرف أحمد منذ طفولتي. كان صديقا لأخي سحبان في مدينتي الجميلة الوادعة حمص. كان أحمد في الثانية من عمره حين حمله أهله، هرباً من الموت، من مدينة حيفا على الساحل الفلسطيني وجاؤوا به إلى حمص. وقد صار حمصياً أكثر من معظم الحماصنة الذين عرفتهم، ولكن حيفا وفلسطين بقيتا في أعمق نقطة في وجدانه. كان يزور أخي في بيتنا في قلب المدينة، قادماً من مخيم الفلسطينيين جنوب حمص، محمّلا بقصائده وقلقه وأسئلته، وكان يقرأ لأخي آخر قصائده، ويسمع منه آخر قصصه، ثم يغوص الفَتَيان في نقاش حميم حول الشعر والحداثة والوجودية. كلاهما، أحمد وسحبان، حمل أسئلة أكبر من وعيه، وحاول الإجابة عنها، دون جدوى. وكنت أجلس في طرف غرفة الضيوف، أستمع إلى الشعر والقصة والنقاش، دون أن أتنفس، مخافة أن يطلب مني أخي مغادرة الغرفة. عرفت أحمد أكثر في تشرين الثاني/أكتوبر 1973، كان سحبان قد عاد لتوّه من الجبهة مثخناً بجروح حارقة. كنت في زيارة إلى خالتي الجميلة الوحيدة القريبة منا، حين جاء أبي يطلبني في ساعة متأخرة من المساء.

“جاء سحبان”، قال لي. فانخلع قلبي، وسألته:

“به شيء؟”

“إنه حيّ. هذا هو المهم.”

جريت صوب البيت، وقفزت الدرجات وثباً إلى الشقة، ونظرت إليه: كان وجهه وعنقه ويداه سوداء كلّها، ومن وراء السواد، برقت عيناه اللطيفتان، وافترت شفتاه عن ابتسامة متعبة، عانقته، ولكن أمي سحبتني بلطف، لكيلا أزيد في أوجاعه.

بعد أيام زارنا أحمد دحبور، ليطمئن على صديقه. كان وضع سحبان قد تحسّن، وراح يحدّث أحمد عن الحرب وعن إصابته وكامل طاقم الدبابة التي كان يقودها.

كان لسحبان تأثير كبير عليّ في طريقة النظر إلى الأمور وعيش الحياة يوما بيوم. علّمني كتابة القصة وساعدني في نشر قصصي الأولى. وتعلّمت من قصصه رشاقة العبارة وقوة الكلمة وكيف تتحول الجملة إلى نسمة تدخل روحك بدون استئذان. ساعدتني ابتسامته الدائمة وضحكه العريض على تقبل مصاعب الحياة. وساعدتني شجاعته في ثلاثة حروب على فهم أن لأي قضية ثمناً ينبغي التمتع بدفعه. أصيب سحبان في 1967 عندما ترك الجامعة ليدافع عن العاصمة. أرسله البعثيون دون تدريب ولا تغطية إلى الجبهة فأصيب بقدمه، وفي أيلول الأسود دخل الأردن ليدافع عن الفلسطينيين، وعاد هذه المرّة دون إصابة، ودون أن ينصر الفلسطينيين، وفي 1973 أصيبت دبابته ورشم كامل جسمه بوشم من الشظايا، لا يزال بعضها في عنقه حتى اليوم. تعلّمت من سحبان الشجاعة: لم يكن أبداً عضواً في أي حزب معارض، ولكنه عارض سلطة البعث في كل كلمة وسلوك له. واستدعي مراراً للتحقيق ثم اضطر إلى الهرب من دمشق في ليلة ليلاء، تاركاً خلفه دار النشر الخاصة به وكتبه وبيته، إلى قبرص ليعيش فيها سنوات. أثناء سجني لم يتخلف مرة واحدة عن زيارتي، وفي كل زيارة كان يبثّ فيّ القوة والأمل والقدرة على الصمود.

ولكن سحبان ليس رجل سياسة. هو رجل الحياة: في كل ما يفعله ثمة دفقة حياة. كان أول من صحبني إلى ديسكوتيك وأول من صحبني إلى خمارة فريدي وأول من عرفني على امرأة. وكان مدخلي إلى كوكب من الأصدقاء. عن طريقه تعرفت على فاتح المدرس وسعد الله ونوس وناديا خضور ومصطفى الحلاج وصخر فرزات وعائشة أرناؤوط ونزيه أبو عفش وأحمد دحبور وتوفيق الأسدي ونبيل حفار وكان مدخلي لمعرفة دمشق وقد جئت إليها في السابعة عشرة خائفاً، مرتبكاً، وتائقاً في آن معا، فصحبني في شوارعها وحاراتها ومكتباتها ومقاهيها وباراتها. ولكن أهم من ذلك، دلني على التقاط الروح في الأشياء. روح الكلمة، وروح المقهى، وروح اللوحة، وروح فنجان القهوة والجريدة والمنضدة التي تضع عليها كتابك بعد أن تنتهي من قراءته ليلا ثم تأوي إلى النوم.

وقال سحبان لأحمد، “لقد رأيت مياه طبريا. رأيت فلسطين، يا أحمد.” وأحمد، الولد الفلسطيني كما يدعو نفسه، وكما دعوناه جميعا، كان يبتسم، ويقول: “أنت رأيت فلسطين، وأنا ههنا قاعد.”

في الخامسة عشرة نشر أحمد أول قصيدة له بعنوان ” همسات “في مجلة ثقافية حمصية، أيام كانت حمص تصدر أربع جرائد يومية ومجلات متخصصة في الأدب والثقافة والشعر، وفي الثامنة عشرة نشر أول مجموعة له “الضواري وعيون الأطفال” في حمص ايضا، ثمّ توالت مجموعاته التي كان في كلّ منها يجرّب عالما جديدا من اللغة والصورة والتركيب.

أذكر، أن الجبل العظيم كان يمشي

والمطر الذي يروِّي القمح لا يبلل الأطفال

أذكر أن جارنا الحمّال

توجّني بكعكة،

وقال لي: كن ملكاً في الحال

وهكذا وجدت نفسي ملكاً… والذكريات جيشي

أذكر أن الجبل العظيم كان يمشي

من شفتيْ أبي إلى خيالي

وكانت الثمار في سلالي.  

كم أثرى هذا الرجل حياتي. خين خرجت من السجن، أرسل لي من تونس رسالة يهنئني ويدعوني إلى تونس، حيث كان مقر منظمة التحرير الفلسطينية، وحيث عمل أحمد مديراً لدائرة الثقافة الفلسطينية ورئيساً لتحرير مجلة البيادر. لم أذهب بالطبع، ولكن حين مات أحمد في عام 2017، أحسست بالغبطة لأن الرجل الذي لم يستطع الموت في حمص، مات في فلسطين، قريباً من مسقط رأسه حيفا.

شاعر آخر سيلعب دوراً كبيراً في ذائقتي الشعرية تعرفّت إليه أثناء نقاهة سحبان من جروحه وحروقه في الحرب. هو نزيه أبو عفش الذي جاء أيضا يزور الجريح ويواسيه. كنت قرأت لنزيه مجموعته “حوارية الموت والنخيل” وأغرمت بها.

نزيه وأحمد ولدا في نفس السنة 1946: أحمد في حيفا ونزيه في مرمريتا بوادي النصارى بحمص. في دمشق، توطّدت علاقتي بنزيه كثيرا، وصرت أزوره في بيته في جادّة الخطيب مرّة أو مرّتين أسبوعيا، نشرب العرق ونأكل ما تجود به يدا زوجته اللطيفة ناديا. تحتاج إلى صبر غريب، لكي تحبّ نزيه، ولكن ما إن تألفه حتى تتولّع به. قد تجلس إليه سهرة بأكملها لا تنبسان بأي كلمة، ولولا السماحة التي تضفيها ناديا على الجلسة، فستشعر بأنك ضيف ثقيل. ولكنني كنت أعرف أنني لم أكن ضيفاً ثقيلاً، لسبب وحد: لو كنت كذلك لما خجل نزيه من طردي من منزله، وقد فعل ذلك مراراً مع آخرين. يحبّ نزيه الصيد، ويعزف على العود، ويدندن أحيانا أغنية وديع الصافي “عم حلّفك بالغصن يا عصفور”، ويعتني بعصافيره حين لا يكون صريع الشقيقة، وقد حقن نفسه بإبرة فيها مزيج من الفاليوم ومسكن النيسيدينا القوي، لكي يهدأ الوجع الصارخ في صدغيه قليلا. وحين سأله في منزله شاعر ملتزم كيف يقتل العصافير بينما يهتمّ بها في بيته، انفجر في وجهه قائلا: “إي سيدي، أنا بقتل العصافير بالبريّة وبدللها ببيتي. عندك مشكلة؟” والشاعر الذي جرحت كبرياءه ترك كأسه وصحنه المليء بالباذنجان المقلي، وخرج غاضباً. ولم يحاول نزيه منعه.

كان نزيه يسكن بيتا صغيرا جدا (كان أساسا كراجا خاصّا في بناية) في جادة الخطيب القريبة من فرع الأمن الداخلي التابع لإدارة المخابرات العامة، وهو الفرع المتخصص بملاحقتنا في رابطة العمل، وفي كلّ مرّة كنت أزوره، كان قلبي ينخلع من مكانه حين أمرّ بجوار الفرع، وأتخيل رفاقي يعانون في دخله.

رافقت نزيه في تحولاته الشعرية من قصيدة الستينات الغنائية التي تُعني بالجملة أكثر من الصورة والبناء أكثر من جدّة الفكرة، إلى عالم خاص أوجده شعراء السبعينات، بمن فيهم رياض الصالح الحسين وبشير البكر ومنذر المصري ومرام المصري ومحمد خير علاء الدين وحسان عزّت. ونزيه، الذي  كان في طليعة هذه القافلة، أوجد معاني جديدة لله وللعشق وللبلاد وللبشر العاديين، وبعث هذه المعاني في كلمات بسيطة، ولكنها مؤلمة حدّ القبح:

“يكفي…!”

إكراماً “لنا” سأقولُ: “يكفي!”

ليسَ لأنهُ يكفي

بل، فقط، لنرتاحَ مِن حَملِ كلِّ هذه الأسلحةِ وهذه التوابيت

ونتركَ البابَ مفتوحاً لـِما نحن في أَمَسِّ الحاجةِ إليه

مِنْ عقاقيرِ الندمِ، والمغفرةِ، والـ… نِسيانْ).

نزيه أبو عفش

مثل معظم أبناء جيله، قرأ نزيه سارتر وكامو وكولن ويلسون، وكان عنده أكثر من غيره أسئلة قلقة لا يجد أجوبة لها، وكسرته من الداخل، كما كسرتنا جميعا، هزيمة حزيران، بيد أنه لم يلجأ للصراخ الخارجي، انكفأ إلى الداخل. نادراً ما كنت تلتقي نزيه في مقهى أو خمّارة، ولكنك قد تلمحه أحياناً يسير في الليل وحيداً أو برفقة صديق أو صديقة، يتحدّثان أحيانا بالكلمات وأحياناً بالصمت. ونزيه سريع العطب، وقد كسرته الدماء التي أريقت في بلاده، فارتبك ووقف مع القاتل ضدّ القتيل. ونزيه الذي كنّا نتداول دواوينه كمنشورات للحرية، نزيه الذي وقّع على بيان الـ 99، نزيه الذي كتب مرة “كم من البلاد ايتها الحريّة”، قال قبل أشهر فقط: «قبّح الله الحرية، أنا أخاف من هذه الحرية، أحتاج اليوم نظاماً، أريد ستالين، أريد القيصر إيفان الرهيب.” انكسار نزيه كسر فيّ شيئا ثميناً لا يستطيع أن يعوّضه أحد.

إذن، أحبّت هيفونة أحمد دحبور الشاعر الوسيم بعينيه الناعستين وشاربيه الأسودين اللطيفين. كانت هيفونة سيدة سورية من آخر جيل متحرر في سوريا، قبل أن تلفحنا رياح التعصب والسلفية والتديّن الأجوف والتنافس الرخيص في الله، وهيفونة العاشقة عطّرت بعشقها مبنى الوكالة الكئيب ولوّنته بألوان ربيع دائم.

كان عملي في الوكالة محرّر أخبار أجنبية، وهو يعني حرفياً سرقة الأخبار من الوكالات ونسبتها إلى سانا. فخبر زيارة رئيس وزراء الهند إلى اليابان يأتي من طوكيو أو نيودلهي باسم سانا، رغم أن الوكالة لم يكن لديها مراسلون هناك. وكنت آخذ خبر رويترز أو الأسوشييتد برس، فألوي عنقه وأنسبه إلى سانا، مع ذكر اسم الوكالة الأصلية مرّة واحدة عرضاً. وحين كنت أشتكي للؤي معروف، كان يقول لي بكلبيته المحبّبة: “لم تشغل بالك؟ كم تقبض في اليوم الواحد؟ ترجم خبرين أو ثلاثة، فهم لا يستحقون أكثر.”

بسبب أفكاري الماركسية ركزت أكثر على أخبار الأنظمة العنصرية في أفريقا: روديسيا (زمبابوي) وجنوب أفريقيا وناميبيا. وغطيت بحماس أخبار الأسقف ديزموند توتو والزعيم المناضل وقتها روبرت موغابي. لم يخطر ببالي آنذاك أن المناضل اليساري الذي عشقته سوف يدمّر بلاده، بعد طرد العنصريين من زمبابوي، ويقتل ويعذّب مواطنيه ويتشبث في الحكم نحو أربعة قرون، اسوة بكثير من المناضلين اليساريين الذين تقلّدوا مقاليد الحكم في كوريا وكوبا واليمن الجنوبي.

كنت في نوبة مسائية، برفقة لؤي معروف وهيفونة وصحفية شقراء جميلة نسيت اسمها ومخبر مداوم سمين يعرف الإنكليزية أفضل بقليل من معرفتي باليابانية، يجلس إلى مكتبه وبجانبه قاموس المورد، يبحث فيه عن كلمات الخبر كلمة كلمة، ثم يترجم الخبر ويعطيه لرئيس الفترة، الذي يعيد صياغته بصمت قبل أن يرسله. كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل بقليل، حين رنّ الهاتف على مكتب رئيس الفترة. رفع لؤي السماعة، واصغى للحظات، ثمّ وضع السمّاعة، والتفت إلي، وقال: “الحجّي يطلبك”.

الحجي كان رئيس التحرير قاسم ياغي. وهو لم يطلب أيا من المحرّرين لخيرٍ أبدا. التفتت هيفونة إلي، وقالت نصف ضاحكة نصف قلقة: “بتضلّك بتشاغب؟ ما رح تنضبّ؟” اغتصبت ابتسامة وارتقيت الدرج إلى مكتب رئيس التحرير، فدخلته راسما شبح ابتسامة على وجهي. جميعنا كان يعلم أن المخابرات، وليس وزير الإعلام، هي من عيّن الرجل في منصبه. كان الحجّي في بدلة ركض jogging suit (رغم أنه لم يركض في حياته)، وبادرني بدون كلمة ترحيب:

“من الذي حرّر هذا الخبر؟”

وأعطاني ورقة التيليبرنتر. كان الخبر عن أحد انتهاكات حكومة الأرجنتين العسكرية التي جاءت بانقلاب عسكري قاده الجنرال خورخي رافائيل فيديلا قبل سنة.  اثناء تحريري للخبر، أضفت عبارة “حكومة الأرجنتين الفاشية”. وأجبته: “أنا”، فسحب الورقة مني من جديد وقال لي:

“أين وردت كلمة فاشية في الخبر؟” لم يكن الحجّي يجيد العربية ناهيك عن الإنكليزية.

“لم تَرِدْ.”

فصاح وشرر يتطاير من عينيه وزبد يتقاذف من فمه: “كيف تضيف كلمة غير موجودة في الأصل؟”

قلت له إنني محرر وكالات ولست مترجما وإن المحرّرين يضيفون أحياناً، كما نفعل حين نبدّل كلمة إسرائيل كلما وردت إلى “الكيان الصهيوني”. ولكنه لم يكن يصغي. كان يُزبد. صاح بي:

“أتعرف ماذا فعلتَ الليلة؟ لقد خلقت أزمة دبلوماسية بيننا وبين بلد صديق. لقد اتصل سفير الأرجنتين بوزير الخارجية محتجاً، واتصل وزير الخارجية بوزير الإعلام، الذي اتصل بي (لسبب ما لمّ يمر الوزير عن طريق المدير العام كما تتطلّب اللياقة)، وسحبني من سريري في منتصف الليل.”

لم تفد حجّتي بشيء. قال:

“كنت أعرف أنك يساري، ولكن أن تكون شيوعيا شيء آخر.”

قلت مدافعا: “إذا تقصد ماركسي فأنا لا أنفي.”

“بل أقصد شيوعي. ولا مكان للشيوعيين في سانا.”

“ولكن الشيوعيين في الجبهة،” قلت في محاولة أخيرة للدفاع.

حجّة أخرى لم تفد بشيء.

“انزل. خذْ أغراضك وغادر، ولا تعد غدا. تعال آخر الشهر واقبض أجر الأيام التي داومتها.”

استدرت لأخرج، مشيت خطوة أو اثنتين. توقفّت عند الباب، واستدرت نحو الرجل الذي بدا لي وكأنه يتشاغل بقراءة شيء ما.

“وكالة أنباء من لون واحد ليست وكالة. إنها مدرسة حزبية،” قلت.

لم أنتظر ردّه، فتحت الباب وخرجت، وصفقت الباب خلفي، فأصدر في سكون الليل دويّا لا يزال يطنّ في أذني.

إقرأ أيضاً:

في سجن تدمر كنا نلمحهم من بعيد

وقال لي صاحب الخمّارة: هذه طاولة أبيك