لم يكن ما حصل مع مي شدياق مجرد حادثة على شاشة هاتف، أو موجة من التعليقات العابرة على وسائل التواصل الاجتماعي. السخرية لم تكن سياسية، ولم تكن تقييماً لمواقفها، بل استهدافاً لجسدها، لأطرافها المفقودة، لندوبها، ولشكلها الذي استُخدم كمادة للتندّر.
المفارقة المؤلمة أن الذين انخرطوا في هذا التنمّر هم أبناء البيئة نفسها التي تضم آلاف ضحايا أجهزة “البايجر”، ممن عاشوا الألم ذاته: مبتورين، مُصابين، فاقدين القدرة على أداء أبسط المهام.
ويُطرح السؤال بحدّة: كيف بإمكان أشخاص يعرفون معنى الألم أن يجدوا متعة في إذلال امرأة تعيش الألم نفسه؟ كأنهم لم ينتبهوا إلى أنّ السخرية من “مبتور” هي في جوهرها إعادة تمثيل لجراحهم الخاصة، ولوجع عاشوه أو شهدوه في أحبّتهم. وكأنهم يؤكدون فرضية فرويد حول “التكرار القهري” (Repetition Compulsion)، إذ تعيد النفس البشرية، بشكل لا واعٍ، تمثيل صدمتها الأولى، لكن من موقع القوّة هذه المرة. ويبرهنون كذلك مفهوم “التماهي مع المتسلط” عند مصطفى حجازي، حين يتحوّل المقهور إلى نسخة من جلاده، ويعيد إنتاج الألم الذي عانى منه على الآخرين، فيتحوّل الجرح – الذي كان يمكن أن يولد تعاطفاً – إلى أداة للقسوة.
ما حصل مع مي شدياق ليس حالة فردية، بل نموذج لظاهرة نفسية واجتماعية أعمق. فالضحية التي لا تجد متنفساً لجراحها، أو لا تتصالح مع ألمها، تعيد إنتاج الألم ذاته من دون وعي، باسم شعور بالاستحقاق الأخلاقي أو بهوية متألمة.
هنا يلعب “الإسقاط” دوراً محورياً، إذ تُسقِط الضحية صورة جلادها القديم على كل من يختلف معها، فترى وجه عذابها في وجه كل غريب. وفي اللاوعي الفردي والجمعي، تتحوّل العدالة إلى ثأر، والثأر يُغلف بخطاب أخلاقي براق.
الضحية التي تستقوي باسم جرحها تبرّر عنفها باعتباره “استعادة حق مسلوب”، فتتحوّل إلى “جلاد أخلاقي”: تؤذي وهي مقتنعة تماماً بأنها تدافع عن المظلومين. وهنا نستعيد ما سمّته حنة أرندت بـ “تفاهة الشر”: يتحوّل العنف إلى ممارسة عادية، حين يمارسه ضحايا الأمس باسم قضية يعتقدون أنّها مقدسة.
إقرأوا أيضاً:
التاريخ يقدم مثالاً أكثر مأساوية: إبادة غزة التي يتابعها العالم مباشرة، حيث يتحول أحفاد ضحايا الهولوكوست إلى جلادين يستخدمون وجعهم التاريخي لتبرير جرائمهم، وصياغة سردية هذيانية حول “الدفاع المشروع عن النفس”. ليست محاولة تبرير، بل قراءة للتحول النفسي الذي يجعل الألم يتحوّل إلى مشروع هيمنة.
يرى التحليل النفسي في شعور الاستحقاق الأخلاقي الوجه المظلم للمعاناة غير المعالجة. فالضحية التي تبني هويتها على جرحها تصبح أسيرة له، وتطالب العالم بتعويض دائم ولو على حساب الآخرين. هنا يصبح الألم معياراً لقياس القيمة الإنسانية، وتضيق مساحة التعاطف.
وتبقى الحقيقة الأشد إيلاماً: الذاكرة الجريحة تتحوّل إلى هوية. والهوية المتألمة تحتاج إلى إعادة إنتاج الألم كي تستمر. هذا ما تشرحُه ميلاني كلاين في مفهوم “الانشطار”: تقسيم العالم إلى خير مطلق وشر مطلق، نحن وهم، ضحايا وجلادون. والنتيجة: دوران في حلقة لا تنتهي من الألم وإعادة إنتاجه.
ويبقى السؤال: هل سنظل أسرى هذه الدورة؟ هل نبقى ضحايا نعيد إنتاج جراحنا، أم نمتلك شجاعة الانتقال من هوية الضحية إلى وعي الناجي؟
الناجي لا ينكر ألمه، لكنه يرفض أن يكون الألم تعريفه الوحيد. الناجي يعترف بالجرح، لكنه يبني منه معنى جديداً وحياة قابلة للاتساع. الخيار ليس بين النسيان والكراهية، بل بين أن تبقى ضحية حبيسة جرحك، أو أن تصبح ناجياً يكتب من جرحه معنى جديداً للوجود.
إقرأوا أيضاً:











