قبل أيام من اعتراف إسبانيا وإيرلندا والنرويج بالدولة الفلسطينية، نشرت صحيفة Le Monde الفرنسية عريضة شعبية تدعو رئيس الجمهورية والمجتمع الدولي إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
في رأي الموقّعين، حل المشكلة الفلسطينية – الإسرائيلية ركيزة أساسية من ركائز استقرار الشرق الأوسط. وعلى اعتبار أن قرارات الأمم المتحدة والجهود الدبلوماسية كافة لم تفضِ إلى أية نتيجة، آن أوان اتخاذ موقف قوي يعيد إحياء المفاوضات.
هي ليست المرة الأولى التي تعلو فيها أصوات فرنسية مطالبة بالإقدام على هذه الخطوة، سواء من شخصيات سياسية أو أكاديمية، لكن الاعتراف من جانب تلك الدول الثلاث أعاد هذا الجدل إلى الواجهة.
لم تُجرَ مقاربة المسألة من زاوية مبدئية وحسب، بل طُرحت أيضاً من بوابة المصلحة الفرنسية.
جانب عبّر عنه مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية، باسكال بونيفاس، بقوله: “أضاعت فرنسا فرصة تاريخية يصعب تعويضها”.
أصحاب هذا الرأي ينطلقون من قراءتهم خارطة الدول المعترفة بالدولة الفلسطينية: على رغم اعتراف نحو 140 دولة (من أصل 193 عضواً في الأمم المتحدة) بالدولة الفلسطينية، لكن ليست من ضمنها أية دولة ذات ثقل في “المعسكر الغربي”، كالأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي أو مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى، ما يفسّر جانباً من ميزان القوى المائل إلى الطرف الإسرائيلي.
في رأيهم، كان في وسع فرنسا العودة إلى تمايزها المعهود وإحداث خرق دبلوماسي قد يساهم في استعادة باريس ما خسرته من نفوذ في الشرق الأوسط: ففرنسا دولة رائدة في مجال حقوق الإنسان ومنحازة إلى مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، كما تعتبر القاطرة السياسية للاتحاد الأوروبي، إلى جانب إرثها الحافل بمواقف مساندة للشعب الفلسطيني، بخاصة في حقبتي شارل ديغول وجاك شيراك. آخرون حبّذوا استعادة العام 2003 حين عارضت غزو العراق، ما سمح لها بتصدّر المشهد الدولي.

هل تستعيد فرنسا شعبيتها عربياً
في المقابل، فرنسا غائبة اليوم عن مفاوضات الهدنة وتبادل الأسرى على رغم احتجاز عدد من مواطنيها لدى حركة حماس. حتى مؤتمر باريس الإنساني حول غزة، في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، لم ينتج منه أي شيء يذكر.
لا يتوهم أصحاب هذا التوجه أن دعم فرنسا للفلسطينيين سيحوّلها تلقائياً إلى الرقم الأصعب في المعادلة الشرق أوسطية. لكن تحريك المياه الراكدة عبر هذه الخطوة الرمزية قد تنتج منه استعادة فرنسا شعبيتها في الشارعين الفلسطيني والعربي، وبالتالي حجز مقعد لها على طاولة المفاوضات وما يعنيه من موقع دبلوماسي أكثر تقدماً على الخارطتين الإقليمية والدولية.
ما يحفّزهم على المضي قدماً في طرحهم، أن اتخاذ هذا القرار ممكن من الناحية الإجرائية بعدما أقر البرلمان الفرنسي بغرفتيه، الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ، قراراً في العام 2014 يوصي بهذا الاعتراف، فالطريق معبدة إذاً أمام السلطة التنفيذية.
من جانب آخر، يحاول أصحاب هذا الرأي دغدغة مشاعر إيمانويل ماكرون. فالرئيس الفرنسي الساعي إلى ترك بصمة دبلوماسية والخروج من حالة المراوحة في السياسة الخارجية، نجده في عملية بحث دائمة عن طروحات وأفكار “براقة وجريئة”، وهو ما تجلّى في دعوته الفاشلة إلى تشكيل تحالف دولي لمواجهة حماس. بالتالي، يعملون على تسويق هذا المقترح على أنه “ضالة ماكرون الدبلوماسية”.
في رأي باسكال بونيفاس، قد يساهم الاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية في وضع حد لحالة التخبط والتناقض في سياسة باريس الخارجية.
على المقلب الآخر وبعيداً من موقف أنصار إسرائيل الذين يعتبرون خطوة كهذه “إقراراً بفعالية الإرهاب”، تقدم المؤسسات الرسمية الفرنسية حججاً مضادة.
استناداً إلى الموقع الإلكتروني لوزارة الخارجية الفرنسية، يتلخّص الموقف الرسمي الفرنسي من الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بـ 9 نقاط، أبرزها: علاقات صداقة مع طرفي النزاع، انحياز إلى القانون الدولي، دعم قيام دولة فلسطينية، توفير المساعدات للفلسطينيين، والمساهمة في عملية السلام.
انطلاقاً من هذه النقاط، يعتبر معارضو الاعتراف بالدولة الفلسطينية ألا مكان لدبلوماسية العواطف، متسائلين: ما القيمة المضافة التي ستنتج من تلك الخطوة؟ هل سنشهد في اليوم التالي قيام دولة فلسطينية؟

الإقرار بالسيادة الفلسطينية؟!
الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليس “محرماً” وفقاً لتصريحات سابقة صدرت عن إيمانويل ماكرون ووزير خارجيته ستيفان سيجورنيه، هم لا يعترضون على المبدأ إنما على التوقيت.
يقول سيجورنيه: “لا يمكن الإقدام على هذه الخطوة من دون ضمان أن ما بعدها لن يكون كما قبلها. يجب اتخاذها في الوقت المناسب بما يساهم في إحراز تقدم على الصعيد السياسي. فالاعتراف بالدولة الفلسطينية ليس خطوة رمزية أو تموضعاً سياسياً بل أداة دبلوماسية للوصول إلى حلّ على أساس الدولتين”.
موقف ليس بالجديد، فبعد توصية مجلس الشيوخ الفرنسي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، رد وزير الخارجية آنذاك لوران فابيوس، بأن هذا القرار يجد “اتخاذه على نحو يخدم السلام”. وحين وجّه 154 برلمانياً فرنسياً رسالة إلى فرنسوا هولاند، في شباط/ فبراير 2017، لمطالبته بالإقدام على هذه الخطوة، التي وردت للمناسبة في برنامجه الانتخابي، رد الرئيس الفرنسي السابق: “اعتراف فرنسا منفردة بالدولة الفلسطينية لن يحقق أهدافه المرجوة”.
إقرأوا أيضاً:
بنظر بعض الدبلوماسيين الفرنسيين، الاعتراف بالدولة الفلسطينية أشبه ما يكون ببندقية تحمل طلقة واحدة، إن أخطأت فرنسا في تسديدها ستفرّط بورقة رابحة. وعليه لا بد من التلويح بها كأداة ضغط على الجانبين لدفعهما إلى تقديم تنازلات.
يستند أصحاب هذا الموقف إلى القانون الدولي الذي يرى أن قيام أي دولة يفترض حدوداً جغرافية واضحة المعالم: الاعتراف بالدولة الفلسطينية يعني وبصورة غير مباشرة اقراراً بالسيادة الفلسطينية على الضفة الغربية وقطاع غزة، سيادة لا تحمل أي مضمون فعلي. برأي هذا الفريق، قرار من هذا القبيل من شأنه عرقلة الحل النهائي المفترض، إذ يقفز فوق المفاوضات التي قد تفضي إلى توافق مغاير حيال مسألة الحدود.
يضاف إلى ذلك حجتهم بأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الظرف الراهن قد يفسر اعترافاً بسلطة حماس على قطاع غزة، ناهيك بـ”التوتر المجاني” في العلاقات والمصالح الفرنسية – الإسرائيلية وما سينتج منه من حملات إعلامية ومزايدات سياسية داخلية تتعلق بمعاداة السامية.
أما إذا كان لا بد من خطوة جريئة تؤدي إلى نتائج عملية، في رأي الدبلوماسيين، فلا بد من العمل على وقف الاستيطان في الضفة الغربية، وفرض عقوبات على إسرائيل شبيهة بتلك التي فُرضت على جنوب إفريقيا إبان نظام الفصل العنصري.
على رغم تقديم كل فريق طرحاً متكاملاً يستند إلى قراءة للواقع الراهن واستشراف للمستقبل، لا يمكن إغفال أن كلَي الطرحين يعكسان في جوهرهما موقفاً سياسياً من هذا الصراع المستمر. إذ إن حجج الفريق الأول تدل في جوهرها على انحياز إلى الجانب الفلسطيني ورغبة في إنصافه ولو معنوياً. فيما تشكل “براغماتية” الطرف الثاني ستاراً يخفي تأييداً للطرف الإسرائيلي.
إقرأوا أيضاً: