هل يجب على المثليّين في سوريا حمل السلاح؟ يُثير سؤال كهذا حفيظة البعض واستغرابه، وقد يُشعل غضباً في الآخرين. ناهيك بأنّ البعض الآخر (على الأقل حسبما أقرأ على وسائل التواصل الاجتماعي من تعليقات)، يقول إن لا بدّ من قتلهم ودخول الجنّة! أو استعادة “الرمي من شاهق”!
سؤال حمل السلاح على ما يحويه من مبالغة، مردّه الخوف، الخوف من الخروج من المنزل، الخوف أثناء العمل، الخوف من الحياة! خصوصاً في سوريا حيث يعيش الكثير من المثليّين والمثليّات خطر أن “يُكتشَف أمرهم”، وأن يُقتل بعضهم من دون أن يتحدّث أحد عن الموضوع، أو يُعتقلوا ويُهانوا أمام عدسات الهواتف المحمولة ويُهدَّدوا بالسكاكين!
هل سبق لك يا عزيزي القارئ أن عشت في خوف دائم؟ أظن أنّ الكثيرين عاشوه، ولا داعي لتخيّله، قد تكون عِشته عندما كانت الطائرات الحربية الروسية تحلّق في سماء المدينة التي تقطنها، عِشته عندما كانت البراميل المتفجّرة تسقط بعيداً منك ببضع مئات من الأمتار وتدمّر الحيّ الذي تقطنه حبيبة الطفولة.
قد تكون عشته أيضاً عندما كنتَ خارج المنزل وسمعتَ أنّ قذيفة الهاون سقطت في حارتكم وأمّك لوحدها في البيت، ركضت بكلّ خوف لتدخل الشارع المليء بالغبار والصراخ والبكاء، وقد تكون عِشته وأنت تنظر الى أطفالك في الخيمة المهترئة في ثلج الشتاء بالمخيّم، الذي هجّرك إليه نظام الأسد!
هل تتذكّر ذاك الخوف يا صديقي؟ هل تتذكّر الشعور الذي دفعك الى أن تحمل -أنت وأخوك وصديق الحي وزميل الدراسة- السلاح كي تقاتلوا وتقاوموا من أجل حقّكم في الحياة؟
دعني أخبرك يا صديقي أنّك لم تختبر وحدك هذا الشعور بالخوف، بل شاركك إياه صديقك المقرّب، صديقك المثلي الذي لا تعرف أنّه يحمل خوفاً في قلبه قبل القصف وبعده، خوفاً دائماً من الفضيحة، خوفاً ذا طبقات عدة لا يمكن تفكيكها، صديقك ذاك، المثلي، قد يكون حَمَل معك السلاح لكي يدافع عنك وعن أهله وعن كلّ خائف، على رغم خوفه الآخر الذي لا تعرف عنه شيئاً، صديقك المثلي هذا قاتل معك لكي تكون أنت وهو في وطن يعطيكما الحقّ في الحياة والعيش الآمن.
أعرف تماماً هذا الخوف، فقد عِشتُه أنا في سوريا، عندما كنت أخبّئ مثليتي خوفاً من انكشاف أمري، خوفٌ يتجاوز رعبي من أن أصبح أشلاءً تحت أنقاض البيت الذي يحميني!
سوريا بعد التحرير!
دعني أخبرك قليلاً ماذا يحدث في سوريا بعد سقوط الأسد، يُترك الكثير من المجرمين طلقاء، أولئك الذين أباحوا قتلك وقصف بيتك وتهجيرك، ووصفوك بأشنع الأوصاف ومجّدوا بقاتلك كمفتي سوريا السابق أحمد حسون.
ويُترك أيضاً أولئك الذين موّلوا التدمير الممنهج في مدينتك كالشبيحة والضباط رفيعي المستوى ورجال الأعمال الفاسدين كمحمد حمشو. أولئك الذين نهبوك على مدار عقود من الزمن وأكلوا أموالك وأموال أبويك وأولادك كمسؤولي النظام، وحتى الجلّادين الذين قتلوا أقرباءك في المعتقلات وضحكوا على مشاهد صيدنايا وأنت تبحث عن صديقك الذي اختفى منذ 14 سنة… كلّ هؤلاء يعيشون أحراراً طلقاء!
في الوقت ذاته، يعتقل “جهاز الأمن العام” التابع للحكومة الجديدة -الاسم الجديد للمخابرات السورية- أفراد مجتمع الميم، كما وردت أنباء عن اغتيال بعضهم بعد فقدانهم لأيام عدة، منهم طلّاب جامعات في الطب والهندسة والاقتصاد، كانوا يحلمون ببناء سوريا للجميع.
إقرأوا أيضاً:
اليوم، وبعدما انتصرت الثورة في سوريا، بأيّ حقّ يُسمح لأحد ما بأن يحرم الآخر من حقّه بالحياة الآمنة، وقد شارك هذا الآخر في التحرير؟ أسأل لأنّ الكثيرين من مجتمع الميم حُرموا من حقّهم بالاحتفال بالنصر، ولا أقصد أن يغنوا “مندوسهم مندوسهم”، بل الاحتفال بهوياتهم واختلافهم، كون بعض المحتفلين رفعوا شعاراً مرعباً لهم “من يحرّر يقرّر”! لا تستغرب إذاً إن حمل السلاح ذاك الآخر، الذي تهدّده بميوله، ليدافع عن نفسه إن تعرّض له أحدهم!
قد يقول البعض وهو يفكّر بأكثر من صديق أثناء قراءة هذه الكلمات: “من المستحيل أن يكون صديقي المقرب أو أيّ من أصدقائي وأهلي من هؤلاء، هؤلاء لا يقاتلون، هؤلاء مخنّثون، متشبهون بالنساء المختبئة في الجحور”، أردّ أنا على هذا التساؤل، وكيف تعرف علم اليقين أنّه لا يوجد أحدٌ من رفاق الدرب -الذي مشيت طريق النصر معهم- من مجتمع الميم؟
يمكنّني أن أؤكّد وأنا على معرفة بعشرات المثليّين، وأنا منهم، أنّ المئات شاركوا في التظاهرات الأولى عام 2011، وقُتل الكثيرون منهم، وعان غيرهم لسنوات مرارة التعذيب في المعتقلات، منهم من سقط في معارك الدفاع عن الشعب السوري، معارك الشرف والتحرير، وبعضهم مات في القصف ومجازر الكيماوي، والبعض الآخر بقي يُقاتل لآخر نفس وشهد النصر.
كثر منهم هُجّروا خارج سوريا لأنّهم لم يستطيعوا عيش حياتهم لا في سوريا الأسد ولا سوريا “المحرّرة” التي شاركوا في تحريرها، ربّما أحد أصدقائك تمّ نفيه لأنّه فقط مثليّ، وأحد الحقراء كشف أمره أمام الناس!
أليس من حقّ هؤلاء المثليين أن يحملوا السلاح ليحموا أنفسهم من الموت ولا لشيء آخر، كما حملتَه أنت؟ إن أردت أن ترى بعض الإجابات من أحدٍ طرح هذه الأسئلة على نفسه وكان يشاركك برأيه حول هؤلاء “العرصات”، يمكنك أن تطلع على اعترافات هوموفوب سابق لكنان كبة، ربما ترى ما رآه بعد سنين من بدايات الثورة.
هل يحق لمثليي سوريا حمل السلاح؟
أنا واحد من هؤلاء “العرصات”، وسأخبرك القليل عني، أنا صديقك المثلي الذي لا تعرف أنّه مثلي، فلا مظهري هو الشكل الذي تظن أن كلّ المثليين عليه، ولا طريقة كلامي هي كما يصورها لك الإعلام والتلفزيون.
أنا ببساطة شاب مِثلُكَ، شاركتُ في الثورة السورية لأنّها ثورة حق، ولأنّي (بعيداً عن ميولي) أُحبّ بلدي وأهلي وأتمنّى المستقبل المشرق لوطني، كنت إعلاميّاً شارك في تغطية الحدث، وناشطاً سياسياً شارك في الاعتصامات والندوات والمؤتمرات، تحدّثت باسمك وباسم الملايين من السوريين عندما اتّهمت نظام الأسد بالمجازر التي ارتكبها، ولعلّك حينها هلّلت لي وافتخرت بصداقتنا، ما زلت لا تعرف أنّني مثلي، ولا تعرف أنّ الذي كان يتحدث باسمك، هو من الناس الذين يدعو الكثيرون إلى قتلهم!
يعيش أفراد مجتمع الميم في سوريا اليوم خوفاً وحذراً ألفوه سابقاً، يقومون بإجراءات السلامة نفسها التي كنت أنت وصديقك تقومان بها أيّام التظاهرات ضدّ نظام الأسد، يحذفون الرسائل بينهم، ويستخدمون مصطلحات مشفّرة، وغيرها من الخطوات المرافقة للخوف الذي كان الواحد منا يعيشه بعد كلّ تظاهرة أو اعتصام، وعند المرور على حاجز “طيار” للأمن السوري سابقاً.
إجراءات لم يعد أحد اليوم يفكّر بها إطلاقاً في سوريا الجديدة، لكنّها تعتبر مسألة حياة أو موت لأفراد مجتمع الميم.
لا تقلق، لن يحمل المثليّون السلاح، لن يشكّلوا “عصابات مسلّحة”، لن يحرّروا أراضي ويسمونها “المناطق المحرّرة”، ولن “يزحفوا” باتجاه دمشق للسيطرة على “قصر الشعب”، سيبقون في الخفاء، سيبقون وراء الأبواب المغلقة ولن يُشيعوا “الفاحشة” كما يسمّيها الكثيرون، ليس لأنّهم جبناء، وليس لأنّهم لا يستطيعون حمل السلاح (فالكثيرون منهم حملوه من قبل)، بل لأنّهم طيّبون، لأنّهم مسالمون، ولأنّ صديقك المقرّب -الذي يعلم أنّك لن تتقبله إذا علمت أنّه مثلي- يحبّك أكثر مما ينبغي على الرغم من أنّك تحبه أقلّ بكثير مما يستحق.
إقرأوا أيضاً: