fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

مجازر الساحل… الأسباب تُفضي إلى النتائج!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

صحّة سردية الأمن العام يُدافع عن الناس في وجه الفصائل والفلول، لا تُعفي السلطة الحالية من دماء المدنيين الأبرياء في الساحل السوري، في الوقت ذاته لا يعني ذلك الاستهانة بدماء قتلى الأمن العام، الذي رُمي بعضهم في الأحراج ودُفنوا في مقابر جماعية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بدأت ملامح المجزرة تظهر منذ الأيام الأولى لسقوط بشار الأسد، ورغم حرص القوّات التي سيطرت على الحكم على طمأنة الجميع، بخاصة العلويين، ظهر واضحاً أن هناك مسؤولين في هذه السلطة وشريحة واسعة من مسلّحيها وشبّيحتها وإعلامييها، يعتبرون أنهم تكرّموا على العلويين بإبقائهم على قيد الحياة، إذ لم يضربوهم بالكيماوي، ولم يقصفوهم بالبراميل، ولم يهجّروهم إلى مخيمات اللجوء، وهذا بحدّ ذاته “مِنحة ومكرمة”.

ومنذ اليوم الأول، عيّنت الإدارة الجديدة الشيخ أنس عيروط محافظاً لطرطوس، وعندما تقول أنس عيروط في الساحل، لا يسعنا إلا استعادة كلماته: “كما أن الصلاة عبادة… فالجهاد عبادة، الجهاد ضدّ الروس والنصيريين والمجوس“، هذه الخطبة العصماء الأشهر في تاريخ الرجل، لا يبدو أنه قد تخلّى عنها. على أن عيروط لم يبقَ محافظاً لوقت طويل، فقد أُقيل من منصبه، لكن ليس بسبب تاريخه في التحريض، بدليل تعيينه مجدداً في لجنة التحقيق في الانتهاكات في الساحل من قِبل أحمد الشرع، وهكذا يصبح أحد المحرّضين على القتل الطائفي، محقّقاً في جرائم طائفية!

فردية… جماعية… قطيعية 

انتهت نشوة النصر “الذي لا ثأر فيه”، وبدأت فيديوهات الإذلال اللفظي والجسدي والسباب الطائفي تخرج إلى العلن، ثم انتقلت الأمور إلى مرحلة الخطف والقتل من قِبل مجهولين، سرعان ما تحوّلت الحالات الفردية إلى جماعية، مع دخول فصيل مسلّح إلى قرية فاحل في ريف حمص، وتنفيذ اعتقالات وإعدامات ميدانية ورمي عشرات الجثث في طرقات القرية، وأكّدت التقارير أنها شهدت إطلاق نار من مسافات قريبة وطعناً بأدوات حادّة، وكذلك قرية عين شمس في ريف حماة، التي دخلت إليها قناة “العربية”، وأظهرت بكاميراتها أرتالاً ملثّمة تقتحم القرية وتبثّ الرعب وتعتقل مدنيين، ولم نرَ في الفيديو ذاته أية معارك أو اشتباكات؛ لكن هذا ما قاله المذيع معلّقاً على التقرير، وكان ردّ سلطات دمشق أن كل ما في الأمر هو ملاحقة “الفلول”، هذا المصطلح الذي سيغدو مرادفاً لكلمة “المندسّين” في أيام الأسد.

تراكمت الحالات الفردية والجماعية، لتصبح قطيعية وفصائلية في السادس من آذار/ مارس الماضي، بعد إعلان ما سمّوه “النفير العام”، واعتلاء المشايخ منابر المساجد داعين الناس إلى الجهاد في الساحل، والتحريض على القتل الطائفي، وقتال “الكفّار النصيريين المرتدّين فلول النظام البائد”، واستقدام مجموعات مسلّحة من هنا وهناك، وسط تهليل من إعلام السلطة الجديدة، وإشادة بهذه الحميّة الثورية والغيرة على سلامة الوطن وأمنه.

خرجت مظاهرات تُطالب الدولة بتسليح المدنيين، فهل كانت “قوّات الفلول” تستوجب كل هذه الجحافل؟ وهل المعارك الصعبة تحتاج إلى هذا الزحف على قرى وبلدات، أكثر ما يمكن أن يمتلكه البعض فيها هو أسلحة فردية؟ لا شكّ في أنه التعطّش لدماء العلويين، كما تُظهر المقاطع المصوّرة بلسان مرتكبيها.

لماذا يتلثّم المعروف؟

ارتبطت مجازر الساحل بحقّ العلويين باسم عنصر في جيش النظام البائد يُدعى مقداد فتيحة، الذي ظهر في فيديو مشهور بعد انسحاب نظام الأسد من حلب، وباعتباري أعيش في الساحل السوري؛ فإنني أشكك في إمكانية وجود قوّات منظّمة يمكنها قلب نظام الحكم؛ كما ادّعت السلطة الجديدة، وأنا هنا أشكك ولا أنفي، أما فتيحة فهو معروف الشكل والهيئة والملامح، وله الكثير من الصور والفيديوهات، فلماذا يتكلّم وهو يضع اللثام على وجهه؟ معلناً تشكيل ما يسمّى “لواء درع الساحل”، ومتوعّداً السلطات الجديدة، هل يحاول أن “يقلّد” عناصر الإدارة الجديدة؟ هل يستوحي من تاريخ إعدامات “داعش” كما روّجت نظرية المؤامرة؟ كلما تتّبعنا نشاط فتيحة المنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، تزداد الأسئلة حول سطوته، خصوصاً أن البعض يُتّهم بأنه يتحرّك بين سوريا ولبنان.

وإن كانت العملية العسكرية في الساحل عبارة عن ملاحقة فلول؟ فلماذا السرقة؟ لماذا يوجد عائلات كاملة من أب وأم وأطفال تمّت تصفيتهم بملابس النوم في بيوتهم وغرف معيشتهم؟ ومن يتحمّل مسؤولية هذه المجازر؟

في سياق متّصل، دخل رتل عسكري يضمّ عشرات الآليات إلى إحدى القرى العلوية، وقد تبيّن على مدخل القرية أنهم ضلّوا الطريق، عندما سألوا السكان عن اسم القرية، وقد حدث خطأ في التوجيهات العسكرية إلى هذا الرتل، لكنّ ذلك لم يمنع من سرقة بضع سيارات ومحال تجارية لسكان مدنيين، وقتل عائلة كاملة بعد تجميعهم في غرفة النوم، وكل هذا كان بعد معرفتهم أن هذه القرية ليست مقصدهم، هنا يصبح الدمّ السوري تحت رحمة المصادفة والعشوائية والمزاجية.

سردية الأمن العام

تبدو سردية الأمن العام هو من يحمي المدنيين من جرائم الفصائل المنفلتة حقيقية في بعض المواضع، فقد علمتُ من أصدقائي في دمسرخو في محيط اللاذقية، أن هناك شجاراً يحصل بشكل يومي بين الأمن العام وفصيل متشدّد من المقاتلين الأجانب يريد استباحة المدنيين، ويرفض الفصيل أن يُغادر اللاذقية، إلا بشرط “السماح له باستباحة دمسرخو ومروج دمسرخو، ثم يترك اللاذقية”.

 كما يوجد بعض القصص المشابهة التي تُشيد بتصرّفات الأمن العام، لكنّ هذه السردية هشّة في شهادات أخرى، أخبرني قريب لي عن قيام الفصائل المتشدّدة في بعض القرى بسرقة البيوت، لكنّ دورية الأمن العام التي يبدو أنها كانت مرافقة لهذا الفصيل، تُخبر أحد أصحاب السيارات الذين طلبت الفصائل مفتاح سيارته أن يذهب بسرعة، عندما أتى بعد دقائق ليسلّمها لعنصر آخر طلبها “آسف معنا جماعة متشدّدين، نحن لسنا حرامية”، وقد قتل الرتل ذاته مدنيين آمنين في منازلهم.

 هل هذا هو الدمج الذي تحدّث عنه الشرع؟ دوريات من الأمن العام تُرافق الفصائل لضبطها؟ ولكن ما هي قيمة هذه المرافقة إن كانوا غير قادرين على منع المجازر والسرقات؟ عدا دخول الكثير من الأفراد إلى صفوف الأمن العام بعد فترة تدريب قصيرة، ويبدو من بعض الوجوه أنهم صغار في السن، وربما لم يبلغوا بعد الثمانية عشر عاماً، وقد أبلغ الكثير من الناس الذين أعرفهم عن انتهاكات بحقّهم من قِبل أفراد يرتدون بدلة الأمن العام ويضعون شعاره.

مسؤولية دماء الأمن العام 

صحّة سردية الأمن العام يُدافع عن الناس في وجه الفصائل والفلول، لا تُعفي السلطة الحالية من دماء المدنيين الأبرياء في الساحل السوري، في الوقت ذاته لا يعني ذلك الاستهانة بدماء قتلى الأمن العام، الذي رُمي بعضهم في الأحراج ودُفنوا في مقابر جماعية.

لكن السلطة أعلنت على لسان رئيسها أحمد الشرع موافقة جميع الفصائل على حلّ نفسها ووضع عتادها وجودها تحت إمرة وزارة الدفاع، وأيضاً لا يمكن تبرئة السلطة من دماء الأمن العام، حين أُقحموا في جبال لا يملكون فيها أي خبرة أو معرفة، بعد أن أكملت حكومة الشرع وقوّاته العسكرية استفزاز البيئة الساحلية، ومحاصرتها سياسياً وأمنياً واجتماعياً ومعيشياً وطائفياً، بعد فصل آلاف الموظّفين من أبناء الساحل بشكل تعسفي، وتجاهل وجود مئات الآلاف من العاملين والعاملات في المؤسّسات العسكرية والأمنية من عسكريين وموظّفين مدنيين لا علاقة لهم بحكم أو سلاح.

 الأطباء والممرّضون والفنّيون في المشافي العسكرية على سبيل المثال لا الحصر؛ مئات الآلاف من الأفراد باتوا بلا أي مصدر دخل، أي أن الملايين هم من دون مُعيل حقيقي، وعندما تُحاصر أحداً من جميع الاتجاهات وتحشره في الزاوية، فسيقاتل بأسنانه عندما تهجم عليه، إذ سيشعر أنه ليس لديه ما يخسره. ما أريد قوله، هو أنه قد يكون هناك بعض الفلول المنظّمة التي نسّقت الهجمات على الأمن العام، وهذا لم يستغرق أكثر من يومين لإخماده، فيما الجزء الأهمّ والأكبر باعتقادي، هو اضطرار الناس في الساحل للدفاع عن أنفسهم حين رأوا فيديوهات الذبح المنتشرة التي تقوم بها قوّات الشرع، فليتخيل أحدكم مجرمين يقتربون من بيته؟ ألن تستخدموا السلاح للدفاع عن أطفالكم وممتلكاتكم؟ ولو كان هذا الدفاع غير مجدٍ وسيزيد الطين بلة، ومن الاستسهال أن نطالب بالتفكير المنطقي في لحظات الرعب هذه.

السلاح في الساحل فقط!

التنطّع وتبرير قتل المدنيين “من أين أتوا بهذا السلاح؟ و”يجب حصر السلاح بيد الدولة” لا يبدو مقنعاً، فالسلاح موجود في كل المناطق السورية تقريباً، لكن لا يتمّ النظر إليه على أنه خطر سوى في الساحل، وكأنه لا يشكّل أي تهديد في يد الفصائل التي رأينا مجازرها، وكأن السلطة غير معنية سوى بتمشيط المناطق العلوية في الساحل وحمص، أما المناطق الأخرى فهي ليست معنية بحصر السلاح في يد الدولة، وحتى وجود أسلحة فردية لا يعني شيئاً عسكرياً.

هذا يتوضّح في اعتراف السلطة نفسها أنه بعد الدعوات إلى الجهات، انطلق “متحمّسون” من مختلف مناطق سوريا للمشاركة في “المعركة” في الساحل، هؤلاء حملوا السلاح الخفيف وانطقلوا، لكن هل تمّت مصادرة سلاحهم؟ تفلّت السلاح إذاً شأن انتقائي، عدم الثقة بالعلويين يعني تحوّل كل واحد منهم إلى “عدو” محتمل، خصوصاً حين نشاهد الصور والفيديوهات التي تُنشر بصورة يومية لمخازن السلاح والذخيرة التي تتمّ مصادرتها من مناطق مختلفة، لكن هل هذا يعني أن كل هذا السلاح هو مخصّص للعلويين من أجل القتال؟ ألم يكن حرياً بهم حمله منذ أول يوم من حملة “تمشيط الساحل”؟

الكثير من الأسئلة يمكن طرحها بخصوص السلاح المتفلّت، ودوره وآلية التعامل معه، لكن يبقى الخطر قائماً، كون السلاح المتفلّت؛ وإن “سُحب” من الساحل، فماذا عن باقي المحافظات؟

التبرير بدل تحمّل المسؤولية 

بعد إعلان انتهاء العملية العسكرية في الساحل، لم تكلّف السلطة نفسها عناء تقديم عزاء علني لأهالي الضحايا أو إعلان الحداد، وتحمّل المسؤولية كما يقتضي منطق الدولة، أما زيارة المناطق المنكوبة، فاقتصرت على بضع زيارات، مثل زيارة محافظ اللاذقية محمد عثمان قرية صنوبر جبلة، التي جرت فيها مجزرة مروّعة وثّقتها CNN طاولت أكثر مئتي مواطن، وقد بدت الزيارة تبريرية، إذ انفجرت إحدى السيدات “إنتو تأخرتو كتير كتير”، ليردّ عثمان “كنا محاصرين متلكم”، فترد “كلكم كنتو محاصرين؟”.

 أما الزيارة الأشهر فكانت إلى منزل السيدة زرقة سباهية في قبو العوامية في ريف القرداحة، التي قُتل ولداها أمامها وتم التشفّي منها أمام الكاميرا، ومجدداً يبرّر المحافظ أن قوّاته تعرّضت لإطلاق النار من بين المنازل في القرية، وبالتالي فهي مُجبرة على الردّ، ووعد بمحاسبة المسؤولين، ولم يخرج للإعلام سوى ثلاث دقائق من المقابلة، كان أهمّ ما فيها عفوية السيدة زرقة وكرمها الريفي حين كانت على هامش الشاشة تدعو مرافقي المحافظ إلى منزلها “تعو يا بيي تعو يا عيني اقعدوا”.

 ويقال إن المحافظ أعطاها ظرفاً من النقود لكنها رفضته رفضاً قاطعاً، ويأتي في السياق ذاته خروج ابنة السيدة زرقة في فيديو تطلب فيه من الإدارة الجديدة، التوقّف عن الضغط على والدتها واستغلالها سياسياً، ودعوتها إلى دمشق وطالبت بالابتعاد عن عائلتها.

الاهتمام بالصورة الإعلامية 

وفيما يوجد عشرات القرى المنكوبة في الساحل، وآلاف العائلات المتضرّرة، بسبب سرقة مصادر رزقها ونهبها، أو تعرّض معيليها للاعتداء أو القتل، نرى السلطة مهتمّة بشكل غير عادي بالمدنيين الذين يحتمون بالقاعدة الروسية في حميميم، وتُرسل لهم الطعام الذي يرفضون استلامه، وتُرسل الباصات لنقلهم إلى منازلهم، وتدعوهم للعودة رغم الرفض المتكرّر، “من سيؤمّن على نفسه بعد كل هذه المجازر؟”.

هنا تبدو سياسة الحكومة الجديدة واضحة، في الحفاظ على صورتها الإعلامية الهشّة، منذ استقدامها مؤثري “السوشيال ميديا” و”اليوتيوبرز”، وهي الآن لا تهتمّ سوى بالحالات التي تأخذ ضجيجاً إعلامياً، فكم من زرقة سباهية قُتل أبناؤها أمامها بتشفٍّ ومن دون تصوير؟ وكم من صنوبر لم تسمع عنه CNN؟ وكم من العائلات كانت تريد الاحتماء ولم تُفلح؟

يظن من يعيش خارج الساحل السوري، أن القتل الطائفي من قبل الفصائل المنضوية تحت راية وزارة الدفاع قد توقّف، لكنّه تحوّل إلى نمط آخر هو الخطف والقتل ليلاً من دون ضجيج وتصوير، فقد شهد حي الادخار في حمص مجزرة مروّعة، حيث اقتحمت مجموعة مسلّحة منزل مواطن يوم الخميس في 20 آذار/ مارس الماضي، وأقدمت على قتله بدم بارد مع أبنائه الثلاثة أمام أعين الأم وابنتها، ما أثار موجة من الرعب والهلع لدى العائلات العلوية القاطنة في الحي، وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان فقد تركوا بيوتهم إلى مناطق أكثر أمناً.

وفي اليوم نفسه، أقدم مسلّحون مجهولون على قتل شابين في قرية يحمور في ريف طرطوس، وبحسب مصادر أهلية قامت مجموعة مسلّحة تدّعي أنها من الهيئة، باقتحام عدد من المنازل في القطيلبية والراهبية في ريف جبلة والسطو على محتوياتها بقوّة السلاح.

 لا شكّ في أن مسلسل القتل والسرقة والسطو تقف خلفه موجات التحريض وخطاب الكراهية، الذي في كثير من الحالات يكون من قبل الحكومة نفسها، حيث أقدم مسؤول الأمن العام محمد هاني المرعي في إحدى المدارس الحكومية في جديدة يابوس في ريف دمشق، على السخرية من ممارسات الطائفة الشيعية، بعدما تمّ تهجيرهم من المنطقة.

02.04.2025
زمن القراءة: 8 minutes

صحّة سردية الأمن العام يُدافع عن الناس في وجه الفصائل والفلول، لا تُعفي السلطة الحالية من دماء المدنيين الأبرياء في الساحل السوري، في الوقت ذاته لا يعني ذلك الاستهانة بدماء قتلى الأمن العام، الذي رُمي بعضهم في الأحراج ودُفنوا في مقابر جماعية.

بدأت ملامح المجزرة تظهر منذ الأيام الأولى لسقوط بشار الأسد، ورغم حرص القوّات التي سيطرت على الحكم على طمأنة الجميع، بخاصة العلويين، ظهر واضحاً أن هناك مسؤولين في هذه السلطة وشريحة واسعة من مسلّحيها وشبّيحتها وإعلامييها، يعتبرون أنهم تكرّموا على العلويين بإبقائهم على قيد الحياة، إذ لم يضربوهم بالكيماوي، ولم يقصفوهم بالبراميل، ولم يهجّروهم إلى مخيمات اللجوء، وهذا بحدّ ذاته “مِنحة ومكرمة”.

ومنذ اليوم الأول، عيّنت الإدارة الجديدة الشيخ أنس عيروط محافظاً لطرطوس، وعندما تقول أنس عيروط في الساحل، لا يسعنا إلا استعادة كلماته: “كما أن الصلاة عبادة… فالجهاد عبادة، الجهاد ضدّ الروس والنصيريين والمجوس“، هذه الخطبة العصماء الأشهر في تاريخ الرجل، لا يبدو أنه قد تخلّى عنها. على أن عيروط لم يبقَ محافظاً لوقت طويل، فقد أُقيل من منصبه، لكن ليس بسبب تاريخه في التحريض، بدليل تعيينه مجدداً في لجنة التحقيق في الانتهاكات في الساحل من قِبل أحمد الشرع، وهكذا يصبح أحد المحرّضين على القتل الطائفي، محقّقاً في جرائم طائفية!

فردية… جماعية… قطيعية 

انتهت نشوة النصر “الذي لا ثأر فيه”، وبدأت فيديوهات الإذلال اللفظي والجسدي والسباب الطائفي تخرج إلى العلن، ثم انتقلت الأمور إلى مرحلة الخطف والقتل من قِبل مجهولين، سرعان ما تحوّلت الحالات الفردية إلى جماعية، مع دخول فصيل مسلّح إلى قرية فاحل في ريف حمص، وتنفيذ اعتقالات وإعدامات ميدانية ورمي عشرات الجثث في طرقات القرية، وأكّدت التقارير أنها شهدت إطلاق نار من مسافات قريبة وطعناً بأدوات حادّة، وكذلك قرية عين شمس في ريف حماة، التي دخلت إليها قناة “العربية”، وأظهرت بكاميراتها أرتالاً ملثّمة تقتحم القرية وتبثّ الرعب وتعتقل مدنيين، ولم نرَ في الفيديو ذاته أية معارك أو اشتباكات؛ لكن هذا ما قاله المذيع معلّقاً على التقرير، وكان ردّ سلطات دمشق أن كل ما في الأمر هو ملاحقة “الفلول”، هذا المصطلح الذي سيغدو مرادفاً لكلمة “المندسّين” في أيام الأسد.

تراكمت الحالات الفردية والجماعية، لتصبح قطيعية وفصائلية في السادس من آذار/ مارس الماضي، بعد إعلان ما سمّوه “النفير العام”، واعتلاء المشايخ منابر المساجد داعين الناس إلى الجهاد في الساحل، والتحريض على القتل الطائفي، وقتال “الكفّار النصيريين المرتدّين فلول النظام البائد”، واستقدام مجموعات مسلّحة من هنا وهناك، وسط تهليل من إعلام السلطة الجديدة، وإشادة بهذه الحميّة الثورية والغيرة على سلامة الوطن وأمنه.

خرجت مظاهرات تُطالب الدولة بتسليح المدنيين، فهل كانت “قوّات الفلول” تستوجب كل هذه الجحافل؟ وهل المعارك الصعبة تحتاج إلى هذا الزحف على قرى وبلدات، أكثر ما يمكن أن يمتلكه البعض فيها هو أسلحة فردية؟ لا شكّ في أنه التعطّش لدماء العلويين، كما تُظهر المقاطع المصوّرة بلسان مرتكبيها.

لماذا يتلثّم المعروف؟

ارتبطت مجازر الساحل بحقّ العلويين باسم عنصر في جيش النظام البائد يُدعى مقداد فتيحة، الذي ظهر في فيديو مشهور بعد انسحاب نظام الأسد من حلب، وباعتباري أعيش في الساحل السوري؛ فإنني أشكك في إمكانية وجود قوّات منظّمة يمكنها قلب نظام الحكم؛ كما ادّعت السلطة الجديدة، وأنا هنا أشكك ولا أنفي، أما فتيحة فهو معروف الشكل والهيئة والملامح، وله الكثير من الصور والفيديوهات، فلماذا يتكلّم وهو يضع اللثام على وجهه؟ معلناً تشكيل ما يسمّى “لواء درع الساحل”، ومتوعّداً السلطات الجديدة، هل يحاول أن “يقلّد” عناصر الإدارة الجديدة؟ هل يستوحي من تاريخ إعدامات “داعش” كما روّجت نظرية المؤامرة؟ كلما تتّبعنا نشاط فتيحة المنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، تزداد الأسئلة حول سطوته، خصوصاً أن البعض يُتّهم بأنه يتحرّك بين سوريا ولبنان.

وإن كانت العملية العسكرية في الساحل عبارة عن ملاحقة فلول؟ فلماذا السرقة؟ لماذا يوجد عائلات كاملة من أب وأم وأطفال تمّت تصفيتهم بملابس النوم في بيوتهم وغرف معيشتهم؟ ومن يتحمّل مسؤولية هذه المجازر؟

في سياق متّصل، دخل رتل عسكري يضمّ عشرات الآليات إلى إحدى القرى العلوية، وقد تبيّن على مدخل القرية أنهم ضلّوا الطريق، عندما سألوا السكان عن اسم القرية، وقد حدث خطأ في التوجيهات العسكرية إلى هذا الرتل، لكنّ ذلك لم يمنع من سرقة بضع سيارات ومحال تجارية لسكان مدنيين، وقتل عائلة كاملة بعد تجميعهم في غرفة النوم، وكل هذا كان بعد معرفتهم أن هذه القرية ليست مقصدهم، هنا يصبح الدمّ السوري تحت رحمة المصادفة والعشوائية والمزاجية.

سردية الأمن العام

تبدو سردية الأمن العام هو من يحمي المدنيين من جرائم الفصائل المنفلتة حقيقية في بعض المواضع، فقد علمتُ من أصدقائي في دمسرخو في محيط اللاذقية، أن هناك شجاراً يحصل بشكل يومي بين الأمن العام وفصيل متشدّد من المقاتلين الأجانب يريد استباحة المدنيين، ويرفض الفصيل أن يُغادر اللاذقية، إلا بشرط “السماح له باستباحة دمسرخو ومروج دمسرخو، ثم يترك اللاذقية”.

 كما يوجد بعض القصص المشابهة التي تُشيد بتصرّفات الأمن العام، لكنّ هذه السردية هشّة في شهادات أخرى، أخبرني قريب لي عن قيام الفصائل المتشدّدة في بعض القرى بسرقة البيوت، لكنّ دورية الأمن العام التي يبدو أنها كانت مرافقة لهذا الفصيل، تُخبر أحد أصحاب السيارات الذين طلبت الفصائل مفتاح سيارته أن يذهب بسرعة، عندما أتى بعد دقائق ليسلّمها لعنصر آخر طلبها “آسف معنا جماعة متشدّدين، نحن لسنا حرامية”، وقد قتل الرتل ذاته مدنيين آمنين في منازلهم.

 هل هذا هو الدمج الذي تحدّث عنه الشرع؟ دوريات من الأمن العام تُرافق الفصائل لضبطها؟ ولكن ما هي قيمة هذه المرافقة إن كانوا غير قادرين على منع المجازر والسرقات؟ عدا دخول الكثير من الأفراد إلى صفوف الأمن العام بعد فترة تدريب قصيرة، ويبدو من بعض الوجوه أنهم صغار في السن، وربما لم يبلغوا بعد الثمانية عشر عاماً، وقد أبلغ الكثير من الناس الذين أعرفهم عن انتهاكات بحقّهم من قِبل أفراد يرتدون بدلة الأمن العام ويضعون شعاره.

مسؤولية دماء الأمن العام 

صحّة سردية الأمن العام يُدافع عن الناس في وجه الفصائل والفلول، لا تُعفي السلطة الحالية من دماء المدنيين الأبرياء في الساحل السوري، في الوقت ذاته لا يعني ذلك الاستهانة بدماء قتلى الأمن العام، الذي رُمي بعضهم في الأحراج ودُفنوا في مقابر جماعية.

لكن السلطة أعلنت على لسان رئيسها أحمد الشرع موافقة جميع الفصائل على حلّ نفسها ووضع عتادها وجودها تحت إمرة وزارة الدفاع، وأيضاً لا يمكن تبرئة السلطة من دماء الأمن العام، حين أُقحموا في جبال لا يملكون فيها أي خبرة أو معرفة، بعد أن أكملت حكومة الشرع وقوّاته العسكرية استفزاز البيئة الساحلية، ومحاصرتها سياسياً وأمنياً واجتماعياً ومعيشياً وطائفياً، بعد فصل آلاف الموظّفين من أبناء الساحل بشكل تعسفي، وتجاهل وجود مئات الآلاف من العاملين والعاملات في المؤسّسات العسكرية والأمنية من عسكريين وموظّفين مدنيين لا علاقة لهم بحكم أو سلاح.

 الأطباء والممرّضون والفنّيون في المشافي العسكرية على سبيل المثال لا الحصر؛ مئات الآلاف من الأفراد باتوا بلا أي مصدر دخل، أي أن الملايين هم من دون مُعيل حقيقي، وعندما تُحاصر أحداً من جميع الاتجاهات وتحشره في الزاوية، فسيقاتل بأسنانه عندما تهجم عليه، إذ سيشعر أنه ليس لديه ما يخسره. ما أريد قوله، هو أنه قد يكون هناك بعض الفلول المنظّمة التي نسّقت الهجمات على الأمن العام، وهذا لم يستغرق أكثر من يومين لإخماده، فيما الجزء الأهمّ والأكبر باعتقادي، هو اضطرار الناس في الساحل للدفاع عن أنفسهم حين رأوا فيديوهات الذبح المنتشرة التي تقوم بها قوّات الشرع، فليتخيل أحدكم مجرمين يقتربون من بيته؟ ألن تستخدموا السلاح للدفاع عن أطفالكم وممتلكاتكم؟ ولو كان هذا الدفاع غير مجدٍ وسيزيد الطين بلة، ومن الاستسهال أن نطالب بالتفكير المنطقي في لحظات الرعب هذه.

السلاح في الساحل فقط!

التنطّع وتبرير قتل المدنيين “من أين أتوا بهذا السلاح؟ و”يجب حصر السلاح بيد الدولة” لا يبدو مقنعاً، فالسلاح موجود في كل المناطق السورية تقريباً، لكن لا يتمّ النظر إليه على أنه خطر سوى في الساحل، وكأنه لا يشكّل أي تهديد في يد الفصائل التي رأينا مجازرها، وكأن السلطة غير معنية سوى بتمشيط المناطق العلوية في الساحل وحمص، أما المناطق الأخرى فهي ليست معنية بحصر السلاح في يد الدولة، وحتى وجود أسلحة فردية لا يعني شيئاً عسكرياً.

هذا يتوضّح في اعتراف السلطة نفسها أنه بعد الدعوات إلى الجهات، انطلق “متحمّسون” من مختلف مناطق سوريا للمشاركة في “المعركة” في الساحل، هؤلاء حملوا السلاح الخفيف وانطقلوا، لكن هل تمّت مصادرة سلاحهم؟ تفلّت السلاح إذاً شأن انتقائي، عدم الثقة بالعلويين يعني تحوّل كل واحد منهم إلى “عدو” محتمل، خصوصاً حين نشاهد الصور والفيديوهات التي تُنشر بصورة يومية لمخازن السلاح والذخيرة التي تتمّ مصادرتها من مناطق مختلفة، لكن هل هذا يعني أن كل هذا السلاح هو مخصّص للعلويين من أجل القتال؟ ألم يكن حرياً بهم حمله منذ أول يوم من حملة “تمشيط الساحل”؟

الكثير من الأسئلة يمكن طرحها بخصوص السلاح المتفلّت، ودوره وآلية التعامل معه، لكن يبقى الخطر قائماً، كون السلاح المتفلّت؛ وإن “سُحب” من الساحل، فماذا عن باقي المحافظات؟

التبرير بدل تحمّل المسؤولية 

بعد إعلان انتهاء العملية العسكرية في الساحل، لم تكلّف السلطة نفسها عناء تقديم عزاء علني لأهالي الضحايا أو إعلان الحداد، وتحمّل المسؤولية كما يقتضي منطق الدولة، أما زيارة المناطق المنكوبة، فاقتصرت على بضع زيارات، مثل زيارة محافظ اللاذقية محمد عثمان قرية صنوبر جبلة، التي جرت فيها مجزرة مروّعة وثّقتها CNN طاولت أكثر مئتي مواطن، وقد بدت الزيارة تبريرية، إذ انفجرت إحدى السيدات “إنتو تأخرتو كتير كتير”، ليردّ عثمان “كنا محاصرين متلكم”، فترد “كلكم كنتو محاصرين؟”.

 أما الزيارة الأشهر فكانت إلى منزل السيدة زرقة سباهية في قبو العوامية في ريف القرداحة، التي قُتل ولداها أمامها وتم التشفّي منها أمام الكاميرا، ومجدداً يبرّر المحافظ أن قوّاته تعرّضت لإطلاق النار من بين المنازل في القرية، وبالتالي فهي مُجبرة على الردّ، ووعد بمحاسبة المسؤولين، ولم يخرج للإعلام سوى ثلاث دقائق من المقابلة، كان أهمّ ما فيها عفوية السيدة زرقة وكرمها الريفي حين كانت على هامش الشاشة تدعو مرافقي المحافظ إلى منزلها “تعو يا بيي تعو يا عيني اقعدوا”.

 ويقال إن المحافظ أعطاها ظرفاً من النقود لكنها رفضته رفضاً قاطعاً، ويأتي في السياق ذاته خروج ابنة السيدة زرقة في فيديو تطلب فيه من الإدارة الجديدة، التوقّف عن الضغط على والدتها واستغلالها سياسياً، ودعوتها إلى دمشق وطالبت بالابتعاد عن عائلتها.

الاهتمام بالصورة الإعلامية 

وفيما يوجد عشرات القرى المنكوبة في الساحل، وآلاف العائلات المتضرّرة، بسبب سرقة مصادر رزقها ونهبها، أو تعرّض معيليها للاعتداء أو القتل، نرى السلطة مهتمّة بشكل غير عادي بالمدنيين الذين يحتمون بالقاعدة الروسية في حميميم، وتُرسل لهم الطعام الذي يرفضون استلامه، وتُرسل الباصات لنقلهم إلى منازلهم، وتدعوهم للعودة رغم الرفض المتكرّر، “من سيؤمّن على نفسه بعد كل هذه المجازر؟”.

هنا تبدو سياسة الحكومة الجديدة واضحة، في الحفاظ على صورتها الإعلامية الهشّة، منذ استقدامها مؤثري “السوشيال ميديا” و”اليوتيوبرز”، وهي الآن لا تهتمّ سوى بالحالات التي تأخذ ضجيجاً إعلامياً، فكم من زرقة سباهية قُتل أبناؤها أمامها بتشفٍّ ومن دون تصوير؟ وكم من صنوبر لم تسمع عنه CNN؟ وكم من العائلات كانت تريد الاحتماء ولم تُفلح؟

يظن من يعيش خارج الساحل السوري، أن القتل الطائفي من قبل الفصائل المنضوية تحت راية وزارة الدفاع قد توقّف، لكنّه تحوّل إلى نمط آخر هو الخطف والقتل ليلاً من دون ضجيج وتصوير، فقد شهد حي الادخار في حمص مجزرة مروّعة، حيث اقتحمت مجموعة مسلّحة منزل مواطن يوم الخميس في 20 آذار/ مارس الماضي، وأقدمت على قتله بدم بارد مع أبنائه الثلاثة أمام أعين الأم وابنتها، ما أثار موجة من الرعب والهلع لدى العائلات العلوية القاطنة في الحي، وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان فقد تركوا بيوتهم إلى مناطق أكثر أمناً.

وفي اليوم نفسه، أقدم مسلّحون مجهولون على قتل شابين في قرية يحمور في ريف طرطوس، وبحسب مصادر أهلية قامت مجموعة مسلّحة تدّعي أنها من الهيئة، باقتحام عدد من المنازل في القطيلبية والراهبية في ريف جبلة والسطو على محتوياتها بقوّة السلاح.

 لا شكّ في أن مسلسل القتل والسرقة والسطو تقف خلفه موجات التحريض وخطاب الكراهية، الذي في كثير من الحالات يكون من قبل الحكومة نفسها، حيث أقدم مسؤول الأمن العام محمد هاني المرعي في إحدى المدارس الحكومية في جديدة يابوس في ريف دمشق، على السخرية من ممارسات الطائفة الشيعية، بعدما تمّ تهجيرهم من المنطقة.

02.04.2025
زمن القراءة: 8 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية