تُبرز مأساة الفاشر فداحة الثمن الذي يدفعه المدنيون في حرب لا تُبقي ولا تذر، حيث مورست ضدّهم أبشع الانتهاكات، لمجرّد وجودهم في مدينة رغبت “قوّات الدعم السريع” فى الاستيلاء عليها، لتُحكم قبضتها على إقليم دارفور.
أوصلت “الدعم السريع” البشاعة إلى قمّتها القصوى في الفاشر غرب السودان، حيث سارعت إلى تصفية المرضى والمدنيين فور استيلائها على المدينة في 26 تشرين الأوّل/ أكتوبر الحالي، في استمرار لحملة جرائم دامت 18 شهراً.
بدأت “الدعم السريع” بحصار الفاشر برّاً في نيسان/ أبريل 2024، عززته لاحقاً بتشييد سواتر ترابية بغرض التحكّم بنقاط الخروج، ومنع وصول السلع والأدوية إلى المدينة، التي كانت قبل اندلاع النزاع تؤوي قرابة مليوني شخص، هُجّر معظمهم بسبب الهجمات المتواصلة والقصف عبر المدافع والطائرات المسيّرة.
ومن هؤلاء فضّل 260 ألفاً البقاء، ربما خوفاً من الانتهاكات التي تشمل الابتزاز والاغتصاب والقتل والخطف وسحب الدم دون اشتراطات صحّية في الطريق، حيث تحكّمت “الدعم السريع” بمسارات الفرار بعد سيطرتها على القرى والبلدات حول المدينة وطرد السكّان منها.
لم تقم “الدعم السريع” خلال هجماتها على الفاشر بدءاً من 11 أيّار/ مايو 2024، بأيّ إجراءات ضدّ عناصرها الذين يقتلون المدنيين علناً، ويحتجزون النساء في مراكز عديدة، بعضهن جرى تزويجهن قسراً لمقاتلين، مما يشير إلى استراتيجية متعمّدة لإذلال المجتمعات وترهيبها.
تصفية الخلافات
تشكّلت “قوّات الدعم السريع” من ميليشيات “الجنجويد” التي استعان بها نظام الرئيس المعزول عمر البشير في حملة مكافحة الحركات المسلّحة، التي ينحدر مقاتلوها من قبائل الزغاوة والفور والمساليت الإفريقية في إقليم دارفور.
وإزاء الحملة العالمية ضدّ الفظائع التي ارتكبتها الميليشيات، شرع النظام السابق بعد مكافأتها بالأراضي الزراعية ومنازل سكّان القرى الذين هُجّروا قسراً، في منحها حصانة قانونية، واعتبرها قوّات نظامية بمسمّى “حرس الحدود”، ولاحقاً استُبدل الاسم إلى “قوّات الدعم السريع”، حيث تبعت في البداية جهاز الأمن والمخابرات.
وتوالى نفوذ “الدعم السريع” بطريقة سريعة، حيث سنّ لها البرلمان في 2017 قانوناً منفصلاً بموجبه أصبحت قوّة تأتمر بأمر البشير، وبعد عزله من الحكم ألغى قائد الجيش عبد الفتّاح البرهان المادّة الخامسة من هذا القانون، التي تنصّ على تبعيّة القوّات للجيش.
وحصل قائدها محمّد حمدان (حميدتي) على منصب نائب رئيس المجلس العسكري، الذي تولّى السلطة بعد عزل البشير في 11 نيسان/ أبريل 2019، ولاحقاً أصبح نائب رئيس مجلس السيادة، وهو المنصب الذي بقي فيه إلى لحظة اندلاع الصراع.
وقعت الحرب نتيجة خلافات حول ترتيبات دمج “الدعم السريع” في الجيش، في سياق عمليّة سياسية بين القادة العسكريين والقوى المدنية، لتستعيد “الدعم السريع” إرث “الجنجويد” في ارتكاب جرائم القتل الجماعي والنهب والعنف الجنسي، في الهجمات التي شنّتها على وسط السودان وغربه.
وحشد قادة معظم القبائل العربية في دارفور وبعض مناطق كردفان، مقاتلين من المجتمعات المحلّية لصالح “الدعم السريع”، التي انضمّت إليها جماعات مسلّحة عديدة، بغرض تعزيز صفوفهم وتصفية خلافات أهلية قديمة ورغبة البعض في الاستيلاء على الأراضي الخصبة، مثل مناطق المساليت في غرب دارفور وحول الفاشر.
هذه الرغبة شكّلت دافعاً قوّياً في استمرار توافد المقاتلين إلى الفاشر، حيث خاضوا 267 معركة في سبيل السيطرة عليها دون يأس، رغم مقتل آلاف منهم في الاشتباكات، بمن فيهم القائد الميداني الأشهر علي يعقوب.
وفي سبيل السيطرة على الفاشر، فرضت “الدعم السريع” حصاراً برّياً واستخدمت التجويع سلاحاً، ونصبت أنظمة دفاع جوّي لتعطيل القصف والإنزال الجوّي، إلى جانب الهجوم على مخيّم زمزم الواقع على بعد 12 كيلومتراً جنوب غرب المدينة، الذي كان يؤوي أكثر من نصف مليون نازح.
نماذج من الفظائع
فشلت “الدعم السريع” في التقدّم إلى وسط المدينة حتى آب/ أغسطس المنصرم، رغم القصف المتكرّر الذي تشنّه بالمدافع، ورغم تدمير المرافق الطبّية ومصادر المياه والأسواق، حيث لجأت إلى تكثيف استخدام المسيّرات في قصف مواقع الجيش ومراكز الإيواء ومحلّات البيع بالتجزئة، إلى جانب التوغّل داخل مخيّم أبو شوك الذي كان يستقرّ فيه 190 ألف نازح.
ولم تهتمّ القوّات المهاجمة بالمأساة الإنسانية التي سبّبها الحصار، حيث اضطرّ المدنيون إلى تناول علف الحيوانات والجلود من أجل البقاء، فيما لم يجد الأطبّاء غير الملح لتطهير جروح مصابي القصف والأقمشة لتضميدها.
إقرأوا أيضاً:
ونشرت “الدعم السريع” آلاف المقاتلين في الطرق حول المدينة لملاحقة الأشخاص الذين يجلبون سلعاً شحيحة، حيث اتّخذوا هذا الأمر ذريعة لقتل الشبّان وتعذيبهم، لتُختتم هذه الفترة من الانتهاكات بفظائع وصلت إلى مرحلة شوهدت فيها دماء الضحايا في صور الأقمار الصناعية.
تقول اللجنة التمهيدية لنقابة أطبّاء السودان “إن ميليشيا الدعم السريع ارتكبت مجزرة مروّعة بحقّ مواطنين عُزّل على أساسٍ إثني”، حيث أفادت بمقتل 2000 مدني وتصفية أكثر من 450 مريضاً ومصاباً في المستشفى السعودي، وما أكّدته منظّمة الصحّة العالمية التي تحدّثت عن خطف أربعة أطبّاء وممرّضة وصيدلاني من داخل المرفق.
وذكرت اللجنة أن “الدعم السريع” صفّى قرابة 1200 من كبار السنّ والجرحى والمرضى داخل المرافق الصحّية الميدانية، إضافة إلى انتهاكات أخرى شملت إعدامات ميدانية واقتحام منازل وعنفاً جنسياً، وإجبار الضحايا على حفر قبورهم ودفن أنفسهم أحياء، وحرق الفارّين داخل سيّاراتهم.
وقدّرت وجود 177 ألف مدني محاصر في الفاشر دون استبعاد تعرّضهم لعمليّات قتل جماعية، فيما تحدّث حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي عن وجود ما يصل إلى 50 ألف عالق في المدينة، مشيراً إلى أن “نصف الفارّين تستهدفهم الدعم السريع في الطريق”.
وتقول الناجية حياة يعقوب حسين بعد وصولها مع عشرات النازحين إلى طويلة، وهي منطقة تبعد نحو 60 كيلومتراً من الفاشر، إن “الدعم السريع” اقتحم منزلها بأسلحة ثقيلة، فهربت تاركة زوجها المصاب، وجثّة ابنها البالغ من العمر 18 عاماً الذي قُتل إثر إصابته بقذيفة.
ونشر مقاتلو “الدعم السريع” مقاطع فيديو تُظهر قيامهم بأعمال قتل جماعي داخل المدينة وحول الساتر الترابي، علاوة على إحراق مئات الأشخاص بلباس مدني داخل سيّارات مدنية وحولها، كانوا يحاولون الفرار من الفاشر.
وتحقّقت “هيومن رايتس ووتش” من صحّة فيديو يُظهر مقاتلي “قوّات الدعم السريع” يحتفلون فوق أعداد كبيرة من جثث الرجال والنساء القتلى، سواء بالبزّات العسكرية أو بالملابس المدنية، ويُعدِمون مدنيين مفترضين، ويسخرون من أشخاص مصابين بجروح بالغة ويُسيئون معاملتهم ويقتلونهم.
وأفادت بأنها حدّدت الموقع الجغرافي لثمانية فيديوهات صُوّرت في جوار الساتر الترابي المحيط بالمدينة، يُظهر أحدها عشرات الجثث بعضها بملابس عسكرية، وفي الثاني يظهر مقاتل يجلس القرفصاء، بجانب رجل يرتدي ملابس مدنية ولديه ضمّادة على أعلى ساقه اليمنى، وهو ممدّد على الأرض، وبينما يتوسّل الرجل طالباً الرحمة، يقول المقاتل: “لن أرحمك… نحن هنا لنقتل”، ثم يقف المقاتل ويُطلق النار على الرجل خمس مرّات من بندقية “كلاشنيكوف”.
وأجبرت “الدعم السريع” الصحافي معمّر إبراهيم على تصويره، حيث تحدّث عن اعتقاله بواسطة عناصرها أثناء مغادرة المدينة، فيما لا يزال مصير 11 صحافياً كانوا في الفاشر مجهولاً، وفقاً للجنة حماية الصحافيين.
وأثارت الجرائم المرتكبة في الفاشر غضباً شعبياً واسعاً وإدانات عربية ودولية، مما دفع “الدعم السريع” إلى الإقرار بحدوثها، حيث وصفتها بالتجاوزات، معلنة تشكيل لجنة تحقيق لمحاسبة الجناة، ونشرت لاحقاً صوراً تُفيد باعتقال الفاتح عبد الله إدريس “أبو لولو” الملّقب بجزّار الفاشر.
لم تعتقل “القوّات” الفاتح عندما أطلق 7 رصاصات على مدني داخل الفاشر في 17 آب/ أغسطس الماضي، حيث تعهّد في اليوم التالي باغتيال 2000 شخص، مما يشير إلى أنها احتجزته لتهدئة الرأي العامّ أو قرّرت اتّخاذه كبش فداء، حيث ظلّت تمنح عناصرها والمتعاونين معها حصانة من المساءلة.
تُبرز مأساة الفاشر فداحة الثمن الذي يدفعه المدنيون في حرب لا تُبقي ولا تذر، حيث مورست ضدّهم أبشع الانتهاكات، لمجرّد وجودهم في مدينة رغب “الدعم السريع” فى الاستيلاء عليها ليُحكم قبضته على إقليم دارفور.
إقرأوا أيضاً:











