انتشرت في الأيام الأخيرة مقاطع فيديو صادمة على وسائل التواصل الاجتماعي توثّق مشاهد مُهينة لإذلال أفراد من العابرين جنسياً في سوريا وتهديدهم. في أحد المقاطع، يظهر شخص عابر جنسياً محتجزاً داخل سيارة تتبع لإحدى الميليشيات المسيطرة، بينما يتعرض للضرب والركل، ويتلقى تهديدات بالسلاح الأبيض بقطع أعضائه التناسليّة وسط سيل من الإهانات اللفظية والتحقيرية.
ما يثير التساؤل ليس فقط وحشية المشاهد، بل أيضاً ردود فعل الجمهور التي تراوحت بين اللامبالاة والتشجيع الصريح، ناهيك بأن هذه المشاهد الصادمة من العنف لم تحرك أي استجابة حقيقية من المجتمع أو الجهات الحقوقية، فالتنكيل بمجتمع الميم في سوريا أمر عادي ومبرر في الخطاب العام، سواء قبل سقوط النظام أو بعده، ما حوّل العنف ضد هذه الفئة إلى سلوك ممنهج مدعوم بخطاب كراهية رسمي وشعبي.
يتم غالباً التعامل مع مقاطع الفيديو والصور التي توثق الانتهاكات ضد المدنيين في سوريا، بوصفها حالات فردية لا تعكس طبيعة الدولة الجديدة التي لم تتشكل بعد. لكن عندما يتعلق الأمر بالمثلية الجنسية والعابرين جنسياً، يتضح أن العنف ضدهم ليس مجرد تجاوزات فردية، بل هو جزء من منظومة قمعية أوسع تمتد عبر مختلف السلطات المسيطرة على الأرض.
لم يكن هذا القمع وليد اللحظة، بل هو امتداد لممارسات منهجية من الاعتقالات التعسفية، التشهير العلني، والاعتداءات الجسدية التي مارستها الأجهزة الأمنية خلال عهد النظام السابق. ومع انتقال السيطرة إلى الفصائل الإسلامية (نظرياً انضوت تحت وزارة الدفاع السورية الجديدة)، لم يتراجع هذا القمع، بل ازداد شراسة، إذ تحوّل خطاب الكراهية من مبررات سياسية وأمنية إلى غطاء ديني ذي شرعية أوسع.
“الخطيئة الكبرى”
في هذا السياق، لا تُعتبر المثلية مجرد “انحلال أخلاقي”، بل تُصوّر كخطيئة كبرى تستوجب “العقاب الإلهي”، ما يعزز الشعور لدى الجناة بأنهم ينفّذون إرادة عليا. بل إن بعضهم يستند إلى تفسيرات دينية تمنحهم سلطة تنفيذ العقاب باسم الله، كما لو أنهم تجسيد للعدالة الإلهية على الأرض. هذا التوظيف الديني لا يمنح القمع شرعية اجتماعية فحسب، بل يجعله أداة أيديولوجية تُستخدم لترسيخ النفوذ وإسكات أي أصوات تطالب بالعدالة أو المساواة.
في مناسبات عدة، شهدت مدن مثل دمشق وجرمانا حملة اعتقالات تعسفية استهدفت العشرات، بزعم ارتكابهم جرائم فضفاضة مثل “الإفساد الأخلاقي”، “الترويج للانحلال”، أو حتى “تجارة المخدرات”. وكالعادة، يروَّج لهذه الانتهاكات إعلامياً على أنها “انتصارات” للمجتمع ضد “الانحراف”، في حين يغيب أي نقاش جاد حول حقوق هؤلاء الأفراد الأساسية.
تسوَّق هذه الاعتقالات عبر وسائل التواصل الاجتماعي وكأنها إنجازات وطنية تستحق الاحتفاء، بل إن من ينشرها يشعر وكأنه يؤدي “واجباً أخلاقياً” يستحق التكريم، لكونه ساهم في “تطهير” المجتمع ممن يعتبرونهم “خطراً”. ولتعزيز هذا الخطاب المهين، تُنشر صور المعتقلين في مشاهد إذلالية متعمّدة، إذ يظهرونهم وكأنهم مرضى نفسيين، ذكور لكنهم يرتدون ملابس نسائية، ثم يجبرون على خلع الشعر المستعار، ما يهدف إلى نزع إنسانيتهم وإهانتهم أمام الرأي العام.
في هذه اللحظات، يُسلب هؤلاء الأفراد ليس فقط حريتهم، بل كرامتهم وحقهم في الدفاع عن أنفسهم، من دون أن يكون لديهم ملاذ قانوني يلجأون إليه أو مجتمع يدافع عنهم. وحدها بعض الأصوات القليلة، ومنظمات تعمل في الخفاء، تحاول تسليط الضوء على هذه الانتهاكات، في بيئة تزداد عدوانية تجاه كل من يجرؤ على الدفاع عن حقوق الفئات المهمّشة.
سلطة “الأخلاق” والجماهير
لطالما استخدمت الأنظمة القمعية شماعة “القيم الأخلاقية” لتبرير التنكيل بالفئات المهمّشة. في الحالة السورية، صُنّف مجتمع الميم على أنه تهديد اجتماعي، وليس مجرد أقلية تعاني من الاضطهاد، وأصبحت “الأخلاق” أداة ليس فقط للسلطة السياسية، ولكن أيضاً للجماهير التي تُغذى بخطاب الكراهية، إذ يُصوَّر أفراد مجتمع الميم على أنهم “خطر” يهدد استقرار المجتمع، وليس مجرد أقلية تطالب بحقوقها الطبيعية. هذا التوصيف ليس بريئاً، بل هو وسيلة فعالة لصرف الانتباه عن الأزمات الحقيقية كالقمع السياسي، الفقر، الفساد وتحويل الغضب الشعبي باتجاه الفئات الأكثر ضعفاً، ما يخلق حالة من الانشغال الجماعي في “حرب أخلاقية” مصطنعة.
لا يقتصر تبرير القمع على السلطة السياسية، بل يمتد إلى المرجعيات الدينية التي يُستخدم خطابها لإضفاء شرعية أخلاقية على هذه الانتهاكات. في سوريا، كما في غيرها من الدول التي تعاني من الاستبداد، تُستغلّ النصوص الدينية بانتقائية لتعزيز خطاب الكراهية ضد مجتمع الميم، وكأن العنف ضدهم واجب أخلاقي لحماية “القيم الأصيلة”. هذا التلاعب بالدين يعمّق الانقسام الاجتماعي، ويجعل من الصعب على الأفراد الوقوف في وجه الظلم، إذ يخشون من وصمهم كمتواطئين مع “الانحراف”.
خلال السنوات الماضية، ازداد توظيف الإعلام الرسمي والموالي في شنّ حملات تحريض ضد المثليين والعابرين جنسياً، من التقارير التلفزيونية التي تربط المثلية بالعمالة للخارج، إلى المحتوى الرقمي الذي يصوّرهم كمصدر للفساد الاجتماعي. وتتمثل هذه الاستراتيجية في تصوير المثلية الجنسية والعابرين جنسياً على أنهم جزء من “مخطط أجنبي” لنشر الانحلال، ما يجعل القمع ضدهم مقبولاً بل وضرورياً في نظر الجمهور. هذا ليس جديداً، فقد استخدمت أنظمة استبدادية عدة هذه الوسيلة لتبرير القمع، مثل نظام بوتين في روسيا، حيث سُنَّت قوانين ضد “الدعاية المثلية” بحجة حماية الأطفال، أو في مصر حيث استُخدمت الحملات الإعلامية لتشويه صورة المثليين وتصويرهم على أنهم “عملاء” أو “مثيرو الفوضى الاجتماعية”.
في سوريا، تُرتكب انتهاكات جسيمة بحق مجتمع الميم من دون أي تحقيق رسمي أو محاسبة، إذ يجرّم القانون السوري المثلية بشكل صريح، ما يرسّخ ثقافة الإفلات من العقاب. في ظل هذا الواقع، يشعر المعتدون أنهم محميون قانونياً واجتماعياً، ما يمنحهم ضوءاً أخضر لمواصلة العنف من دون رادع. هذه البيئة العدوانية لا تقتصر على الجهات الأمنية أو الميليشيات، بل تمتد إلى الخطاب العام الذي يعزز تجريد الضحايا من حقوقهم الأساسية، محوّلاً حياتهم إلى دائرة مستمرة من التهديد والملاحقة.
وسط هذه الفظائع كلها، يكاد يغيب الحديث عن المفهوم الأساسي الذي يُسحق في هذه المشاهد: الكرامة الإنسانية. فهي ليست منحة تعطى لفئة وتحجب عن أخرى، بل هي حق أصيل لكل إنسان بغض النظر عن هويته أو ميوله، فالتعذيب والإهانة والتشهير بأفراد مجتمع الميم ليس مجرد انتهاك لحقوقهم، بل هو اعتداء على المبادئ الأساسية التي يفترض أن تحكم أي مجتمع متحضّر. أما ما نشهده اليوم فهو استخفاف متعمّد بقيمة الإنسان، وتطبيع ممنهج للوحشية بحجة “الدفاع عن الأخلاق”.
وعلى رغم الانقسامات العميقة التي تفتّت المجتمع السوري، حيث تقف أطراف الصراع على ضفتين متعارضتين سياسياً وعسكرياً، هناك قضية واحدة يبدو أنها تحظى بإجماع نادر بين هؤلاء المتخاصمين: كراهية مجتمع الميم. سواء كانوا من أتباع “الجولاني” في إدلب أو معارضيه من الموالين للنظام السوري أو من أعدائه، فإنهم جميعاً يتفقون على اعتبار المثليين والعابرين جنسياً هدفاً مشروعاً للاضطهاد. هذه المفارقة العجيبة تكشف خللاً جوهرياً في العقل الجمعي، حيث تتحوّل الفئات المضطهدة نفسها إلى أداة قمع ضد من هم أضعف منها.
عندما تتفتت المجتمعات وتنهار القيم التي كانت تحكمها، يبحث الأفراد عن أي قاسم مشترك يعيد إليهم الشعور بالهوية الجماعية. في سوريا، حيث تحوّلت البلاد إلى فسيفساء من الكيانات السياسية والمسلّحة، أصبحت الهوية الجمعية مرتبكة ومبنية على نقيض الآخر بدلاً من تبنّي مبادئ جامعة. كراهية مجتمع الميم توفر هذا “النقيض” بسهولة، فهي لا تتطلب خطاباً سياسياً معقداً أو تفكيراً نقدياً، بل تعتمد على مشاعر بدائية من الاشمئزاز والخوف من المختلف. وبهذا، تصبح الكراهية بديلاً زائفاً عن الانتماء، حيث يتوحّد الجميع ضد عدو مشترك وهمي، بينما يستمر الأعداء الحقيقيون في قمع الجميع من دون تمييز.
الاستعانة بـ”ترامب”
تحوّلت منصات التواصل الاجتماعي إلى مساحات للتحريض العلني ضد مجتمع الميم. الفيديوهات الأخيرة التي توثق التعذيب، لم تُثر تعاطفاً بقدر ما حفّزت خطاب الكراهية. تعليقات كثيرة كانت تحتفي بالمشاهد، بل وتطالب بالمزيد من العنف. بعض المستخدمين بدأوا في نشر معلومات عن أشخاص يشتبه بأنهم مثليون، مستشهدين بأقوال دونالد ترامب خلال خطاب تنصيبه عندما قال: “في أميركا لا يوجد إلا جنسان، ذكر وأنثى”، ما أعطى شرعية مزيفة لممارساتهم العدائية. كما أن تعديلات سياسة الخصوصية الأخيرة التي فرضتها إدارة مارك زوكربيرغ بعد تعرّضه لضغوط من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ساهمت في إلغاء التعليقات المتعلقة بالجندر والميول الجنسية، ما أعطى دفعة جديدة للتحريض الإلكتروني من دون رادع.
على رغم خطورة الوضع، لا تزال الاستجابة القانونية غائبة تماماً، بل إن القضاء في سوريا غير مكترث بالقضية، إذ إن كثراً من رجال القانون أنفسهم ينتمون إلى التيار الرافض وجود مجتمع الميم. هنا، لا يكمن التحدي في القوانين وحدها، بل في الثقافة المجتمعية والتقاليد الدينية والعوامل الاجتماعية التي تجعل مجرد الدفاع العلني عن حقوق المثليين وصمة قد تضر بسمعة أي شخص يتبناه.
توثيق الجرائم أمر بالغ الأهمية، لكنه يظل غير كافٍ ما لم يترافق مع جهود قانونية لمحاسبة الجناة. في بعض الدول، نجحت الحملات الحقوقية في تقديم مرتكبي الجرائم ضد مجتمع الميم إلى المحاكم الدولية، لكن في سوريا، حيث لا يوجد دستور واضح أو إعلان دستوري، وحيث يجرّم قانون العقوبات منذ عام 1949 “المجامعة على خلاف الطبيعة” بعقوبات تصل إلى ثلاث سنوات، تُستخدم المادة 520 بصياغتها المبهمة لتبرير توقيف أفراد من مجتمع الميم. في ظل هذا الواقع، يصبح تحقيق العدالة أو حتى تأمين الحد الأدنى من الحماية لهذه الفئات المستضعفة أمراً شبه مستحيل.
إقرأوا أيضاً: