fbpx

مجزرة بلا دم في الغوطة:
الذكرى التاسعة لاختناقنا بـ”غاز الذنب”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ظللتُ لسنوات لا أعرف كيف مات شعبي ومن قتله، بقيت لسنوات أذكر الحرب في سوريا وكأنها حدث عابر طفيف، تجنبت لسنوات مشهد الدم والموت والتعذيب والتهجير، ثم تنبهت… تنبهت إلى وجهي الذي بات يشبه وجه المجرم،

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بعد تسع سنوات على المجزرة الكيماوية في الغوطة، ما زالت الحقيقة عالقة تحت بيانات النظام السوري وروايته الوقحة التي تحاول تبرئته من واحدة من أكبر المجازر في عصرنا الحديث. منذ 9 سنوات، تجرأت قوات الأسد على قتل ما يقارب من 1500 سوري خنقًا بغاز السارين. أقول “تجرّأت” لأنه رغم القوانين والمواثيق والاتفاقيات الدولية الواضحة بشأن الاسلحة الكيماوية، أقدم النظام أمام أنظار العالم، في زمن التطور التكنولوجي وسهولة التصوير والتوثيق، على ارتكاب “هولوكوست سورية” دون أي حساب أو عقاب. 

بعد انقضاء تسع سنوات، إذا لم نكتب نحن عن هذه المجزرة وضحاياها، إذا لم نوجّه أصابع الاتهام لنذكّر العالم بمجرم ما يزال على رأس الدولة، إذا لم نقف بوجه رواية المجرمين، سيلعننا التاريخ ويعاقبنا المستقبل بمزيد من المجازر والطغاة. إن أسوأ ما حل بأهل الغوطة بعد المجزرة هو عدم تصديق الناجين منهم. تخيّل أن تشاهد مئات الاطفال يختنقون أمام الكاميرات ثم تختار ان تشيح بوجهك ببساطة وتنظر الى جهة أخرى. تخيل ان ينكر أحدهم موتك رغم أنك كنتَ واضحاً وأنت تلفظ أنفاسك الأخيرة. تخيّل أن يمر أحدهم فوق ألف جثة وكأنه يمر فوق عشب في منتزه، ويختار يوميا أن ينكر رائحة الموت وصراخ القبور. بعد تسع سنوات على المجزرة، وعشرات الوثائق البصرية ومئات المستندات المفصلة للمجزرة التي تؤكد على هوية مرتكبها بمئات الدلائل، ما زال العالم يقف مرتبكاً لا يعرف كيف يأخذ قراراً صريحاً وحاسماً بحق المجرم ونصرة للضحايا. 

ولهذا يكتب السوريون اليوم، بعد أن اختار العالم بأجهزته القضائية ومؤسساته الحقوقية ومجالسه الدولية، أن يساعد الأسد على خنق الحقيقة بالغاز والمقايضات السياسية. عندما نجا النظام بفعلته منذ 9 سنوات، علم الشعب السوري أنه يقاتل وحيدا، ما أكثر ما سمعناه حينها عن العدالة والعقاب وما أقل ما رأيناه. بعد مجزرة الغوطة استعمل نظام الأسد الكيماوي 262 مرة في 8 سنوات، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، 3423 سوريًّا ماتوا خنقاً واحتراقاً، 14 ألف سوري أُصيبوا بهذه المجازر ووثقوا ما شاهدوه، ولم يصدّقهم أحد. 

بعد تسع سنوات على المجزرة الكيماوية في الغوطة، ما زالت الحقيقة عالقة تحت بيانات النظام السوري وروايته الوقحة التي تحاول تبرئته من واحدة من أكبر المجازر في عصرنا الحديث.

ما أسهل الجمل الثورية والانسانية الجوفاء على لسان صاحبها وما أقساها على الضحايا. لهذا يكتب السوريون، يكتبون دون جمل رنانة لكنهم لا يعرفون إلى من يوجّهون الكلام. على الاغلب توقف السوريون عن المناشدة والمطالبة منذ سنوات، اليوم نكتب فقط كي لا نختنق نحن بما نعرفه ويتجاهله كثيرون، نكتب لأن من مات منذ 9 سنوات هم أكثر من مجرد أرقام في كتب التاريخ، نكتب كي لا يحسبهم العالم أضرارًا جانبية للحرب، أو مجرد ضحايا. مئات العائلات أبيدت بالكامل في هذه المجزرة، واذا استسهل النظام قتلنا واستسهل العالم المضي قدماً فوق جثثنا، فنحن لا نساوم ولا ننسى ولا نسامح على دمائنا. إن لم نكن نحن اليوم مستعدين لتحقيق العدالة لشهدائنا فسنموت مظلومين أيضاً. ممن نطلب العدالة؟ من يمتلكها أصلاً ليعطينا إياها؟ هل نطلبها ممن شارك فيها أو ممن تغاضى عنها؟ هل نطلبها من الدول التي تظلم شعوبها هي الأخرى؟ هل نطلبها من الدول التي استنكرت منذ 9 سنوات واليوم تُعيد الأسد إلى أحضانها؟ هل نطلبها ممن يهدد بحرب نووية كل يومين؟ 

بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن الهجوم الكيماوي باغت الضحايا وهم نيام، ما يقلل فرص النجاة، كما أن مؤشرات الحرارة أثناء الهجوم تشير إلى سكون الهواء ما يؤدي الى عدم تطاير الغازات السامة الثقيلة لتبقى على الأرض وتقتل أعدادًا أكبر. هذه المعلومات أتت بعد تحقيق طويل في الكارثة لتؤكد أن الهجوم كان يهدف إلى قتل أكبر عدد من السوريين بأبشع الطرق الممكنة. من لم يمت في آب/أغسطس 2013 عاش ليخنقه غاز الذنب طوال حياته، ولم يخفف هذا الاختناق الا البوح بالحقيقة. 

ظللتُ لسنوات لا أعرف كيف مات شعبي ومن قتله، بقيت لسنوات أذكر الحرب في سوريا وكأنها حدث عابر طفيف، تجنبت لسنوات مشهد الدم والموت والتعذيب والتهجير، ثم تنبهت… تنبهت إلى وجهي الذي بات يشبه وجه المجرم، إلى جلدي الذي بات يشبه جلد التمساح، وقلمي الذي يبدو فارغاً مهما كتب الحبر. 

اليوم أكفّر عن ذنوبي في الساحة نفسها التي ارتكبت فيها الذنب، اليوم أكتب كل ما اعرف من كلمات، اوظف كل ما تعلمت من تقنيات في الصحافة، لأخبر العالم والله والتاريخ عن شعبي الذي مات خنقًا وجوعا وغرقا وحرقا وذلًّا. أكتب عن أكثر شعب موجوع وانا اعرف انني ربما لن أحقق العدالة لكنني على الأقل لن أعيقها، وعندما أموت لن أحمل ثقل الذنب بأنني سكتّ يومًا عن الحق. ظللت لسنوات أفكر بالياسمين الابيض عندما أفكر بسوريا، واليوم حينما أفكّر بالياسمين يتراءى لي أصفر بلون الموت. 

إقرأوا أيضاً:

25.08.2022
زمن القراءة: 4 minutes

ظللتُ لسنوات لا أعرف كيف مات شعبي ومن قتله، بقيت لسنوات أذكر الحرب في سوريا وكأنها حدث عابر طفيف، تجنبت لسنوات مشهد الدم والموت والتعذيب والتهجير، ثم تنبهت… تنبهت إلى وجهي الذي بات يشبه وجه المجرم،

بعد تسع سنوات على المجزرة الكيماوية في الغوطة، ما زالت الحقيقة عالقة تحت بيانات النظام السوري وروايته الوقحة التي تحاول تبرئته من واحدة من أكبر المجازر في عصرنا الحديث. منذ 9 سنوات، تجرأت قوات الأسد على قتل ما يقارب من 1500 سوري خنقًا بغاز السارين. أقول “تجرّأت” لأنه رغم القوانين والمواثيق والاتفاقيات الدولية الواضحة بشأن الاسلحة الكيماوية، أقدم النظام أمام أنظار العالم، في زمن التطور التكنولوجي وسهولة التصوير والتوثيق، على ارتكاب “هولوكوست سورية” دون أي حساب أو عقاب. 

بعد انقضاء تسع سنوات، إذا لم نكتب نحن عن هذه المجزرة وضحاياها، إذا لم نوجّه أصابع الاتهام لنذكّر العالم بمجرم ما يزال على رأس الدولة، إذا لم نقف بوجه رواية المجرمين، سيلعننا التاريخ ويعاقبنا المستقبل بمزيد من المجازر والطغاة. إن أسوأ ما حل بأهل الغوطة بعد المجزرة هو عدم تصديق الناجين منهم. تخيّل أن تشاهد مئات الاطفال يختنقون أمام الكاميرات ثم تختار ان تشيح بوجهك ببساطة وتنظر الى جهة أخرى. تخيل ان ينكر أحدهم موتك رغم أنك كنتَ واضحاً وأنت تلفظ أنفاسك الأخيرة. تخيّل أن يمر أحدهم فوق ألف جثة وكأنه يمر فوق عشب في منتزه، ويختار يوميا أن ينكر رائحة الموت وصراخ القبور. بعد تسع سنوات على المجزرة، وعشرات الوثائق البصرية ومئات المستندات المفصلة للمجزرة التي تؤكد على هوية مرتكبها بمئات الدلائل، ما زال العالم يقف مرتبكاً لا يعرف كيف يأخذ قراراً صريحاً وحاسماً بحق المجرم ونصرة للضحايا. 

ولهذا يكتب السوريون اليوم، بعد أن اختار العالم بأجهزته القضائية ومؤسساته الحقوقية ومجالسه الدولية، أن يساعد الأسد على خنق الحقيقة بالغاز والمقايضات السياسية. عندما نجا النظام بفعلته منذ 9 سنوات، علم الشعب السوري أنه يقاتل وحيدا، ما أكثر ما سمعناه حينها عن العدالة والعقاب وما أقل ما رأيناه. بعد مجزرة الغوطة استعمل نظام الأسد الكيماوي 262 مرة في 8 سنوات، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، 3423 سوريًّا ماتوا خنقاً واحتراقاً، 14 ألف سوري أُصيبوا بهذه المجازر ووثقوا ما شاهدوه، ولم يصدّقهم أحد. 

بعد تسع سنوات على المجزرة الكيماوية في الغوطة، ما زالت الحقيقة عالقة تحت بيانات النظام السوري وروايته الوقحة التي تحاول تبرئته من واحدة من أكبر المجازر في عصرنا الحديث.

ما أسهل الجمل الثورية والانسانية الجوفاء على لسان صاحبها وما أقساها على الضحايا. لهذا يكتب السوريون، يكتبون دون جمل رنانة لكنهم لا يعرفون إلى من يوجّهون الكلام. على الاغلب توقف السوريون عن المناشدة والمطالبة منذ سنوات، اليوم نكتب فقط كي لا نختنق نحن بما نعرفه ويتجاهله كثيرون، نكتب لأن من مات منذ 9 سنوات هم أكثر من مجرد أرقام في كتب التاريخ، نكتب كي لا يحسبهم العالم أضرارًا جانبية للحرب، أو مجرد ضحايا. مئات العائلات أبيدت بالكامل في هذه المجزرة، واذا استسهل النظام قتلنا واستسهل العالم المضي قدماً فوق جثثنا، فنحن لا نساوم ولا ننسى ولا نسامح على دمائنا. إن لم نكن نحن اليوم مستعدين لتحقيق العدالة لشهدائنا فسنموت مظلومين أيضاً. ممن نطلب العدالة؟ من يمتلكها أصلاً ليعطينا إياها؟ هل نطلبها ممن شارك فيها أو ممن تغاضى عنها؟ هل نطلبها من الدول التي تظلم شعوبها هي الأخرى؟ هل نطلبها من الدول التي استنكرت منذ 9 سنوات واليوم تُعيد الأسد إلى أحضانها؟ هل نطلبها ممن يهدد بحرب نووية كل يومين؟ 

بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن الهجوم الكيماوي باغت الضحايا وهم نيام، ما يقلل فرص النجاة، كما أن مؤشرات الحرارة أثناء الهجوم تشير إلى سكون الهواء ما يؤدي الى عدم تطاير الغازات السامة الثقيلة لتبقى على الأرض وتقتل أعدادًا أكبر. هذه المعلومات أتت بعد تحقيق طويل في الكارثة لتؤكد أن الهجوم كان يهدف إلى قتل أكبر عدد من السوريين بأبشع الطرق الممكنة. من لم يمت في آب/أغسطس 2013 عاش ليخنقه غاز الذنب طوال حياته، ولم يخفف هذا الاختناق الا البوح بالحقيقة. 

ظللتُ لسنوات لا أعرف كيف مات شعبي ومن قتله، بقيت لسنوات أذكر الحرب في سوريا وكأنها حدث عابر طفيف، تجنبت لسنوات مشهد الدم والموت والتعذيب والتهجير، ثم تنبهت… تنبهت إلى وجهي الذي بات يشبه وجه المجرم، إلى جلدي الذي بات يشبه جلد التمساح، وقلمي الذي يبدو فارغاً مهما كتب الحبر. 

اليوم أكفّر عن ذنوبي في الساحة نفسها التي ارتكبت فيها الذنب، اليوم أكتب كل ما اعرف من كلمات، اوظف كل ما تعلمت من تقنيات في الصحافة، لأخبر العالم والله والتاريخ عن شعبي الذي مات خنقًا وجوعا وغرقا وحرقا وذلًّا. أكتب عن أكثر شعب موجوع وانا اعرف انني ربما لن أحقق العدالة لكنني على الأقل لن أعيقها، وعندما أموت لن أحمل ثقل الذنب بأنني سكتّ يومًا عن الحق. ظللت لسنوات أفكر بالياسمين الابيض عندما أفكر بسوريا، واليوم حينما أفكّر بالياسمين يتراءى لي أصفر بلون الموت. 

إقرأوا أيضاً: