ليست إسرائيل وحدها من يقف وراء المجزرة المتواصلة منذ ثلاثة أسابيع في غزة، فالتفويض الذي منحه الغرب لبنيامين نتانياهو كان له الدور الأكبر في تعاظم الجريمة وفي تحولها من واقعة انتقام إلى فرصة إبادة منهجية لها وظيفة صارت واضحة، وتتمثل في عملية “ترانسفير”.
وصار واضحاً بفعل الوتيرة المتصاعدة للقتل أن “حماس” ليست الهدف الوحيد لآلة الحرب الإسرائيلية، انما أيضاً سكان القطاع، لا بل ما يضمه هذا القطاع من بنية تجعله مؤهلاً لأن يكون منطقة تصلح للعيش فيها مستقبلاً.
ما تعيشه غزة اليوم ليس حرباً بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس، ذاك أن أكثر من مليوني فلسطيني مستهدفون تحت أنظار العالم، وفي اللحظة التي كانت تُسقط فيها الطائرات الحربية الإسرائيلية آلاف الأطنان من المتفجرات على رؤوسهم، كان البيت الأبيض يرتكب بحقهم جريمة موازية تتمثل في رفضه قراراً بهدنة إنسانية في الجمعية العامة للأمم المتحدة!
أليس هذا كافياً للقول بأن شركاء كبار لإسرائيل، على رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، وآخرين من بينهم قطاع واسع من عواصم وإعلام غربي، هم جزء من آلة الحرب ومن وقائعها وتفاصيلها.
لم يسبق أن شهدنا في العصر الحديث، ومنذ الحرب العالمية الثانية، هذا المقدار من التواطؤ الدولي على مجموعة بشرية، سيقت إلى المصير الذي يعيشه الفلسطينيون اليوم في غزة. فالعالم بأجمعه ضرب صفحاً عن مسارٍ طويل من رفض “السلام” الذي أبدته إسرائيل بحكوماتها المتتالية منذ ثلاثة عقود، أي منذ أقدم الإسرائيلي ايغال عمير على اغتيال إسحاق رابين معلناً رفض إسرائيل السلام، واعتبر العالم أن واقعة 7 تشرين/ أكتوبر في غلاف غزة هي مؤشر رفض الفلسطينيين، وليس حماس، السلام!.
ما يجري في غزة لم يعد يحتمل تأويلاً آخراً غير أننا حيال عملية تطهير القطاع من سكانه. من يبقى على قيد الحياة عليه أن يشعر أن هذه الأرض لا تصلح لمواصلة الحياة فيها. عليه أن يوقن أن أحداً لا يريده أن يبقى في مدينته أو مخيمه أو مزرعته.
ما يجري ليس أقل من سقوط مدوٍ لقيم دأب العالم على الإطناب بها منذ الحرب العالمية الثانية. فإشاحة الوجه عن جريمة حرب ترقى لأن تكون إبادة، هو الفشل الأكبر لهذه القيم منذ الهولوكوست. قد لا تفوق أرقام قتلى مجزرة غزة قرينتيها في سوريا أو العراق مثلاً، لكن الأخيرتين لم تجريا على وقع جلسات تطبيع مع المجزرة في دوائر صناعة القرار في الغرب.
نعم آلة الحرب الإسرائيلية تتحرك اليوم في غزة بدعم من أميركا، ولكن أيضاً برعاية جزء كبير من الدول الأوروبية، وبانعدام حساسية جزء من العرب حيال الظلامة الفلسطينية. هذا العالم يتجاهل حقيقة أن الفلسطينيين، ومنذ الانتفاضة الثانية كانوا عرضة لانتهاكات حكومات اليمين الإسرائيلي المتتالية.
من يقول اليوم أن “حماس” ضد السلام، يضرب صفحاً عن ممارسات إسرائيلية كانت أشد وضوحاً في رفض السلام وفي استدراج العنف. ضم القدس وتوسيع البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية وإحكام الحصار على غزة ومصادرة المنازل وقتل الصحافيين، كل هذه الممارسات سبقت 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وإدانة عملية غلاف غزة من دون النظر إلى مقدماتها ينطوي على تمييز في الانحياز إلى الضحية أياً كانت هويتها.
واليوم، وتحديداً ليلة السبت- صباح الأحد، عُزل القطاع عن العالم. قطعت الانترنت، وطبعاً الكهرباء والماء والوقود، وأتيحت للطائرات الحربية الإسرائيلية أن تقتل من دون النقل المباشر، والمصادفة أن ذلك جرى على وقع جلسة للجمعية العامة للأمم المتحدة رفضت فيها واشنطن قراراً بهدنة إنسانية!.
هذا بالإضافة إلى عناصر أخرى في المشهد تؤكد أن المرتكب ليست تل أبيب لوحدها، فقد تزامن ذلك مع قرارات لمؤسسات دولية مانحة بوقف تمويل مشاريع إنسانية فلسطينية، وبتشكيك بهوية الضحية وبأرقام الجريمة.
ثم أن مسارعة واشنطن إلى تبني الرواية الإسرائيلية وتشكيكها بأرقام الضحايا مثلاً، كان بمثابة شد عزيمة نتنياهو على مزيد من القتل، وهنا نتحدث عن المدنيين، وليس غير المدنيين.
ما يجري في غزة لم يعد يحتمل تأويلاً آخراً غير أننا حيال عملية تطهير القطاع من سكانه. من يبقى على قيد الحياة عليه أن يشعر أن هذه الأرض لا تصلح لمواصلة الحياة فيها. عليه أن يوقن أن أحداً لا يريده أن يبقى في مدينته أو مخيمه أو مزرعته. والأشد قسوة أن أحداً لم يعطه خريطة نزوح أو لجوء أو نجاة. عقاب رهيب ليست حماس المستهدفة به، بل الفلسطينيون العزل والمحاصرون منذ ما يزيد عن 17 عاماً!.
قبل أشهر قليلة، وفي مؤتمر صحافي له، رفع نتانياهو خريطة إسرائيل التي لا أثر فيها لدولة فلسطينية، وقال إن التطبيع مع الدول العربية لن تعيقه الضغوط الفلسطينية. العالم الذي يقف إلى جانبه اليوم في حربه على أهل غزة، لم يستعد هذا المشهد في قوله إن “حماس” عقبة أمام السلام يجب إزالتها. العقبة الفعلية أمام السلام هي إسرائيل، وما يجري اليوم ليس “إزالة حماس”، انما إزالة سكان القطاع.
إقرأوا أيضاً: