في أعقاب تحرّر سوريا، يدور النقاش حول مستقبل نظامها الاقتصادي. وسط تعدّد الأصوات، تتّجه حكومة الإدارة الحالية وفق تصريحات بعض مسؤوليها إلى نحو اقتصاد حر، يشمل رفع الدعم عن الخبز والمواد الأساسية، وتحرير التجارة والأسعار.
تثير ضبابية تصريحات الإدارة الحالية عن طبيعة النظام السياسي وإجراءات العملية الانتقالية القلق، خصوصاً في ما يتعلق بشرعية صلاحياتها. ولكن، سنتجاوز هذا النقاش نظراً الى أهمية الملف الاقتصادي وإلحاحه.
لا يمكن وصف النظام الاقتصادي السابق بالنظام الاشتراكي المغلق. إذ ابتعد تدريجياً عن هيمنة القطاع الحكومي منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي. مع رداءة الأداء الاقتصادي للنظام السابق، يبدو أنّ التوجّه الاقتصادي الجديد ليس مبنياً على الواقع ورؤية اقتصادية ناضجة وإنما كردّ فعل على صورة ماضية للنظام السابق تخلّى عنها ذاته منذ عقود عدة.
يذكّر الحديث عن تحرير الأسعار والخصخصة وتحرير التجارة بتوافق واشنطن وما يسمّى بعلاج الصدمة الذي طُبّق في دولة الكتلة الشرقية إبان انهيار الاتحاد السوفياتي كمسار للتحوّل الاقتصادي لدول الكتلة الشرقية الاشتراكية. ويُعرَّف كتحرير سريع داخلي وخارجي للأسواق والأسعار ومعها حركة التدفقات المالية والتجارية، لتمكين السوق من تخصيص موارد الاقتصاد وفق آلياته من دون تدخل الدولة.
يتناسى دعاة أصولية السوق، الآثار التدميرية لعلاج الصدمة على بلدان الكتلة الشرقية. مع التفاوت في الأداء بين الدول، لم تبدأ اقتصادات دول علاج الصدمة بالنمو، في المتوسط، إلا بعد مرور عشر سنوات على بدء التحول. ولم تستعد حصة الفرد من الناتج المحلي إلا بعد 17 سنة.
مع 90 في المئة من سكان يعيشون تحت خط الفقر وبنى تحتية مهلهلة وقاصرة، فإن البلاد لا تحتمل أن تكون عرضة لتجربة جلبت سنين طويلة من الكساد والآثار الاجتماعية التخريبية التي شهدتها دول تعرّضت لعلاج الصدمة وفقاً لبيانات كتاب –التأمل في الصدمة-.
فقد تضاعفت معدّلات الفقر والحرمان في العشر سنوات الأولى للتحوّل. وبقيت نسبة الفقر -من يعيش على 5.5 دولار أو أقل- في 2015 أعلى مما كانت عليه سنة 1989 في دول كجورجيا وبلغاريا، ورومانيا، وكرواتيا، ولاتفيا. بالإضافة إلى تراجع مؤشرات ديمغرافية أخرى كمتوسط العمر المتوقع، ومعدل الوفيات. كما أشارت دراسة البنك الأوروبي الى إعادة التعمير والتنمية إلى تراجع طول القامة لمن وُلدوا في فترة تحرير الأسعار في الكتلة الشرقية، بمقدار 1 سم مقارنة بمن ولدوا قبلهم أو بعدهم. هذا كله يشي بعمق سلبية التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية للتحوّل بعلاج الصدمة.
إقرأوا أيضاً:
إجمالاً، نتجت الآثار السلبية الاقتصادية والاجتماعية لعلاج الصدمة من تفكّك قطاعات الإنتاج وتدهور شبكات الدعم الاجتماعي الناتج من التضخم، البطالة المرتفعة، رفع الدعم الحكومي عن المنتجات الأساسية للاستهلاك والإنتاج، والأزمات المالية كالتي شهدتها روسيا في أواخر التسعينيات.
ما هو أكثر إشكالية في الدعوة إلى تحرير الأسواق، هو عدم مراعاة الظرف الاقتصادي المحلي لدولة كسوريا غير حصينة ضد هزّات انكماش تدفّق النقد الأجنبي الضروري لتوفير احتياجاتها الضرورية من المستوردات والالتزامات النقدية مثل كالديون الخارجية.
فكما أوضح كبير مهندسي علاج الصدمة جفري ساكس في مراجعاته لتوصياته في تسعينيات القرن الماضي، فإن الدول الوحيدة من الكتلة الشرقية التي لم تعان سلبياً من التحوّل الاقتصادي بعلاج الصدمة على المدى الطويل، كانت إما ذات ثروات باطنية أو كانت ذات أهمية جيوستراتيجية مكّنتها من الاستفادة من الدعم الغربي. وأشار إلى أهمية دعم الصندوق الدولي والدول الغربية لتوفير دعم نقدي واقتصادي كافٍ لتسيير عملية التحوّل الاقتصادي واستقرارها. فمثلاً، تم دعم دول أمثال بولندا التي أراد الغرب إدماجها في منظومته، بعكس روسيا التي أراد إضعافها واحتواءها.
تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ أهم عرّابي علاج الصدمة من مؤسسات واشنطن -مؤسستا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي- انزاحوا عن أدبيات “توافق واشنطن” بعد الضربات التي تلقتها وصفات التوافق إثر سلسلة من الأزمات الاقتصادية التي صاحبت تحرير الاقتصاد وفق وصفات “توافق واشنطن” في عقد التسعينيات وأوائل الألفية، كالأزمة الأسيوية 1997 وأزمات المكسيك 1994، وروسيا 1998 والأرجنتين 2001.
هذه الأزمات دفعت مؤسستي “توافق واشنطن” إلى البحث عن توصيات ما بعد هذا التوافق، الذي ضمّت توصياته تراجعاً نسبياً عن أصولية السوق نحو تبني دور أكبر للدولة يولي أهمية لبناء الرأسمال البشري ومسائل توزيع الدخل والفقر والإنفاق الاجتماعي كمعزز للتشغيل واستقرار الدخل وحماية السكان من الصدمات الاقتصادية. تعزّز هذا التوجّه في أعقاب الأزمة المالية 2008 وأزمة كوفيد. وأصبح صندوق النقد الدولي يرحب بتقييد التدفقات المالية الأجنبية للحفاظ الاستقرار الاقتصادي.
تباعد المؤسسات الدولية عن توافق واشنطن جاء معه أيضاً تراجع الإدارات الأميركية نفسها عن توجهات التجارة الحرة، وصل في عهد بايدن إلى المزيد من تعزيز دور الدولة في الاقتصاد مع صعود أدبيات تقليل المخاطر-derisking– في دوائر القرار الغربية.
في الحالة السورية التي لا يملك اقتصادها حتى البنى التحتية الكافية لدعم قطاع خاص قادر على توفير فرص عمل ذات دخول كافية لحياة كريمة، يجب مقاربة الملف الاقتصادي بشكل واعٍ للواقع ولتجارب الدول المشابهة لسوريا ومحقّق لحدّ مقبول من العدالة الاجتماعية، تقوم فيه الدولة بمهامها التنموية والتضامنية، بخاصة أن الأمن الغذائي والاقتصادي يلتصق بالأمن الاجتماعي الممهد لمناخ آمن لبناء الدولة بعيداً من اضطرابات وفرص للتدخل الخارجي الذي يسرّه انتشار الجوع والعوز.
عنوان أي تحوّل اقتصادي في سوريا يجب أن يكون على أساس التدرّج في ظل الشراكة بين القطاع العام والخاص، لتحقيق أهداف التنمية المتوازنة والعدالة الاجتماعية، وليس الانزلاق من عمىً أيديولوجي ابتدأ في ستينيات القرن الماضي إلى عمىً أيديولوجي آخر سيكون أكثر كارثيةً.