fbpx

محافظة القاهرة… مرآب سيارات مكان قبر ابن خلدون والمقريزي !

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

فكرة إنشاء موقف سيارات في منطقة تاريخية كانت تضم مقبرة ابن خلدون والمقريزي فضلاً عن رموز أخرى مثل ابن هشام النحوي وتقي الدين السبكي وغيرهم الكثير، تبدو فكرة عبثيّة لا يمكن التفكير فيها إلا في دولة تعاني من الجهل بقيمة التراث وطرق التعامل معه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في آب/ أغسطس الحالي، أصدر محافظ القاهرة قراراً يحمل رقم 1117 لسنة 2024، بوقف الدفن في جبانة باب النصر، وبتوجيه المواطنين لنقل رفات ذويهم من الأماكن التي دُفنوا فيها الى أماكن أخرى.

جاء القرار مقتضباً تماماً من دون الخوض في أي تفاصيل أخرى، وبطبيعة الحال نُفِّذ على الفور، فقد أوضح نائب المحافظ ماهية هذا القرار والهدف منه، مشيراً إلى أن المحافظة تستهدف إقامة موقف متعدد الأدوار في تلك المنطقة ليخدم زوار مشروع القاهرة التاريخية الذي تعمل الدولة على تطويره. ولتنفيذ هذا المشروع، ستُزال المقابر بعمق 100 متر شمال شارع البنهاوي، الأمر الذي يستوجب إزالة 1171 مقبرة، و 49 مدفناً في تلك المنطقة. 

هدم وتخريب متعمّد لتُراث القاهرة

لا يمكن نزع تلك الحادثة من السياق، إذ تأتي ضمن سلسلة طويلة من الاعتداءات على المقابر والجبانات في القاهرة، فقد شهدت قرافات القاهرة بدءاً من سنة 2019 حتى الآن، موجة عنيفة من الهدم والتخريب المتعمد لنسيجها العمراني بحجة إقامة محاور وكباري مرورية تخدم منطقة القاهرة الجديدة والعاصمة الإدارية الجديدة.

 من بين المناطق التي تعرضت للاعتداء، منطقة قرافة الإمام الشافعي، والذي يُعمل على هدم أحواشها حتى الآن، ومقابر البساتين، وجبانة جلال الدين السيوطي التي أزالت الدولة فيها معظم المقابر والأحواش وقرافة السيدة نفيسة. 

أعادت تلك الحادثة في باب النصر الى الأذهان حادثة قبر المقريزي وابن خلدون، فبات الحديث وكأنه محاولة للحفاظ على حوش الصوفية الذي ضم رفات المؤرخين الشهيرين. صحيح أنه لا يوجد تأكيد نهائي حول ما إذا كان حوش الصوفية قد هُدم بالفعل أم لا يزال متوارياً تحت المقابر الجديدة في المنطقة. 

ليس قبر ابن خلدون المشكلة الوحيدة

تخضع مقابر باب النصر لقانون اليونسكو الذي يتعامل مع القاهرة التاريخية إجمالاً على أنها منطقة تراث يجب الحفاظ عليه، وبالتالي يجب أن يكون التعامل معها دقيقاً وفقاً لآليات التعامل مع المناطق التراثية حول العالم، والتي تحددها اليونسكو. 

خرقت مصر تلك القوانين في تعاملها غير الواعي مع القاهرة التاريخية منذ 2019 حتى الآن، فالمناطق التي لا يحميها قانون حماية الآثار المصري المنغلق على ذاته، باتت عرضة لعجلات البلدوزر وقرارات الدولة التعسفية تجاهها، الأمر الذي أضرّ بنسيجها العمراني وسبّب الكثير من المشاكل فيها. 

المشكلة الرئيسية تكمن في تعامل الدولة ذاته مع تراث القاهرة العمراني، والنظر إليه باستعلاء كعشوائيات أو تعدٍّ على أملاك الدولة، من دون الأخذ بالاعتبار عمقها التاريخي والجغرافي القائم منذ مئات السنين.

 وهذا ما جعل الدولة المصرية مطالبة بتقليص مساحة القاهرة التاريخية في أيلول/ سبتمبر الماضي، حين عقد مؤتمر اليونسكو الذي أقيم في الرياض، وفيما تسعى دول العالم الى زيادة مساحة المناطق التراثية الخاصة بها أو إدراج مناطق جديدة ضمن قائمة اليونسكو، تسعى مصر إلى تقليص مساحة القاهرة التاريخية حتى تتمكن من تنفيذ مخططاتها التطويرية من دون مشاكل. 

خارج سور القاهرة الشمالي عند بابي الفتوح والنصر، ترتكز منطقتان، الأولى سكنية والثانية مخصصة لدفن الموتى، أطلق على الأولى حي الحسينية، وهو حي عريق يمتد جغرافياً حتى حي الظاهر، الحي المنسوب اسمياً للظاهر بيبرس البندقداري، والذي ضم كذلك مسجداً بناه في تلك المنطقة. أما الثانية، فقد أُطلق عليها قرافة باب النصر، أو منطقة خارج باب النصر كما سماها المقريزي في كتابه الجامع لخطط ودروب وأحياء القاهرة “المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار”؛ وتشكل تلك المنطقة امتداداً عمرانياً للقاهرة المسورة التي أنشأها الفاطميون عند دخولهم إلى مصر، وظهيراً صحراوياً مميزاً تميز به عمران المدن في القرون الوسطى. 

مدينة القاهرة الفاطمية التي كانت تقتصر فقط على ما هو داخل السور، تطورت مع مرور الوقت واحتوت كل الأحياء بشكل بالغ الاستثناء. أما منطقة خارج باب النصر فيورد المقريزي في كتابه عن تاريخ هذه المنطقة، أنها كانت فضاءً ليس فيه إلا مصلى العيد، والذي بناه جوهر الصقلبي بالتزامن مع بنائه القاهرة الفاطمية، إلا أنه مع الوقت تحوّل الى مصلى للأموات أيضاً. 

نقطة التحول الرئيسية لتلك المنطقة كانت عندما دُفن بدر الجمالي، أمير الجيوش الوزير الفاطمي القوي فيها، ويحدد المقريزي موضع دفن أمير الجيوش في الجهة البحرية من المصلى المذكور، وبنيت على قبره على حد وصف المقريزي “تربة جليلة”. ومذاك، يتابع الناس بناء الترب والأحواش فيها، تحديداً هؤلاء الذين كانوا يقطنون في الحسينية، الحي الملاصق لها، والقاطنين كذلك في أحياء القاهرة المسورة المختلفة، بخاصة هؤلاء الذين انتموا إلى خانقاة سعيد السعداء وخانقاة بيبرس الجاشنكير، حيث تم تحديد جزء مخصص لدفنهم تحت اسم “أحواش الصوفية”. فضلاً عن ذلك، فإن بعض أمراء المماليك بنوها عن طريق تأسيس منشآت دينية فيها. 

جرح ابن خلدون الذي لم يلتئم بعد

لم تنل جبانة باب النصر شهرة واسعة كالتي ورثتها مقابر أخرى في القاهرة على غرار قرافة الإمام الشافعي أو السيدة نفيسة، لأسباب عدة، أولّها الاسم الذي نسبت إليه القرافة، فقرافة الإمام الشافعي قامت على أحد الأولياء والفقهاء المعتبرين لدى المجتمع المصري، وكذلك السيدة نفيسة، لذلك تنافس الناس من مختلف أحياء القاهرة على الدفن فيها تبركاً بها وبمن دُفن فيها.

على الرغم من ذلك كله، إلا أن جبانة باب النصر تعد إحدى أقدم المقابر في تاريخ القاهرة، كما أن موقعها الجغرافي الملاصق لعدد من الأحياء القاهرية جعل من الوصول إليها أمراً بالغ الاستثناء في تاريخ المدينة العمراني، فأصبحت وكأنها مقابر خُصصت لسكان أحياء بعينها تتجمع فيها الأسر بعد وفاتها، لقد اعتاد أهالي الحسينية -حتى الآن- فضلاً عن بعض أهالي القاهرة دفن موتاهم فيها، وزيارتها بشكل مستمر. وعلى رغم هذه الحيثية التاريخية والاجتماعية، فقد مرت بكارثة في بداية الألفية الجديدة، مزقت نسيجها العمراني وبعثرت بعضاً من صفحات تاريخها العريق. 

وقعت تلك الحادثة المأساوية في عام 1999، إذ استهدفت الدولة المصرية آنذاك إنشاء طرق عدة في مدينة القاهرة بهدف تفكيك التكدس المروري داخل طرقها وشوارعها. وكان من بين تلك الشوارع التي شُقت في القاهرة، البنهاوي، الشارع الذي جاء على حساب عدد من مقابر باب النصر التي كانت قريبة جداً من سور القاهرة الشمالي.

 يمتد شارع البنهاوي الموازي لسور القاهرة الشمالي من باب الشعرية حتى شارع المنصورية الموازي هو الآخر لطريق صلاح سالم. وقد أُزيل عدد كبير من المقابر التي ضمّتها جبانة باب النصر من دون وعي بأهميتها التاريخية، كان من بينها حوش الصوفية التابع لخانقاة بيبرس الجاشنكير. 

وفقاً للمصادر التاريخية، فإن هذا الحوش ضمّ أضرحة عدد مهم من المؤرخين والمفكرين في التاريخ المصري، من ضمنهم تقي الدين المقريزي نفسه، أعظم مؤرخي مصر وصاحب كتاب “الخطط”، الذي دوّن فيه الأحياء والشوارع والمباني فيها ودون فيه تاريخ تلك المنطقة تحديداً، فضلاً عن ذلك فقد ضمّ هذا الحوش ضريح عبد الرحمن بن خلدون، المفكر وعالم الاجتماع الأشهر على الإطلاق وشيخ تقي الدين. لقد انتمى هؤلاء المؤرخون إلى خانقاة بيبرس الجاشنكير، ودُفنوا في مقابرها التي خُصصت لصوفية تلك الخانقاة.

 يشير عبد الرحمن الجبرتي المتوفى سنة 1825، والذي دفن في المجاورين -بالقرب من جبانة باب النصر- إلى أن قبر المقريزي الموجود في حوش الصوفية، يجاور قبر الدميري صاحب كتاب حياة الحيوان، في المنطقة نفسه الذي يدور عليها الذكر، إلا أن الحوش لم يعد له أثر بعد سنة 2001، إذ داس البلدوزر الموقع وساواه بالأرض. 

لا يمكن بأي حال من الأحوال استيعاب تلك الحركة الجريئة والغاشمة، فلقد هُدمت مقبرة المقريزي وابن خلدون والدميري فضلاً عن عدد كبير من المفكرين والمؤرخين الذين أثروا المكتبة الفكرية في غمضة عين.

وقع الخبر على مثقفي تلك الفترة كالصاعقة، فقد كان بمثابة عمل كارثي وعار كبير لحق بتاريخ مصر، لا يمكن أن يتم تجاوزه أو المسامحة فيه. لكن الأهم من ذلك كله، أن تكون تلك الحركة -على عنفها وقسوتها- ساكنة في الوجدان المصري بكل مآسيها، ومحركاً رئيسياً للحفاظ على ما تبقى من تراث مصر، وأن تكون كذلك هي العامل الأول لكيفية التعامل مع منطقة حساسة كالقرافة. إلا أنه وبعد ربع قرن فقط من تلك الحادثة المأساوية، صعدت مجدداً إلى السطح مرة أخرى. 

ورثت منطقة باب النصر تاريخاً عريقاً وطويلاً، شكّله الناس بأنفسهم وعبروا عنه بطريقتهم، فالمنطقة التي كانت تحمل ضريح المقريزي وابن خلدون، تضم طرازاً معمارياً مميزاً عُرف بالأحواش الخشبية، حيث تُبنى الأحواش على المقابر في منطقة باب النصر بالخشب، وهو ما يتناسب مع طبيعة المناخ.

 تحتفظ جبانة باب النصر بعدد كبير من تلك التراكيب الأنيقة التي باتت مهددة بالإزالة تماماً. فضلاً عن هذا، فإن تاريخها العمراني الذي دوّنه المقريزي وحافظ عليه المؤرخون من بعده يستحق أن ينُظر إليه بتقدير أكبر من ذلك.

فكرة إنشاء موقف سيارات في منطقة تاريخية كانت تضم مقبرة ابن خلدون والمقريزي فضلاً عن رموز أخرى مثل ابن هشام النحوي وتقي الدين السبكي وغيرهم الكثير، تبدو فكرة عبثيّة لا يمكن التفكير فيها إلا في دولة تعاني من الجهل بقيمة التراث وطرق التعامل معه.

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 13.09.2024

انتخابات الأردن: “الإخوان” هم الإجابة الهاشميّة عن الترانسفير 

وصول "الإخوان المسلمين"، الذين تصنفهم دول خليجية كجماعة إرهابية، إلى البرلمان، يكشف أيضاً عن طبيعة التوتر الصامت بين عمان وبين دول اتفاقات "إبراهام"، التي زادت من مخاوف الأردن الديموغرافية، بفعل عدم ربطها بين السلام وبين حق الفلسطينيين بدولة في الضفة الغربية والقدس. ولا بد والحال هذه من تذكير الدول الإبراهيمية باحتمالات السلام المجاني، و"الإخوان المسلمين"…
04.09.2024
زمن القراءة: 6 minutes

فكرة إنشاء موقف سيارات في منطقة تاريخية كانت تضم مقبرة ابن خلدون والمقريزي فضلاً عن رموز أخرى مثل ابن هشام النحوي وتقي الدين السبكي وغيرهم الكثير، تبدو فكرة عبثيّة لا يمكن التفكير فيها إلا في دولة تعاني من الجهل بقيمة التراث وطرق التعامل معه.

في آب/ أغسطس الحالي، أصدر محافظ القاهرة قراراً يحمل رقم 1117 لسنة 2024، بوقف الدفن في جبانة باب النصر، وبتوجيه المواطنين لنقل رفات ذويهم من الأماكن التي دُفنوا فيها الى أماكن أخرى.

جاء القرار مقتضباً تماماً من دون الخوض في أي تفاصيل أخرى، وبطبيعة الحال نُفِّذ على الفور، فقد أوضح نائب المحافظ ماهية هذا القرار والهدف منه، مشيراً إلى أن المحافظة تستهدف إقامة موقف متعدد الأدوار في تلك المنطقة ليخدم زوار مشروع القاهرة التاريخية الذي تعمل الدولة على تطويره. ولتنفيذ هذا المشروع، ستُزال المقابر بعمق 100 متر شمال شارع البنهاوي، الأمر الذي يستوجب إزالة 1171 مقبرة، و 49 مدفناً في تلك المنطقة. 

هدم وتخريب متعمّد لتُراث القاهرة

لا يمكن نزع تلك الحادثة من السياق، إذ تأتي ضمن سلسلة طويلة من الاعتداءات على المقابر والجبانات في القاهرة، فقد شهدت قرافات القاهرة بدءاً من سنة 2019 حتى الآن، موجة عنيفة من الهدم والتخريب المتعمد لنسيجها العمراني بحجة إقامة محاور وكباري مرورية تخدم منطقة القاهرة الجديدة والعاصمة الإدارية الجديدة.

 من بين المناطق التي تعرضت للاعتداء، منطقة قرافة الإمام الشافعي، والذي يُعمل على هدم أحواشها حتى الآن، ومقابر البساتين، وجبانة جلال الدين السيوطي التي أزالت الدولة فيها معظم المقابر والأحواش وقرافة السيدة نفيسة. 

أعادت تلك الحادثة في باب النصر الى الأذهان حادثة قبر المقريزي وابن خلدون، فبات الحديث وكأنه محاولة للحفاظ على حوش الصوفية الذي ضم رفات المؤرخين الشهيرين. صحيح أنه لا يوجد تأكيد نهائي حول ما إذا كان حوش الصوفية قد هُدم بالفعل أم لا يزال متوارياً تحت المقابر الجديدة في المنطقة. 

ليس قبر ابن خلدون المشكلة الوحيدة

تخضع مقابر باب النصر لقانون اليونسكو الذي يتعامل مع القاهرة التاريخية إجمالاً على أنها منطقة تراث يجب الحفاظ عليه، وبالتالي يجب أن يكون التعامل معها دقيقاً وفقاً لآليات التعامل مع المناطق التراثية حول العالم، والتي تحددها اليونسكو. 

خرقت مصر تلك القوانين في تعاملها غير الواعي مع القاهرة التاريخية منذ 2019 حتى الآن، فالمناطق التي لا يحميها قانون حماية الآثار المصري المنغلق على ذاته، باتت عرضة لعجلات البلدوزر وقرارات الدولة التعسفية تجاهها، الأمر الذي أضرّ بنسيجها العمراني وسبّب الكثير من المشاكل فيها. 

المشكلة الرئيسية تكمن في تعامل الدولة ذاته مع تراث القاهرة العمراني، والنظر إليه باستعلاء كعشوائيات أو تعدٍّ على أملاك الدولة، من دون الأخذ بالاعتبار عمقها التاريخي والجغرافي القائم منذ مئات السنين.

 وهذا ما جعل الدولة المصرية مطالبة بتقليص مساحة القاهرة التاريخية في أيلول/ سبتمبر الماضي، حين عقد مؤتمر اليونسكو الذي أقيم في الرياض، وفيما تسعى دول العالم الى زيادة مساحة المناطق التراثية الخاصة بها أو إدراج مناطق جديدة ضمن قائمة اليونسكو، تسعى مصر إلى تقليص مساحة القاهرة التاريخية حتى تتمكن من تنفيذ مخططاتها التطويرية من دون مشاكل. 

خارج سور القاهرة الشمالي عند بابي الفتوح والنصر، ترتكز منطقتان، الأولى سكنية والثانية مخصصة لدفن الموتى، أطلق على الأولى حي الحسينية، وهو حي عريق يمتد جغرافياً حتى حي الظاهر، الحي المنسوب اسمياً للظاهر بيبرس البندقداري، والذي ضم كذلك مسجداً بناه في تلك المنطقة. أما الثانية، فقد أُطلق عليها قرافة باب النصر، أو منطقة خارج باب النصر كما سماها المقريزي في كتابه الجامع لخطط ودروب وأحياء القاهرة “المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار”؛ وتشكل تلك المنطقة امتداداً عمرانياً للقاهرة المسورة التي أنشأها الفاطميون عند دخولهم إلى مصر، وظهيراً صحراوياً مميزاً تميز به عمران المدن في القرون الوسطى. 

مدينة القاهرة الفاطمية التي كانت تقتصر فقط على ما هو داخل السور، تطورت مع مرور الوقت واحتوت كل الأحياء بشكل بالغ الاستثناء. أما منطقة خارج باب النصر فيورد المقريزي في كتابه عن تاريخ هذه المنطقة، أنها كانت فضاءً ليس فيه إلا مصلى العيد، والذي بناه جوهر الصقلبي بالتزامن مع بنائه القاهرة الفاطمية، إلا أنه مع الوقت تحوّل الى مصلى للأموات أيضاً. 

نقطة التحول الرئيسية لتلك المنطقة كانت عندما دُفن بدر الجمالي، أمير الجيوش الوزير الفاطمي القوي فيها، ويحدد المقريزي موضع دفن أمير الجيوش في الجهة البحرية من المصلى المذكور، وبنيت على قبره على حد وصف المقريزي “تربة جليلة”. ومذاك، يتابع الناس بناء الترب والأحواش فيها، تحديداً هؤلاء الذين كانوا يقطنون في الحسينية، الحي الملاصق لها، والقاطنين كذلك في أحياء القاهرة المسورة المختلفة، بخاصة هؤلاء الذين انتموا إلى خانقاة سعيد السعداء وخانقاة بيبرس الجاشنكير، حيث تم تحديد جزء مخصص لدفنهم تحت اسم “أحواش الصوفية”. فضلاً عن ذلك، فإن بعض أمراء المماليك بنوها عن طريق تأسيس منشآت دينية فيها. 

جرح ابن خلدون الذي لم يلتئم بعد

لم تنل جبانة باب النصر شهرة واسعة كالتي ورثتها مقابر أخرى في القاهرة على غرار قرافة الإمام الشافعي أو السيدة نفيسة، لأسباب عدة، أولّها الاسم الذي نسبت إليه القرافة، فقرافة الإمام الشافعي قامت على أحد الأولياء والفقهاء المعتبرين لدى المجتمع المصري، وكذلك السيدة نفيسة، لذلك تنافس الناس من مختلف أحياء القاهرة على الدفن فيها تبركاً بها وبمن دُفن فيها.

على الرغم من ذلك كله، إلا أن جبانة باب النصر تعد إحدى أقدم المقابر في تاريخ القاهرة، كما أن موقعها الجغرافي الملاصق لعدد من الأحياء القاهرية جعل من الوصول إليها أمراً بالغ الاستثناء في تاريخ المدينة العمراني، فأصبحت وكأنها مقابر خُصصت لسكان أحياء بعينها تتجمع فيها الأسر بعد وفاتها، لقد اعتاد أهالي الحسينية -حتى الآن- فضلاً عن بعض أهالي القاهرة دفن موتاهم فيها، وزيارتها بشكل مستمر. وعلى رغم هذه الحيثية التاريخية والاجتماعية، فقد مرت بكارثة في بداية الألفية الجديدة، مزقت نسيجها العمراني وبعثرت بعضاً من صفحات تاريخها العريق. 

وقعت تلك الحادثة المأساوية في عام 1999، إذ استهدفت الدولة المصرية آنذاك إنشاء طرق عدة في مدينة القاهرة بهدف تفكيك التكدس المروري داخل طرقها وشوارعها. وكان من بين تلك الشوارع التي شُقت في القاهرة، البنهاوي، الشارع الذي جاء على حساب عدد من مقابر باب النصر التي كانت قريبة جداً من سور القاهرة الشمالي.

 يمتد شارع البنهاوي الموازي لسور القاهرة الشمالي من باب الشعرية حتى شارع المنصورية الموازي هو الآخر لطريق صلاح سالم. وقد أُزيل عدد كبير من المقابر التي ضمّتها جبانة باب النصر من دون وعي بأهميتها التاريخية، كان من بينها حوش الصوفية التابع لخانقاة بيبرس الجاشنكير. 

وفقاً للمصادر التاريخية، فإن هذا الحوش ضمّ أضرحة عدد مهم من المؤرخين والمفكرين في التاريخ المصري، من ضمنهم تقي الدين المقريزي نفسه، أعظم مؤرخي مصر وصاحب كتاب “الخطط”، الذي دوّن فيه الأحياء والشوارع والمباني فيها ودون فيه تاريخ تلك المنطقة تحديداً، فضلاً عن ذلك فقد ضمّ هذا الحوش ضريح عبد الرحمن بن خلدون، المفكر وعالم الاجتماع الأشهر على الإطلاق وشيخ تقي الدين. لقد انتمى هؤلاء المؤرخون إلى خانقاة بيبرس الجاشنكير، ودُفنوا في مقابرها التي خُصصت لصوفية تلك الخانقاة.

 يشير عبد الرحمن الجبرتي المتوفى سنة 1825، والذي دفن في المجاورين -بالقرب من جبانة باب النصر- إلى أن قبر المقريزي الموجود في حوش الصوفية، يجاور قبر الدميري صاحب كتاب حياة الحيوان، في المنطقة نفسه الذي يدور عليها الذكر، إلا أن الحوش لم يعد له أثر بعد سنة 2001، إذ داس البلدوزر الموقع وساواه بالأرض. 

لا يمكن بأي حال من الأحوال استيعاب تلك الحركة الجريئة والغاشمة، فلقد هُدمت مقبرة المقريزي وابن خلدون والدميري فضلاً عن عدد كبير من المفكرين والمؤرخين الذين أثروا المكتبة الفكرية في غمضة عين.

وقع الخبر على مثقفي تلك الفترة كالصاعقة، فقد كان بمثابة عمل كارثي وعار كبير لحق بتاريخ مصر، لا يمكن أن يتم تجاوزه أو المسامحة فيه. لكن الأهم من ذلك كله، أن تكون تلك الحركة -على عنفها وقسوتها- ساكنة في الوجدان المصري بكل مآسيها، ومحركاً رئيسياً للحفاظ على ما تبقى من تراث مصر، وأن تكون كذلك هي العامل الأول لكيفية التعامل مع منطقة حساسة كالقرافة. إلا أنه وبعد ربع قرن فقط من تلك الحادثة المأساوية، صعدت مجدداً إلى السطح مرة أخرى. 

ورثت منطقة باب النصر تاريخاً عريقاً وطويلاً، شكّله الناس بأنفسهم وعبروا عنه بطريقتهم، فالمنطقة التي كانت تحمل ضريح المقريزي وابن خلدون، تضم طرازاً معمارياً مميزاً عُرف بالأحواش الخشبية، حيث تُبنى الأحواش على المقابر في منطقة باب النصر بالخشب، وهو ما يتناسب مع طبيعة المناخ.

 تحتفظ جبانة باب النصر بعدد كبير من تلك التراكيب الأنيقة التي باتت مهددة بالإزالة تماماً. فضلاً عن هذا، فإن تاريخها العمراني الذي دوّنه المقريزي وحافظ عليه المؤرخون من بعده يستحق أن ينُظر إليه بتقدير أكبر من ذلك.

فكرة إنشاء موقف سيارات في منطقة تاريخية كانت تضم مقبرة ابن خلدون والمقريزي فضلاً عن رموز أخرى مثل ابن هشام النحوي وتقي الدين السبكي وغيرهم الكثير، تبدو فكرة عبثيّة لا يمكن التفكير فيها إلا في دولة تعاني من الجهل بقيمة التراث وطرق التعامل معه.