fbpx

محاكمات “شارلي إيبدو”: كي لا نقول أنّ العنف انتصر مجدّداً!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الكفر والبذاءة والسخرية جوهر شارلي، نتّفق معها أو نختلف، نحبّها أو نبغضها، لكننا ندافع عنها ضد المتأتئين والمترددين في معركة الحريات.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“لن ننحني أبداً ولن نستسلم”. بهذه الكلمات علّق رئيس تحرير “شارلي ايبدو” لوران سوريسو المعروف بـ”ريس” صباح 2 أيلول/ سبتمبر في افتتاحية العدد الخاص الذي تنشره الصحيفة الساخرة – وتضمّنه الرسوم ذاتها التي تسبّبت في الاعتداء الإرهابي على مكاتبها قبل 5 سنوات – ويتزامن مع بدء المحاكمات التي تطاول 11 شخصاً ساهموا في تقديم الدعم اللوجستي وتسهيل العمليات الثلاث التي دارت بين 7 و9 كانون الثاني/ يناير 2015، واستهدفت شارع نيكولا أبير في الدائرة الحادية عشرة حيث مكاتب شارلي، بلدية مونروج ومتجر الأطعمة اليهودية Hyper Cacher في فانسان شرق العاصمة باريس.

 تستهدف تلك المحاكمات التي ستمتدّ حتى 10 تشرين الثاني/ نوفمبر ما يعرف بـ”الحلقة الثانية” من المسؤولين عن اعتداءات باريس أي الأشخاص الذين كانوا على صلة مباشرة بمنفّذي الهجمات الذين قتلوا برصاص القوات الخاصة الفرنسية، وهما الأخوان سعيد وشريف كواشي المنتميان إلى تنظيم القاعدة في اليمن والحجاز وآميدي كوليبالي المنتسب إلى تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.

وتعتبر تلك المحاكمات تاريخية لثلاثة أسباب رئيسة: الأوّل أنها تتعلّق بقضية على تماس مباشر بهجمات جهادية، شأنها شأن الاعتداء الذي نفّذه محمد مراح في تولوز ومونتوبان والذي أقفل ملفّه على حكم بالسجن 30 عاماً بحق شقيقه عبد القادر الذي زوّده بمسدّس كولت إم 1911 فقتل 7 أشخاص بينهم أطفال وعناصر من الشرطة.

السبب الثاني يكمن في علانية المحاكمات التي ستكون مصوّرة للمرة الأولى في تاريخ فرنسا في قضية تتعلّق بالإرهاب، الأمر الذي لم يكن متاحاً حتى وقت قريب إلى حين تشريع قانون بادينتر عام 1985، الذي جعل تصوير الجلسات وأرشفتها ممكناً.

أما السبب الثالث فينطوي على المشاركة الكبيرة في الجلسات، فبإضافة إلى المتهمين والمحامين وأهالي الضحايا، طلبت محكمة الجنايات في كليشيه Clichy حضور عشرات الأشخاص الذي كانوا موجودين في مسرح الاعتداءت، كزملاء الشرطي المقتول أحمد مرابط والعاملين في المتجر اليهودي إضافة إلى الرهائن الذين تم احتجازهم في مطبعة Dammartin-en-Goële والكادر الإعلامي والتقني في مكاتب شارلي.

من هم المتهمون وهل سيحضر جميعهم الجلسات؟

في الصف الأول من المتهمين يحضر كلّ من نزار ميكائيل وعمار رمضاني. اسمان كانا على صلة مباشرة بكوليبالي منذ سنوات الاحتجاز المشتركة في سجن فيلبانت (2010). رمضاني هو المتهم الأساسي بمدّ كوليبالي بالسلاح بالتعاون مع شخصين آخرين هما سعيد مخلوف ومحمد-أمين فارس. أما اسم ويلي بريفوست الذي نشأ في نفس الحي الذي ولد فيه كوليبالي وقضى طفولته في Grigny في الإيسون، فيتكرّر اسمه مراراً في المحاضر، على رغم نفيه أي علم مسبق بتوجهات كوليبالي المتشددة.

علي رضا بولات، عبد العزيز عباد، ميشال كاتينو، ميغيل مارتينيز وآخرون يحضرون بصفات ومهن متعددة: ميكانيكي سيارات، بائع خردوات، عامل صناعة في كاراج… وتتشابه علاقاتهم بكوليبالي، لا سيّما أنّ داتا الاتصالات التي كشفت عنها الشرطة في الساعات الأولى التي تلت التفجير، عزّزت كل الفرضيات والتهم الموجّهة إلى هؤلاء الأشخاص. وإن كان التحقيق قد كشف بشكل سريع عن الدائرة الضيقة لمنفّذ اعتدائي مونروج وڤانسان فإنها لم تتمكّن من التوصّل إلى تفكيك الشبكة اللوجستية التي مدّت الأخوين كواشي بكامل التجهيزات والمعدات لإقتحام مكاتب شارلي ايبدو. وبات معلوماً منذ اللحظة الأولى أن لا علاقة لوجستية تربط كواشي بكوليبالي وأنّ الإعتداءين حصلا في الفترة الزمنية ذاتها، من دون أي تنسيق مسبق. فرضية يعزّزها انتماء المنفّذين إلى تنظيمات جهادية مختلفة ومتصارعة وإن تشاركت فعل القتل والإرهاب.

ثلاثة أشخاص من المتهمين الـ14 لن يحضروا الجلسات: محمد ومهدي بلحسين وحياة بومدين، زوجة كوليبالي، التي لعبت دوراً كبيراً في تمويل الاعتداء، عبر عمليات نهب وانتحال شخصية استمرّت أشهراً. الثلاثة غادروا الأراضي الفرنسية، 5 أيام قبل تنفيذ الإعتداءات، وتوجّهوا إلى معسكرات تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا. آخر التسجيلات المصوّرة تظهر حياة بومدين رفقة مهدي بلحسين في مطار مدريد. الوجهة اسطنبول وبعدها الشمال السوري. وبحسب تسريبات كشفت عنها فرانس2، نقلاً عن شهادة لأحد الجهاديين العائدين إلى فرنسا حديثاً، فإنّ بومدين شوهدت بهوية مزوّرة وباسم مستعار في معسكر الهول شمال شرقي سوريا في تشرين الأول/ أكتوبر 2019. أما محمد ومهدي بلحسين فقتلا في معارك دارت بين أواخر 2015 وبداية 2016.

اليوم الأول: تمويل الجريمة

في اليوم الأول من المحاكمات سيتبيّن لنا أنّ كل شيء تم إعداده وتنفيذه في الأيام الثلاث السود من كانون الثاني 2015، كان ترجمة فعلية لعشرات عمليات التزوير والتهريب. علمنا مثلاً أنّ كوليبالي استفاد من تجارة السيارات عبر أشخاص نسج معهم علاقات شخصية، توطّدت مع الوقت، ليحصّل مبلغ 60 ألف يورو، شأنه شأن الأخوين كواشي اللذين استخدما حسابات مزوّرة وأسماء وهمية طيلة أشهر في عمليات نصب واحتيال كانت المصدر الأساسي لتأهيل وتمكين شبكة ضخمة على المستويين البشري والتقني أشرف بشكل غير مباشر على تنفيذ الاعتداءات.

قبل أن يبدأ رئيس المحكمة قراءة تقريره، قاطعته ايزابيل كوتان-بيير، وهي من المحامين الموكلين في الدفاع عن أحد المتّهمين الـ11، لتشنّ هجوماً على أجهزة المخابرات الفرنسية ولتحمّلها مسؤولية التقصير والإهمال في الحفاظ على أمن وسلامة المواطنين. خلصت السيدة كوتان-بيير إلى نتيجة مفادها أنّ الدولة مسؤولة عن تلك المقتلة وأنّ موكّلها ضحية طبيعية لسوء عمل مؤسسات الدولة.

 ضرب الكوميديا الهزلية الذي أحسن تمثيله فريق الدفاع استمرّ لدقائق قبل أن يبدأ رئيس المحكمة بتلاوة أسماء الضحايا. الكل كان ينتظر هذه اللحظة. البعض حبس دموعه، البعض الآخر أخفى وجهه لكنّ الجميع أحسّ بوجع ومرارة عندما سمع اسم فقده. هذا الإحساس بدا مضاعفاً عندما أخطأ رئيس المحكمة في اسم رسامَي شارلي Charb فناداه “فرانسوا شاربونييه” (بدل ستيفان) وHonoré “فرانسوا هونوري” (بدل فيليب). في هذه اللحظة تخطّى الألم فردانيته وأحاط جميع من في القاعة. إنه جوهر هذه القضية وأساسها.

ماذا بقي من روحيّة شعار “أنا شارلي”؟

في آخر إحصاء أجراه الـifop حول نسبة الفرنسيين الذين “يعتبرون أنفسهم شارلي”، تبيّن أنّ 61 في المئة؜ ما زالت ترى نفسها في معسكر شارلي مقابل 71 في المئة عام 2016، أي بعد سنة واحدة على الاعتداء الإرهابي. تفاوت يمكن ردّه إلى أسباب عدة، أبرزها أنّ المجتمعات الفرنسية مسكونة بالكلمة ومهجوسة بالحقل الدلالي الذي ينتج عنها عبر الزمن. لا يعني ذلك بالضرورة أنّ الـ10 في المئة؜ الذين خرجوا من أطر التعريف نفسه، الذي راج غداة المقتلة كشكل من أشكال التضامن العالمي مع حرية التعبير والحق في السخرية والهزء، أصبحوا يصنّفون أنفسهم في معسكر “أنا لست شارلي”.

بعيدا عن القسم الذي تضامن مع شارلي من منطلق تضامنه مع نفسه ومع حقه في قول ما يشاء بالطريقة التي يشاء ومن منطلق تقديس حرية التعبير، ووجد نفسه على مسافة مع الإنتاج الكاريكاتوري للصحيفة في مرحلة لاحقة، فإنّ أيّ مقاربة لاحتمالات الانسحاب من معسكر “شارلي” لا تصحّ من دون تشريح الفئات والمجموعات التي لا ترى نفسها معنيةً في التضامن مع شارلي، بل تعاديها من منشأ “عنف السلطة المسيطرة”، وهي في واقع الحال ثلاث مجموعات أساسية، المجموعات الألترا كاثوليكية، اليمين المتطرّف والإسلاميين.

 لكنّ شارلي ليست مطالبةً بأن تعبّر بأسلوب كلاسيكي يرضي ذائقة الجميع وليست مجبرة بأي حال أن “تراعي شعور المسلمين” أو غيرهم.

على أنّ الإنقسام التعريفي نفسه الذي بات يطاول اسم “شارلي” في مرحلة ما بعد الجريمة، وينطوي على سؤال واضح “هل أنت شارلي ؟” ويتطلّب جواباً صريحاً بـ”نعم” أو “لا”، لم يعد كافياً لفهم ما تبقّى من إرث السؤال الثقيل وضوابطه الهوياتية التي عزّزتها تيارات يسارية ثقافوية تبنّت خطاباً يشبه خطاب الجهاديين في إسقاطهم لصفة الإنسانية عن المجتمعات الغربية كمقدمة لهتكها. وهو نفسه مسار معاداة النزعة الكونية للأنوار الفرنسية الذي تبنته مدارس عديدة منذ التيار الرومانتيكي في ألمانيا القرن التاسع حتى حركات الإحياء القومي وبعض التيارات الشيوعية.

ربما ساهمت صورة شارلي اللائكية، اليعقوبية، الجمهورية، التي تستفز جمهور المعادين للنزعة الفردانية بمعناها السياسي anti-individualiste، والمعادين للسمة التعاقدية anti-contractualiste، في فضح تردّد الرماديين في معركة الدفاع عنها، فكشفت تلك الأصوات القائلة بتفاهة الصحيفة وضعفها واستفزازها لشعور المسلمين/المسيحيين/اليهود عبر الكاريكاتور عن عطب فكري لم يشكّل فقط مقدّمة لاغتيالها سياسياً، بل ساهم في تعريتها أمام “الوحوش الأكثر عنفاً كأسلافهم النازيين” على حد تعبير امبرتو ايكو صبيحة الجريمة.

في رصيد شارلي عشرات القضايا الخاسرة، تبقى في نظري قضية طردها في عهد فيليب ڤال التحريري للرسام سينيه بتهمة معاداة السامية قبل سنوات أبرز تلك القضايا، لكنّ شارلي ليست مطالبةً بأن تعبّر بأسلوب كلاسيكي يرضي ذائقة الجميع وليست مجبرة بأي حال أن “تراعي شعور المسلمين” (أو غيرهم، كما يقول اليسار الرجعي في تفنيده خطاب الصحيفة) ولها كامل الحق في أن تسخر من المقدّسات. الكفر والبذاءة والسخرية جوهر شارلي، نتّفق معها أو نختلف، نحبّها أو نبغضها، لكننا ندافع عنها ضد المتأتئين والمترددين في معركة الحريات.

04.09.2020
زمن القراءة: 6 minutes

الكفر والبذاءة والسخرية جوهر شارلي، نتّفق معها أو نختلف، نحبّها أو نبغضها، لكننا ندافع عنها ضد المتأتئين والمترددين في معركة الحريات.

“لن ننحني أبداً ولن نستسلم”. بهذه الكلمات علّق رئيس تحرير “شارلي ايبدو” لوران سوريسو المعروف بـ”ريس” صباح 2 أيلول/ سبتمبر في افتتاحية العدد الخاص الذي تنشره الصحيفة الساخرة – وتضمّنه الرسوم ذاتها التي تسبّبت في الاعتداء الإرهابي على مكاتبها قبل 5 سنوات – ويتزامن مع بدء المحاكمات التي تطاول 11 شخصاً ساهموا في تقديم الدعم اللوجستي وتسهيل العمليات الثلاث التي دارت بين 7 و9 كانون الثاني/ يناير 2015، واستهدفت شارع نيكولا أبير في الدائرة الحادية عشرة حيث مكاتب شارلي، بلدية مونروج ومتجر الأطعمة اليهودية Hyper Cacher في فانسان شرق العاصمة باريس.

 تستهدف تلك المحاكمات التي ستمتدّ حتى 10 تشرين الثاني/ نوفمبر ما يعرف بـ”الحلقة الثانية” من المسؤولين عن اعتداءات باريس أي الأشخاص الذين كانوا على صلة مباشرة بمنفّذي الهجمات الذين قتلوا برصاص القوات الخاصة الفرنسية، وهما الأخوان سعيد وشريف كواشي المنتميان إلى تنظيم القاعدة في اليمن والحجاز وآميدي كوليبالي المنتسب إلى تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.

وتعتبر تلك المحاكمات تاريخية لثلاثة أسباب رئيسة: الأوّل أنها تتعلّق بقضية على تماس مباشر بهجمات جهادية، شأنها شأن الاعتداء الذي نفّذه محمد مراح في تولوز ومونتوبان والذي أقفل ملفّه على حكم بالسجن 30 عاماً بحق شقيقه عبد القادر الذي زوّده بمسدّس كولت إم 1911 فقتل 7 أشخاص بينهم أطفال وعناصر من الشرطة.

السبب الثاني يكمن في علانية المحاكمات التي ستكون مصوّرة للمرة الأولى في تاريخ فرنسا في قضية تتعلّق بالإرهاب، الأمر الذي لم يكن متاحاً حتى وقت قريب إلى حين تشريع قانون بادينتر عام 1985، الذي جعل تصوير الجلسات وأرشفتها ممكناً.

أما السبب الثالث فينطوي على المشاركة الكبيرة في الجلسات، فبإضافة إلى المتهمين والمحامين وأهالي الضحايا، طلبت محكمة الجنايات في كليشيه Clichy حضور عشرات الأشخاص الذي كانوا موجودين في مسرح الاعتداءت، كزملاء الشرطي المقتول أحمد مرابط والعاملين في المتجر اليهودي إضافة إلى الرهائن الذين تم احتجازهم في مطبعة Dammartin-en-Goële والكادر الإعلامي والتقني في مكاتب شارلي.

من هم المتهمون وهل سيحضر جميعهم الجلسات؟

في الصف الأول من المتهمين يحضر كلّ من نزار ميكائيل وعمار رمضاني. اسمان كانا على صلة مباشرة بكوليبالي منذ سنوات الاحتجاز المشتركة في سجن فيلبانت (2010). رمضاني هو المتهم الأساسي بمدّ كوليبالي بالسلاح بالتعاون مع شخصين آخرين هما سعيد مخلوف ومحمد-أمين فارس. أما اسم ويلي بريفوست الذي نشأ في نفس الحي الذي ولد فيه كوليبالي وقضى طفولته في Grigny في الإيسون، فيتكرّر اسمه مراراً في المحاضر، على رغم نفيه أي علم مسبق بتوجهات كوليبالي المتشددة.

علي رضا بولات، عبد العزيز عباد، ميشال كاتينو، ميغيل مارتينيز وآخرون يحضرون بصفات ومهن متعددة: ميكانيكي سيارات، بائع خردوات، عامل صناعة في كاراج… وتتشابه علاقاتهم بكوليبالي، لا سيّما أنّ داتا الاتصالات التي كشفت عنها الشرطة في الساعات الأولى التي تلت التفجير، عزّزت كل الفرضيات والتهم الموجّهة إلى هؤلاء الأشخاص. وإن كان التحقيق قد كشف بشكل سريع عن الدائرة الضيقة لمنفّذ اعتدائي مونروج وڤانسان فإنها لم تتمكّن من التوصّل إلى تفكيك الشبكة اللوجستية التي مدّت الأخوين كواشي بكامل التجهيزات والمعدات لإقتحام مكاتب شارلي ايبدو. وبات معلوماً منذ اللحظة الأولى أن لا علاقة لوجستية تربط كواشي بكوليبالي وأنّ الإعتداءين حصلا في الفترة الزمنية ذاتها، من دون أي تنسيق مسبق. فرضية يعزّزها انتماء المنفّذين إلى تنظيمات جهادية مختلفة ومتصارعة وإن تشاركت فعل القتل والإرهاب.

ثلاثة أشخاص من المتهمين الـ14 لن يحضروا الجلسات: محمد ومهدي بلحسين وحياة بومدين، زوجة كوليبالي، التي لعبت دوراً كبيراً في تمويل الاعتداء، عبر عمليات نهب وانتحال شخصية استمرّت أشهراً. الثلاثة غادروا الأراضي الفرنسية، 5 أيام قبل تنفيذ الإعتداءات، وتوجّهوا إلى معسكرات تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا. آخر التسجيلات المصوّرة تظهر حياة بومدين رفقة مهدي بلحسين في مطار مدريد. الوجهة اسطنبول وبعدها الشمال السوري. وبحسب تسريبات كشفت عنها فرانس2، نقلاً عن شهادة لأحد الجهاديين العائدين إلى فرنسا حديثاً، فإنّ بومدين شوهدت بهوية مزوّرة وباسم مستعار في معسكر الهول شمال شرقي سوريا في تشرين الأول/ أكتوبر 2019. أما محمد ومهدي بلحسين فقتلا في معارك دارت بين أواخر 2015 وبداية 2016.

اليوم الأول: تمويل الجريمة

في اليوم الأول من المحاكمات سيتبيّن لنا أنّ كل شيء تم إعداده وتنفيذه في الأيام الثلاث السود من كانون الثاني 2015، كان ترجمة فعلية لعشرات عمليات التزوير والتهريب. علمنا مثلاً أنّ كوليبالي استفاد من تجارة السيارات عبر أشخاص نسج معهم علاقات شخصية، توطّدت مع الوقت، ليحصّل مبلغ 60 ألف يورو، شأنه شأن الأخوين كواشي اللذين استخدما حسابات مزوّرة وأسماء وهمية طيلة أشهر في عمليات نصب واحتيال كانت المصدر الأساسي لتأهيل وتمكين شبكة ضخمة على المستويين البشري والتقني أشرف بشكل غير مباشر على تنفيذ الاعتداءات.

قبل أن يبدأ رئيس المحكمة قراءة تقريره، قاطعته ايزابيل كوتان-بيير، وهي من المحامين الموكلين في الدفاع عن أحد المتّهمين الـ11، لتشنّ هجوماً على أجهزة المخابرات الفرنسية ولتحمّلها مسؤولية التقصير والإهمال في الحفاظ على أمن وسلامة المواطنين. خلصت السيدة كوتان-بيير إلى نتيجة مفادها أنّ الدولة مسؤولة عن تلك المقتلة وأنّ موكّلها ضحية طبيعية لسوء عمل مؤسسات الدولة.

 ضرب الكوميديا الهزلية الذي أحسن تمثيله فريق الدفاع استمرّ لدقائق قبل أن يبدأ رئيس المحكمة بتلاوة أسماء الضحايا. الكل كان ينتظر هذه اللحظة. البعض حبس دموعه، البعض الآخر أخفى وجهه لكنّ الجميع أحسّ بوجع ومرارة عندما سمع اسم فقده. هذا الإحساس بدا مضاعفاً عندما أخطأ رئيس المحكمة في اسم رسامَي شارلي Charb فناداه “فرانسوا شاربونييه” (بدل ستيفان) وHonoré “فرانسوا هونوري” (بدل فيليب). في هذه اللحظة تخطّى الألم فردانيته وأحاط جميع من في القاعة. إنه جوهر هذه القضية وأساسها.

ماذا بقي من روحيّة شعار “أنا شارلي”؟

في آخر إحصاء أجراه الـifop حول نسبة الفرنسيين الذين “يعتبرون أنفسهم شارلي”، تبيّن أنّ 61 في المئة؜ ما زالت ترى نفسها في معسكر شارلي مقابل 71 في المئة عام 2016، أي بعد سنة واحدة على الاعتداء الإرهابي. تفاوت يمكن ردّه إلى أسباب عدة، أبرزها أنّ المجتمعات الفرنسية مسكونة بالكلمة ومهجوسة بالحقل الدلالي الذي ينتج عنها عبر الزمن. لا يعني ذلك بالضرورة أنّ الـ10 في المئة؜ الذين خرجوا من أطر التعريف نفسه، الذي راج غداة المقتلة كشكل من أشكال التضامن العالمي مع حرية التعبير والحق في السخرية والهزء، أصبحوا يصنّفون أنفسهم في معسكر “أنا لست شارلي”.

بعيدا عن القسم الذي تضامن مع شارلي من منطلق تضامنه مع نفسه ومع حقه في قول ما يشاء بالطريقة التي يشاء ومن منطلق تقديس حرية التعبير، ووجد نفسه على مسافة مع الإنتاج الكاريكاتوري للصحيفة في مرحلة لاحقة، فإنّ أيّ مقاربة لاحتمالات الانسحاب من معسكر “شارلي” لا تصحّ من دون تشريح الفئات والمجموعات التي لا ترى نفسها معنيةً في التضامن مع شارلي، بل تعاديها من منشأ “عنف السلطة المسيطرة”، وهي في واقع الحال ثلاث مجموعات أساسية، المجموعات الألترا كاثوليكية، اليمين المتطرّف والإسلاميين.

 لكنّ شارلي ليست مطالبةً بأن تعبّر بأسلوب كلاسيكي يرضي ذائقة الجميع وليست مجبرة بأي حال أن “تراعي شعور المسلمين” أو غيرهم.

على أنّ الإنقسام التعريفي نفسه الذي بات يطاول اسم “شارلي” في مرحلة ما بعد الجريمة، وينطوي على سؤال واضح “هل أنت شارلي ؟” ويتطلّب جواباً صريحاً بـ”نعم” أو “لا”، لم يعد كافياً لفهم ما تبقّى من إرث السؤال الثقيل وضوابطه الهوياتية التي عزّزتها تيارات يسارية ثقافوية تبنّت خطاباً يشبه خطاب الجهاديين في إسقاطهم لصفة الإنسانية عن المجتمعات الغربية كمقدمة لهتكها. وهو نفسه مسار معاداة النزعة الكونية للأنوار الفرنسية الذي تبنته مدارس عديدة منذ التيار الرومانتيكي في ألمانيا القرن التاسع حتى حركات الإحياء القومي وبعض التيارات الشيوعية.

ربما ساهمت صورة شارلي اللائكية، اليعقوبية، الجمهورية، التي تستفز جمهور المعادين للنزعة الفردانية بمعناها السياسي anti-individualiste، والمعادين للسمة التعاقدية anti-contractualiste، في فضح تردّد الرماديين في معركة الدفاع عنها، فكشفت تلك الأصوات القائلة بتفاهة الصحيفة وضعفها واستفزازها لشعور المسلمين/المسيحيين/اليهود عبر الكاريكاتور عن عطب فكري لم يشكّل فقط مقدّمة لاغتيالها سياسياً، بل ساهم في تعريتها أمام “الوحوش الأكثر عنفاً كأسلافهم النازيين” على حد تعبير امبرتو ايكو صبيحة الجريمة.

في رصيد شارلي عشرات القضايا الخاسرة، تبقى في نظري قضية طردها في عهد فيليب ڤال التحريري للرسام سينيه بتهمة معاداة السامية قبل سنوات أبرز تلك القضايا، لكنّ شارلي ليست مطالبةً بأن تعبّر بأسلوب كلاسيكي يرضي ذائقة الجميع وليست مجبرة بأي حال أن “تراعي شعور المسلمين” (أو غيرهم، كما يقول اليسار الرجعي في تفنيده خطاب الصحيفة) ولها كامل الحق في أن تسخر من المقدّسات. الكفر والبذاءة والسخرية جوهر شارلي، نتّفق معها أو نختلف، نحبّها أو نبغضها، لكننا ندافع عنها ضد المتأتئين والمترددين في معركة الحريات.