“حينما يكون القضاء قضاء البوليس فلا تستغربوا أحكاماً بالسجن جائرة في حق المواطنين. إقرار الحكم في حق أيمن البشيني دليل عن أن بعض القضاة هم مجرد أعوان بمراكز الإيقاف. يا خيبة المسعى أن يكون قدر هذا الشعب قضاء تتحكم فيه دولة البوليس”.
هكذا علقت النائبة والمحامية ليلى حداد على الحكم القضائي، بستة أشهر سجناً بحق الصحافي أيمن البشيني الذي كان ذنبه الكبير أنه استنجد بدورية أمن لحمايته من بعض المتطفلين في أحد الطرق. وأجريت في يوم واحد محاكمة صحافي ومدون في قضايا متصلة بالأمن في تونس، الأول ذنبه أنه استنكر عدم حمايته، والثاني أنه تجرأ على الاحتجاج ضد قانون زجر الاعتداء على الأمنيين بطريقة بدت مستفزة بالنسبة إلى هذا الجهاز.
وبحسب رواية محامي الدفاع عن البشيني، فإن مجريات قضيته بدأت عندما كان أيمن ماراً في أحد الطرق في محافظة بنزت (شمال شرقي) فقام مجهولون برشقه بالحجارة فاستنجد بدورية لأعوان الأمن المرابطة بشكل دائم على مقربة من المكان ولكنها لم تلبِّ دعوته وأجابه العناصر “نخدمو عندك إحنا” (هل نعمل عندك؟) الأمر الذي أثار حفيظته واستنكر عدم قيامهم بحمايته وحدثت مناوشة بين الجانبين، فتعرّض للعنف واقتيد إلى مركز الشرطة. ووجهت إليه تهم منها هضم جانب موظف والسكر والتشويش في الشارع العام، وبسرعة كبيرة أحيل على المحكمة التي قضت بسجنه ستة أشهر تم تثبيتها في الاستئناف.
وعلى غير العادة تمت الإجراءات بسرعة قياسية غالباً ما ينشدها المواطنون في تونس ولا يحصلون عليها. إذ تم البحث والإحالة على النيابة العمومية ثم المثول أمام قاضي الناحية ومحاكمة البشيني بعد سويعات من القبض عليه مع الكثير من الخروق. في مشهد يعكس رغبة مختلف الهياكل التي تابعت القضية في تمريرها وفق رواية بعينها ومن دون تدخل محامي الدفاع، وهي رسالة إلى عموم التونسيين، بخاصة الصحافيون الذين استماتوا في رفض تمرير قانون زجر الاعتداء على الأمنيين، بأن القبضة الحديدية للبوليس ستكون أمراً واقعاً حتى وإن لم يصادق البرلمان على القانون.
وانتقد محامي الدفاع عن البشيني، حسام الدين خليفة الاخلالات الإجرائية التي عرفتها القضية منذ البداية واستنكر وجود عناصر أمن بهذا العدد داخل المحكمة وخارجها.
ويقول لـ”درج”، “أجريت التحقيقات بسرعة من دون مكافحة أو مواجهة بين الأعوان وأيمن، ومن دون إعلام عائلة المتهم أو تمكينه من حقه بتوكيل محامٍ، كما لم يستجب لطلبه بالقيام بفحص طبي لدحض تهممة حالة السكر. لقد تمت احالته على محكمة الناحية في نحو 12 ساعة وتمت المحاكمة، على رغم عدم وجود شهود وعدم القيام بالمكافحات، رصدنا خروقاً عدة وقمنا بإثارتها أمام القضاء ولكن من دون جدوى”.
ويضيف: “كما سجلنا حضوراً لافتاً لأعوان الأمن داخل قاعة الجلسة وخارجها، بما في ذلك أعوان الإرشاد الذين رصدت أحدهم يدوّن تقريراً عما يحدث سجّل فيه أسماء محامي الدفاع عن المتهم وزملائهم المتعاطفين معهم. وهو وضع أثار استغرابنا وريبتنا وتساءلنا لماذا هذا الاستنفار كله؟ فالمتهم ليس مجرماً خطيراً أم أن المشهد يتغير عندما يكون الأمنيون جزءاً من القضية؟ وعلى رغم احترامنا القضاء إلا أن ضغط الأمنيين خلال الجلسة كان مثيراً للاستغراب”.
وهذه الحادثة بدت مشابهة لما حدث في محاكمة رئيس مركز شرطة الذي اتهمته المحامية نسرين القرناح بالاعتداء عليها بالعنف داخل المركز، إذ طوّق أعوان الأمن محكمة بن عروس مدججين بالسلاح، ما أثار حالة ذعر لدى قاضي التحقيق، على حدّ تعبير إبراهيم بودربالة، عميد المحامين التونسيين. ويبدو أن هذه المشاهد لم تعد أحداثاً معزولة في تونس وستتكرر ما دامت الإرادة السياسية الفعلية للإصلاح غائبة.
تشهد تونس حملة تتبع وملاحقة للمدونين التونسيين بخاصة الذين ينتقدون المؤسسة الأمنية في الآونة الأخيرة
وتأتي حادثة أيمن بعد أيام من تعليق النظر في قانون زجر الاعتداء على الأمنيين بسبب ضغوط المجتمع المدني التي أجبرت البرلمان على التخلي عن هذه الخطوة، والحكومة على سحبه من المجلس. ولا تنظر الأجهزة الأمنية التونسية غالباً بعين الرضا إلى هذا القرار بعدما كانت تتطلع إلى نيل صلاحيات جديدة وفرص أكبر للإفلات من العقاب وربما استعادة تلك المساحة التي كانت هذه الأجهزة تملكها خلال حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
ولهذا وبالنظر إلى الأحداث الجارية يبدو أن المسؤولين الأمنيين سيحاولون استهداف الأطراف الذين تمسّكوا بضرورة التخلي عن هذا القانون متى سمحت الفرصة وعياً منهم بأن فرص إفلاتهم من العقاب كبيرة جداً، وحتى في حالات الإحالة، وهي قليلة، فإن العقاب لن يكون بحجم الذنب.
وهذا ما يؤكده تقرير “منظمة العفو الدولية” الذي ذكر أن الغالبية الساحقة من التحقيقات بشأن أعوان الأمن قلما اجتازت مرحلة قاضي التحقيق، ولم تفض الى اتخاذ الإجراءات اللازمة لمقاضاة الجناة. كما لم تبد الحكومة التونسية، الإرادة السياسية اللازمة لإجراء إصلاحات حقيقية تحسن سلوك أعوان الأمن وما يلجأون إليه من أساليب، أو لضمان الإشراف القضائي عليهم ومساءلتهم. ولم يؤدِ هذا إلا الى تحصين الجناة من المقاضاة وترسيخ حالة الإفلات من العقاب.
وفي اليوم الذي حوكم فيه البشيني كان القضاء حكم أيضاً بسنتي سجن على الناشط وجدي المحواشي الذي اختلطت الأسباب التي أدت إلى وقوفه أمام القضاء بين العلني والضمني. فالسبب الرئيس والمعلن لهذا الحكم هو التطاول على القضاء، إنما هناك شبه إجماع على أن السبب الحقيقي وراء ما حدث هو رفع المحواشي ورقة نقدية أمام أعوان الأمن إثر التحركات الاحتجاجية التي نظمت ضد تمرير قانون الزجر في إشارة منه إلى تلقيهم الرشوة والتقطت صور كثيرة لهذه اللقطة وأحدثت جدلاً كبيراً.
وما يؤيد هذه الفرضية هو نشر إحدى النقابات الأمنية صورة المحواشي بعد النطق بالحكم ضده بما يشبه الاحتفال بهذا الإنجاز. وثانياً المجهود الكبير الذي بذله أعوان الأمن في تتبع المحواشي للقبض عليه، والتي بلغت حد ملاحقته عبر شريحة هاتفه والحال أن هذه التقنية لا يستخدمها هؤلاء مثلاً عند الإبلاغ عن أحد المجرمين الذي يسرقون الهواتف الجوالة والحواسيب، ويرى محامي الدفاع عن المحواشي محمد بوشيبة أنه لو تم تفعيل هذه التقنية ضد الإرهابيين لما تمكن أبو عياض من الفرار.
يقول بوشيبة لـ”درج” إنه لدى اطلاعه “كما بقية التونسيين على فيديو نشره الشيخ مختار الدلالي يدعو فيه إلى نصرة الرسول من خلال إجازة القتل وتبريره وتحريض الشباب المغرر بهم لقتل الفرنسيين ليس في فرنسا فقط، بل وحتى في تونس، من دون أن تتحرك النيابة العمومية، قرر وجدي المحواشي إعلام وكيل الجمهورية عبر فيديو بأسلوب مستفز عسى أن تتحرك السلطات المعنية وتقبض على هذا الرجل الذي يشرع للإرهاب”.
كان المحواشي في حالة تشنج وهو يقوم بنشر الفيديو الذي وجه مضمونه إلى وكيل الجمهورية فأفلتت منه كلمات بذيئة، كان يدرك أن هذه الصيغة ستجعله محل تتبع ولكنها السبيل الوحيد للفت انتباه النيابة العمومية لخطورة الخطاب المتطرف الذي قام المدعو مختار الدلالي بنشره على “فايسبوك”، وتابعه عدد كبير من التونسيين واستنكره البعض وأيده آخرون.
وهذا ما حدث فعلاً، فالأمنيون كانوا يتابعون خطوات المحواشي على مواقع التواصل الاجتماعي فتلقفوا بسرعة الفيديو الذي نشره وأخبروا وكيل الجمهورية بأنه أساء إليه. ومباشرة فتح تحقيق في الأمر، وقبل الثالثة والنصف فجراً اقتحم رجال الأمن منزله للقبض عليه لكنه لم يكن هناك.
ولعل اللافت أن الأمنيين الذي أبلغوا وكيل الجمهورية بالقصة، لم يذكروا في مراسلتهم مستوى الخطاب المتطرف والخطير الذي صدر عن الدلالي بل وصفوه بـ”الحكم الشرعي” للإساءة للرسول. لقد جعلهم تركيزهم المفرط والسابق على المحواشي لا يكترثون لخطورة الخطاب الذي صدر عن الشيخ السالف ذكره، مع العلم أن المؤسسات الأمنية كانت دائماً هدفاً للإرهاب بسبب خطابات تكفيرية مشابهة.
ويواصل بوشيبة: “في اليوم التالي التقيت وجدي وأخبرني بما حصل وأنه لم يتلقَّ استدعاء للمثول، وذكر لي أنه يرغب في الذهاب إلى وكيل الجمهورية لتسليم نفسه لأنه لا يرغب في أن يبقى محل تفتيش، حينها وجدت أن التوقيت لا يسمح لهذه المهمة، فاتفقنا على الذهاب معاً في الغد ليضع نفسه على ذمة النيابة العمومية. ولكن الأمنيين الذين كانوا يتتبعون تحركاته من خلال شريحة هاتفه ألقوا القبض عليه بينما كان متجهاً إلى محطة المترو في وسط العاصمة”.
الأمنيون كانوا يتابعون خطوات المحواشي على مواقع التواصل الاجتماعي فتلقفوا بسرعة الفيديو الذي نشره وأخبروا وكيل الجمهورية بأنه أساء إليه.
إثر ذلك تم التحقيق معه ثم أحيل بعد 48 ساعة على المحاكمة التي دامت ساعتين ووجهت إليه أربع تهم منها هضم جانب موظف، وعوقب بالسجن سنتين مع النفاذ العاجل في حكم اعتبره الشيباني مجحفا وغير منصف.
ويقول “لقد دافعت عن عشرات المدونين أصحاب القضايا المماثلة بينهم حتى من اتهم بسب الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ومنهم من استهدفت تدويناتهم وزراء ولكن كانت العقوبة الأقصى لملف كالذي بين يدي ثلاثة أشهر إنه هذه ا المرة الأولى التي يصدر فيها حكم كهذا منذ بدء حملة تتبع المدونين عام 2018”.
ويرى بو شيبة أن هناك علاقة ما بين هذا الحكم الجائر بحق المحواشي وصورة الأخير وهو يرفع الورقة النقدية في وجوه الأمنيين، مؤكداً أن الأمر لا يمكن أن يكون مصادفة، فبرأيه لم يكن بوسع الأمنيين رفع قضية، فقاموا بتتبع المحواشي حتى نشر الفيديو فكانوا له بالمرصاد، زد على ذلك تعرضه للتعنيف في السجن وتحريض المساجين ضده، كلها معطيات تفيد أن هذا الحكم بخلفية تلك الحركة.
“هذه ا المرة الأولى التي يصدر فيها حكم كهذا منذ بدء حملة تتبع المدونين عام 2018”
وسيتم استئناف القضية مع انضمام عشرة محامين آخرين للدفاع عن المحواشي وبحضور منظمة المحاميين الدوليين التي ستراقب جلسة الاستئناف وبدعم عدة منظمات محلية ودولية على غرار هيومن رايتس ووتش.
وتشهد تونس حملة تتبع وملاحقة للمدونين التونسيين بخاصة الذين ينتقدون المؤسسة الأمنية في الآونة الأخيرة. وهو ما تؤكده “منظمة العفو الدولية” التي اعتبرت في تقريرها الأخير أنه وبينما ينظر إلى تونس كقصة النجاح الوحيدة في الانتفاضات العربية، فإن وزارة الداخلية تهدد الآن علناً بمقاضاة الأشخاص على الانتقاد المشروع لسلوك الشرطة، وهناك زيادة مطردة في الملاحقات القضائية على المشاركات على “فايسبوك”، التي تكشف حالات الفساد، أو تنتقد السلطات، أو تعتبر “مسيئة” للمسؤولين على الإنترنت.
وذكرت المنظمة الدولية أن ما لا يقل عن 40 مدوناً/ة، وناشطاً/ة سياسياً/ة، ومدافعاً/ة عن حقوق الإنسان ومديراً/ة لصفحات على “فايسبوك” لديها عدد كبير من المتابعين، قد تعرضوا لملاحقات قضائية جنائية بين عامي 2018 و2020 لمجرد نشرهم على الإنترنت تدوينات تنتقد السلطات المحلية أو الشرطة أو غيرهم من الموظفين العموميين.
ودعت السلطات التونسية إلى حماية حرية التعبير في تونس بإسقاط جميع التهم الموجهة إلى الأشخاص الذين يتم التحقيق معهم أو مقاضاتهم على ممارساتهم السلمية للحق في حرية التعبير، وإلى إصدار أمر بوقف جميع الملاحقات القضائية الجنائية على المخالفات المتعلقة بالتعبير، وتوجيه الموظفين العموميين للكف عن مباشرة مثل هذه الملاحقات القضائية أو التهديد بها.