fbpx

محاولات الصمود والخروج من الجحيم

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

سنة مرت تقريباً وأنا أشاهد أجساد الغزيين تتحوّل إلى أشلاء وعظامهم تتبخّر في الفراغ، وأراهم صامدين متمسكين بأرضهم، فأسأل نفسي ما الذي يمنعني أن أكون مثلهم؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بعد سنة تقريباً على حرب الإبادة في غزة، ومثلها على حرب “الإسناد”، قررت إسرائيل إبادتنا. فجر الأحد الماضي، أشعلت سماءنا وأرضنا بالنار والبارود. شنّت في وقت قياسي أكثر الغارات الجوية كثافةً في تاريخ الحروب المعاصرة وأزهقت مئات الأرواح.

خلال هذه السنة، رفضت فكرة النزوح، على رغم توسّلات أمي وأخوتي وتمنيّات صديقاتي وأصدقائي، وما كان يمنعني هو خوف الوقوع في الذنب. في الحروب حين يسقط ستار الأمان عن الجميع، تتحول فكرة النجاة الفردية إلى عقدة ذنب. أكثر من مرة دنت مني المجزرة، كنت أبتعد يومين ثم أعود، لئلا أحمّل ضميري ما لا طاقة له به. 

سنة مرت تقريباً وأنا أشاهد أجساد الغزيين تتحوّل إلى أشلاء وعظامهم تتبخّر في الفراغ، وأراهم صامدين متمسكين بأرضهم، فأسأل نفسي ما الذي يمنعني أن أكون مثلهم؟ فتُجيبني لو كان بإمكانهم لرحلوا، فأكذّبها وأصدق معادلتي، أتّخذها حجة لبقائي في بيتي، ولو في الأمر مغالطة… 

كان صبح الأحد قد بدأ يتنفّس، إياد (ابني) نائم في غرفته، فجأة يقصف رعد رهيب، يرتطم شيء ثقيل بالأرض محدثاً انفجاراً مدوياً، ثم يدبدب ويتمدد وينفلش ويستمر بإصدار انفجارات صغيرة متتالية تشبه الهزات الارتدادية. تميد الأرض تحتي قدميّ، تصفق الأبواب والشبابيك ويوشك سقف البيت أن يُطبق على أرضه، إنه صاروخ “شارون” الزلزالي، كما صرّحت إسرائيل، الذي يخترق المخابئ لعشرات الأمتار تحت الأرض ثم ينفجر في العمق، ويشعر السكان بنتيجته بما يشبه الزلزال. 

إنه شارون اللعين يعود مرة أخرى إلى الجنوب، بكل ما أوتي من شهوة القتل والتدمير.

بدأت البناية تخلو من السكان، توالت اتصالات الأحبة، توسّلاتهم بالخروج العاجل، وأنا أدير للكل أذني الطرشاء، سأبقى هنا! يوافقني إياد على قراري، نتعاهد بأن نظل قريبيْن من بعضنا بعضاً، أن نتحرك ضمن حيز صغير من البيت سمّيناه مساحتنا الآمنة، وبدل نشرات الأخبار نكتفي بسماع فيروز!

لساعات متتالية استخدمت إسرائيل كل وحشيتها، حاصرتنا بزنار من النار من كل الجهات، الحمم تسقط من السماء والهواء يتكسّر من فرط الأصوات.  عصراً بدأت الأخبار غير المطمئنة تصلنا تباعاً، البيوت المتوهجة بالحياة أخذت تتهاوى وتتحول إلى رماد، تعصر أجساد ساكنيها فلا يُعثر لهم على أثر، الصور والفيديوات تنهال وتتوالى أسماء القتلى والجرحى، أقارب وأصدقاء وأطفال قضوا تحت الركام،  فتنهار أعصابنا، نبكي قليلاً ونحزن كثيراً، نطمئن المتصلين أننا بخير، ونتصل بآخرين للاطمئنان.

يحلّ الظلام سريعاً… فرغت البناية، فرغ الحي، فرغت النبطية إلا من بعض المتهورين مثلنا. أنتبه إلى أنني لم أضع لقمة في فمي طوال اليوم، أقوم وأحضر صينية كفتة عظيمة، يذهب إياد إلى السوق لشراء حاجيات صمود ضرورية ويعود خائباً، كل المحلات مقفلة. نأكل ونتحلى بالقليل من كعكة التمر الذي أعددتها، وبكثير من الصبر، هذا كله، والطائرات ما زالت تذرع السماء فوقنا وأصوات الصواريخ تنزّهنا بين أبواب جهنم من لظى إلى سعير إلى سقر. 

فجر الاثنين تزداد وتيرة الغارات وتمرجحنا الصواريخ الزلزالية شمالاً ويميناً، كأن أبواب جهنم كلها مفتوحة علينا. أوقظ إياد من نومه وأقوده إلى “الكوريدور” وهو شبه نائم، أقول له هنا أكثر أماناً فيسخر من كلامي، نجلس على الأرض متقابلين، أتقمص شخصية فايز الدويري وأشرح  له، محاولة أن أخرجه من موجة الرعب التي غمرته: إذا سمعت ضربة ثم صفيراً يعني أن الصاروخ انطلق من جهتنا، إذا سمعت صفيراً ثم انفجاراً قوياً، يعني شيئين أن الصاروخ أتى من عندهم وأننا نجونا! ينقضي النهار ونحن على هذه الحال، نحللّ ونخطئ مثل الدويري.

يزحف ليل آخر بخطى ثقيلة مرعبة، الصفير الذي يعقبه انفجار لا يهدأ، نحتمي هذه المرة بغرفة النوم، نتقوقع على السرير، أحاول أن أحضنه من كل الجهات، أغفو فيبقى صاحياً، أصحو فينام، وهكذا حتى مطلع الشمس.

يقول لي ساعة اشتداد القصف صباحاً، الخروج الآن فيه مخاطرة أكثر من البقاء، الرعب على الطريق أكبر من الرعب في البيت، لنظل هنا، نُدفن تحت سقف بيتنا أفضل من أن نموت في العراء. أقول في نفسي كم هي بشعة كلمة العراء، مثل كلمة القتل فيها كمية من العنف الفاضح، أوافقه وفي عينيّ سيل من الدموع ونهر من الحزن في قلبي.

إياد الذي انتظرته مرتين، تسعة أشهر قبل ولادته وإحدى عشرة سنة بعد انفصاله عني، يواجه الموت بسببي، أتأمله خفية فأحس بثقل التجربة على عواطفه…

يا إلهي لن أسمح للوحش أن يبتلعه، أهبّ من مكاني دفعة واحدة، وأقول له لنخرج يا أمي قبل أن يصبح البقاء جحيماً والخروج مستحيلاً… 

أنزلنا أغراضنا بسرعة البرق، أقفلت الباب بالمفتاح، أعدت فتحه مرة، اثنتين، ثلاثاً، لأشبع عينيّ من مشاهده، حطّت على المفتاح فراشة لا أدري من أين أتت فجأة،  ابتسمت لها، ربما هذه  روح أبي ترفرف حولي، أحسست بأن الأمان سيكون برفقتي في الطريق، فانطلقت.

الهجرة إلى الشمال

نترك المجزرة المفتوحة خلفنا وهي تتنقل من بيت إلى بيت جنوباً، لندخل في مجزرة النزوح شمالاً، إنه يوم الحشر! زحمة وذعر وعطش وجوع، الناس عالقون على الطريق، بعضهم احتُجز في سيارته نحو 15 ساعة وبعضهم سار أكثر من 20 ساعة بلا توقف. 

لا نواب ولا حزبيين ولا مافياتهم ولا أي جهة تهدئ روعهم، ولا أياديَ تمسح الدموع عن أعينهم والغبار عن وجوههم، ولا إشارات تدلهم من أين الطريق، ذلٌّ هذا الطريق. 

يومان وهم متروكون وحدهم، محاصرون بين نيران الصواريخ على جانبي الأتوستراد والوحوش المعدنية التي تقبض على السماء فوقهم، ولولا نخوة الصيداويين الذين استقبلوهم بالماء وبعض الطعام، لكان تيهاً.

كانت السيارات تتدفق لتملأ كل فراغ على الإسفلت، تحتل مسربي الأوتوستراد، وعلى الأرصفة تزحف جحافل النازحين، ممن لا يملكون وسيلة مواصلات تنقلهم؛ غالبيتهم من السوريين، نساء وأطفال ورضّع وشيوخ ومرضى يتأبّطون ما خفّ وزنه وغلا ثمنه، قطعوا مسافات طويلة سيراً على أقدامهم، انهاروا من التعب والإجهاد عند مداخل صيدا، ثم استجمعوا أنفاسهم وعاودوا الزحف مجدداً. 

النازح لا يملك ترف الانهيار.

عند جسر الأولي، ركنت السيارة جانباً طلباً لبعض الراحة، 4 ساعات من القيادة تحت ضغط الغارات وثقل القهر والوجع كانت كفيلة بأن تصيبني برجفة في يديّ وتخشب في كتفيّ ما زلت أحس بهما حتى الساعة.

اشتريت فنجان قهوة وجلست على الرصيف، إلى جانبي عائلات بصغارها وكبارها، أمضت ليلتها هنا، توسّدت الأرض والتحفت السماء، الحزن ينفر من أعينهم على شكل شلالات من الدمع، والخوف يظهر واضحاً على وجوههم التي اصطبغت بصفرة ناشفة، لا أحد يتحدّث مع أحد، صمت فقط.

طلبت من إياد أن يلتقط صوراً للذكرى ثم نهيته، لن أتعامل مع هذا الوجع على أنه سبق صحافي، ماذا ستوثّق الصورة؟ التوثيق يُدوَّن هنا جهة القلب، والصورة ستظل مطبوعة في وجداني، ستحفر عميقاً في ذاكرتي، سأضيفها إلى صور أخرى ما زالت ترقد هناك حيث ينمو القهر والغضب والعجز والنقمة ولا ينفجر، إلا على شكل نوبات بكاء غير مفهومة.

طوال الطريق لم يكف هاتفي عن الرنين، رسائل الاطمئنان تتدفق من كل مكان في العالم بلا مبالغة، تأتيني أصوات الصبايا في “درج” أبلغينا أين وصلت، إبعثي رسالة كل نصف ساعة حتى لو لم يكن هناك جديد، فأبكي وأضحك حزناً وفرحاً…

في بيروت

ثلاث ساعات أخرى حتى تمكّنا من الوصول إلى بيروت.  جارتي هدى التي نزحت معي تريد أن تذهب إلى منزل ابنتها في الغبيري، لاحقاً ستكتشف أنها انتقلت من جحيم إلى جحيم. في ساحة الغبيري لاقاها حفيدها، ونحن تابعنا مسيرنا لنخرج من جهة حارة حريك باتجاه طريق المطار، بعد دقائق تنقضّ طائرة على مبنى سكني في الغبيري، أنظر إلى إياد وأقول له إنها قصة نجاة أخرى كتبناها معاً. 

في المنزل الجديد في الحي البيروتي العتيق، جلسنا على الكنبة الصغيرة منهكيْن منهاريْن، لا ندري ماذا نفعل، تركنا ما حملناه معنا من أغراض في السيارة، وقررنا أن نستحم وننام.

تُصدر المستوعبات الحديدية  أثناء إنزالها من السفن الراسية في مرفأ بيروت القريب، أصواتاً تشبه ارتطام الصواريخ، أهبّ من سريري باحثة عن إياد، فأجده مذعوراً، نوشك أن ننهار، نتذكر أننا صرنا في الأمان. الرعب ما زال طازجاً صوته له سطوة، لا أعرف كيف  سنُشفى منه، هل يُشفى الإنسان من كوابيسه؟ 

هل يعيش من شفي من رعب الأصوات حياة طبيعية؟ هل ينجو فعلاً؟  إنها المرة السادسة التي أختبر فيها همجية إسرائيل وأنجو، في الأولى كنت طفلة في الثامنة من عمرها، جبانة تدّعي الشجاعة لكن “الصفيْرة” التي أُصيبت بها حينذاك فضحتها، واليوم أختبرها وأنا أم في الخمسين تتصنع الصلابة، لكن خوفها على ابنها يفضحها. 

أعرف أن أرواحنا وأحلامنا وعواطفنا لا تعني لهذا العالم شيئاً، لكن من باب العلم بالشيء، أحب أن أذكره كم أنه حقير ومتواطئ ومنحاز! لا شيء غير عادي، هو هكذا دائماً، في السودان وفي سوريا وفي اليمن وفي فلسطين وفي جمهوريات الفقراء في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا! هذه عقيدته: البقاء للأقوى.

محمد أبو شحمة- صحفي فلسطيني | 11.10.2024

ضغط عسكري على الشمال ومجازر في جنوبه… عدوان “إسرائيل” في غزة لا يتوقّف

يمارس الجيش الإسرائيلي ضغطاً عسكرياً على سكان المخيم بهدف دفعهم إلى النزوح لجنوب القطاع، تنفيذاً لما يُعرف بخطة "الجنرالات" التي وضعها اللواء الإسرائيلي المتقاعد غيورا إيلاند، والهادفة إلى إجلاء المدنيين بعد حصار محكم.
27.09.2024
زمن القراءة: 6 minutes

سنة مرت تقريباً وأنا أشاهد أجساد الغزيين تتحوّل إلى أشلاء وعظامهم تتبخّر في الفراغ، وأراهم صامدين متمسكين بأرضهم، فأسأل نفسي ما الذي يمنعني أن أكون مثلهم؟

بعد سنة تقريباً على حرب الإبادة في غزة، ومثلها على حرب “الإسناد”، قررت إسرائيل إبادتنا. فجر الأحد الماضي، أشعلت سماءنا وأرضنا بالنار والبارود. شنّت في وقت قياسي أكثر الغارات الجوية كثافةً في تاريخ الحروب المعاصرة وأزهقت مئات الأرواح.

خلال هذه السنة، رفضت فكرة النزوح، على رغم توسّلات أمي وأخوتي وتمنيّات صديقاتي وأصدقائي، وما كان يمنعني هو خوف الوقوع في الذنب. في الحروب حين يسقط ستار الأمان عن الجميع، تتحول فكرة النجاة الفردية إلى عقدة ذنب. أكثر من مرة دنت مني المجزرة، كنت أبتعد يومين ثم أعود، لئلا أحمّل ضميري ما لا طاقة له به. 

سنة مرت تقريباً وأنا أشاهد أجساد الغزيين تتحوّل إلى أشلاء وعظامهم تتبخّر في الفراغ، وأراهم صامدين متمسكين بأرضهم، فأسأل نفسي ما الذي يمنعني أن أكون مثلهم؟ فتُجيبني لو كان بإمكانهم لرحلوا، فأكذّبها وأصدق معادلتي، أتّخذها حجة لبقائي في بيتي، ولو في الأمر مغالطة… 

كان صبح الأحد قد بدأ يتنفّس، إياد (ابني) نائم في غرفته، فجأة يقصف رعد رهيب، يرتطم شيء ثقيل بالأرض محدثاً انفجاراً مدوياً، ثم يدبدب ويتمدد وينفلش ويستمر بإصدار انفجارات صغيرة متتالية تشبه الهزات الارتدادية. تميد الأرض تحتي قدميّ، تصفق الأبواب والشبابيك ويوشك سقف البيت أن يُطبق على أرضه، إنه صاروخ “شارون” الزلزالي، كما صرّحت إسرائيل، الذي يخترق المخابئ لعشرات الأمتار تحت الأرض ثم ينفجر في العمق، ويشعر السكان بنتيجته بما يشبه الزلزال. 

إنه شارون اللعين يعود مرة أخرى إلى الجنوب، بكل ما أوتي من شهوة القتل والتدمير.

بدأت البناية تخلو من السكان، توالت اتصالات الأحبة، توسّلاتهم بالخروج العاجل، وأنا أدير للكل أذني الطرشاء، سأبقى هنا! يوافقني إياد على قراري، نتعاهد بأن نظل قريبيْن من بعضنا بعضاً، أن نتحرك ضمن حيز صغير من البيت سمّيناه مساحتنا الآمنة، وبدل نشرات الأخبار نكتفي بسماع فيروز!

لساعات متتالية استخدمت إسرائيل كل وحشيتها، حاصرتنا بزنار من النار من كل الجهات، الحمم تسقط من السماء والهواء يتكسّر من فرط الأصوات.  عصراً بدأت الأخبار غير المطمئنة تصلنا تباعاً، البيوت المتوهجة بالحياة أخذت تتهاوى وتتحول إلى رماد، تعصر أجساد ساكنيها فلا يُعثر لهم على أثر، الصور والفيديوات تنهال وتتوالى أسماء القتلى والجرحى، أقارب وأصدقاء وأطفال قضوا تحت الركام،  فتنهار أعصابنا، نبكي قليلاً ونحزن كثيراً، نطمئن المتصلين أننا بخير، ونتصل بآخرين للاطمئنان.

يحلّ الظلام سريعاً… فرغت البناية، فرغ الحي، فرغت النبطية إلا من بعض المتهورين مثلنا. أنتبه إلى أنني لم أضع لقمة في فمي طوال اليوم، أقوم وأحضر صينية كفتة عظيمة، يذهب إياد إلى السوق لشراء حاجيات صمود ضرورية ويعود خائباً، كل المحلات مقفلة. نأكل ونتحلى بالقليل من كعكة التمر الذي أعددتها، وبكثير من الصبر، هذا كله، والطائرات ما زالت تذرع السماء فوقنا وأصوات الصواريخ تنزّهنا بين أبواب جهنم من لظى إلى سعير إلى سقر. 

فجر الاثنين تزداد وتيرة الغارات وتمرجحنا الصواريخ الزلزالية شمالاً ويميناً، كأن أبواب جهنم كلها مفتوحة علينا. أوقظ إياد من نومه وأقوده إلى “الكوريدور” وهو شبه نائم، أقول له هنا أكثر أماناً فيسخر من كلامي، نجلس على الأرض متقابلين، أتقمص شخصية فايز الدويري وأشرح  له، محاولة أن أخرجه من موجة الرعب التي غمرته: إذا سمعت ضربة ثم صفيراً يعني أن الصاروخ انطلق من جهتنا، إذا سمعت صفيراً ثم انفجاراً قوياً، يعني شيئين أن الصاروخ أتى من عندهم وأننا نجونا! ينقضي النهار ونحن على هذه الحال، نحللّ ونخطئ مثل الدويري.

يزحف ليل آخر بخطى ثقيلة مرعبة، الصفير الذي يعقبه انفجار لا يهدأ، نحتمي هذه المرة بغرفة النوم، نتقوقع على السرير، أحاول أن أحضنه من كل الجهات، أغفو فيبقى صاحياً، أصحو فينام، وهكذا حتى مطلع الشمس.

يقول لي ساعة اشتداد القصف صباحاً، الخروج الآن فيه مخاطرة أكثر من البقاء، الرعب على الطريق أكبر من الرعب في البيت، لنظل هنا، نُدفن تحت سقف بيتنا أفضل من أن نموت في العراء. أقول في نفسي كم هي بشعة كلمة العراء، مثل كلمة القتل فيها كمية من العنف الفاضح، أوافقه وفي عينيّ سيل من الدموع ونهر من الحزن في قلبي.

إياد الذي انتظرته مرتين، تسعة أشهر قبل ولادته وإحدى عشرة سنة بعد انفصاله عني، يواجه الموت بسببي، أتأمله خفية فأحس بثقل التجربة على عواطفه…

يا إلهي لن أسمح للوحش أن يبتلعه، أهبّ من مكاني دفعة واحدة، وأقول له لنخرج يا أمي قبل أن يصبح البقاء جحيماً والخروج مستحيلاً… 

أنزلنا أغراضنا بسرعة البرق، أقفلت الباب بالمفتاح، أعدت فتحه مرة، اثنتين، ثلاثاً، لأشبع عينيّ من مشاهده، حطّت على المفتاح فراشة لا أدري من أين أتت فجأة،  ابتسمت لها، ربما هذه  روح أبي ترفرف حولي، أحسست بأن الأمان سيكون برفقتي في الطريق، فانطلقت.

الهجرة إلى الشمال

نترك المجزرة المفتوحة خلفنا وهي تتنقل من بيت إلى بيت جنوباً، لندخل في مجزرة النزوح شمالاً، إنه يوم الحشر! زحمة وذعر وعطش وجوع، الناس عالقون على الطريق، بعضهم احتُجز في سيارته نحو 15 ساعة وبعضهم سار أكثر من 20 ساعة بلا توقف. 

لا نواب ولا حزبيين ولا مافياتهم ولا أي جهة تهدئ روعهم، ولا أياديَ تمسح الدموع عن أعينهم والغبار عن وجوههم، ولا إشارات تدلهم من أين الطريق، ذلٌّ هذا الطريق. 

يومان وهم متروكون وحدهم، محاصرون بين نيران الصواريخ على جانبي الأتوستراد والوحوش المعدنية التي تقبض على السماء فوقهم، ولولا نخوة الصيداويين الذين استقبلوهم بالماء وبعض الطعام، لكان تيهاً.

كانت السيارات تتدفق لتملأ كل فراغ على الإسفلت، تحتل مسربي الأوتوستراد، وعلى الأرصفة تزحف جحافل النازحين، ممن لا يملكون وسيلة مواصلات تنقلهم؛ غالبيتهم من السوريين، نساء وأطفال ورضّع وشيوخ ومرضى يتأبّطون ما خفّ وزنه وغلا ثمنه، قطعوا مسافات طويلة سيراً على أقدامهم، انهاروا من التعب والإجهاد عند مداخل صيدا، ثم استجمعوا أنفاسهم وعاودوا الزحف مجدداً. 

النازح لا يملك ترف الانهيار.

عند جسر الأولي، ركنت السيارة جانباً طلباً لبعض الراحة، 4 ساعات من القيادة تحت ضغط الغارات وثقل القهر والوجع كانت كفيلة بأن تصيبني برجفة في يديّ وتخشب في كتفيّ ما زلت أحس بهما حتى الساعة.

اشتريت فنجان قهوة وجلست على الرصيف، إلى جانبي عائلات بصغارها وكبارها، أمضت ليلتها هنا، توسّدت الأرض والتحفت السماء، الحزن ينفر من أعينهم على شكل شلالات من الدمع، والخوف يظهر واضحاً على وجوههم التي اصطبغت بصفرة ناشفة، لا أحد يتحدّث مع أحد، صمت فقط.

طلبت من إياد أن يلتقط صوراً للذكرى ثم نهيته، لن أتعامل مع هذا الوجع على أنه سبق صحافي، ماذا ستوثّق الصورة؟ التوثيق يُدوَّن هنا جهة القلب، والصورة ستظل مطبوعة في وجداني، ستحفر عميقاً في ذاكرتي، سأضيفها إلى صور أخرى ما زالت ترقد هناك حيث ينمو القهر والغضب والعجز والنقمة ولا ينفجر، إلا على شكل نوبات بكاء غير مفهومة.

طوال الطريق لم يكف هاتفي عن الرنين، رسائل الاطمئنان تتدفق من كل مكان في العالم بلا مبالغة، تأتيني أصوات الصبايا في “درج” أبلغينا أين وصلت، إبعثي رسالة كل نصف ساعة حتى لو لم يكن هناك جديد، فأبكي وأضحك حزناً وفرحاً…

في بيروت

ثلاث ساعات أخرى حتى تمكّنا من الوصول إلى بيروت.  جارتي هدى التي نزحت معي تريد أن تذهب إلى منزل ابنتها في الغبيري، لاحقاً ستكتشف أنها انتقلت من جحيم إلى جحيم. في ساحة الغبيري لاقاها حفيدها، ونحن تابعنا مسيرنا لنخرج من جهة حارة حريك باتجاه طريق المطار، بعد دقائق تنقضّ طائرة على مبنى سكني في الغبيري، أنظر إلى إياد وأقول له إنها قصة نجاة أخرى كتبناها معاً. 

في المنزل الجديد في الحي البيروتي العتيق، جلسنا على الكنبة الصغيرة منهكيْن منهاريْن، لا ندري ماذا نفعل، تركنا ما حملناه معنا من أغراض في السيارة، وقررنا أن نستحم وننام.

تُصدر المستوعبات الحديدية  أثناء إنزالها من السفن الراسية في مرفأ بيروت القريب، أصواتاً تشبه ارتطام الصواريخ، أهبّ من سريري باحثة عن إياد، فأجده مذعوراً، نوشك أن ننهار، نتذكر أننا صرنا في الأمان. الرعب ما زال طازجاً صوته له سطوة، لا أعرف كيف  سنُشفى منه، هل يُشفى الإنسان من كوابيسه؟ 

هل يعيش من شفي من رعب الأصوات حياة طبيعية؟ هل ينجو فعلاً؟  إنها المرة السادسة التي أختبر فيها همجية إسرائيل وأنجو، في الأولى كنت طفلة في الثامنة من عمرها، جبانة تدّعي الشجاعة لكن “الصفيْرة” التي أُصيبت بها حينذاك فضحتها، واليوم أختبرها وأنا أم في الخمسين تتصنع الصلابة، لكن خوفها على ابنها يفضحها. 

أعرف أن أرواحنا وأحلامنا وعواطفنا لا تعني لهذا العالم شيئاً، لكن من باب العلم بالشيء، أحب أن أذكره كم أنه حقير ومتواطئ ومنحاز! لا شيء غير عادي، هو هكذا دائماً، في السودان وفي سوريا وفي اليمن وفي فلسطين وفي جمهوريات الفقراء في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا! هذه عقيدته: البقاء للأقوى.

27.09.2024
زمن القراءة: 6 minutes
آخر القصص
خطبة الوداع
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 11.10.2024
أعضاء البرلمان السويدي يدعون الاتحاد الأوروبي إلى تشديد العقوبات على سوريا بعد تحقيق OCCRP وسراج
سلمى معوض وجوناثان كول (OCCRP)، علي الإبراهيم (SIRAJ) وراسماس كانباك (Blankspot) | 11.10.2024
إسرائيل: قوّة غاشمة فمن يوقفها؟
ميسا العمودي - كاتبة وصحافية سعودية | 11.10.2024

اشترك بنشرتنا البريدية