تُقدِّم السلطة السورية الحالية نفسها عبر رؤيتين متوازيتين، الأولى خطابية وإعلامية ذات نزعة تسويقية، رفعت شعار “سوريا للجميع ولكل أبنائها”، متبنّيةً خطاباً وحدوياً يرفض التنازل عن أي جزء من الأرض السورية، مع تأكيد رفض ثقافة الانتقام والترويج لفكرة نظام محاسبة عادل.
أما الرؤية الثانية، فهي أكثر فعالية وأثراً، وتتمثّل في نهج انتقائي في التعامل مع الأفراد والجماعات، إذ دعمت السلطة شخصيات غير حزبيّة لكنها منخرطة في البنى الإعلامية والعسكرية والاجتماعية، مثل الإعلاميين الموالين، والمؤثرين الاجتماعيين، والشعراء، الذين تبنى بعضهم خطاباً مناهضاً لطوائف محدّدة.
هذا “الظهور المدروس” لم يكن خالياً من التحريض الطائفي، إذ تسرّبت إلى الخطاب الرسمي لهجة أكثر وضوحاً عبر شخصيات مؤثرة وإعلاميين وقادة عسكريين، تبنّوا خطاباً متطرفاً. هذا التداخل يكشف عن ازدواجية سلطوية، حيث تُقدَّم سردية رسمية متسامحة في العلن، بينما تُدار أخرى أكثر تطرفاً في الأوساط المغلقة. في الوقت ذاته، وجّهت السلطة إعلامها للسماح بخطابات طائفية لم تُجرّمها، وأحياناً شجّعتها ضمنياً، من دون فرض أي قيود قانونية على خطابات الكراهية، حتى في الحالات التي اعتقلت فيها الجناة وأدانتهم، إذ لم يُمنح الضحايا أي مساحة لاحترام حقوقهم أو كرامة ذويهم.
صنعت السلطة واجهة أدائية لممارساتها، إذ لم يعد القمع مجرد أداة سيطرة، بل تحوّل إلى عرض اجتماعي يبرر العنف ويستقطب انتباه الشامت، الحاقد، المُتعَب، والمنكسر، ليكون بديلاً عن أي آلية تفريغ نفسي أو مؤسساتي أخرى. لم يكن هذا التواطؤ ظاهرة تلقائية، بل حظي برضا السلطة ودعمها، ما ساهم في خلق بيئة تتقبل العنف وتشرّعه، محولاً إياه إلى مشهد مبرر ضمن الخطاب الرسمي.
تجاهلت السلطة الاحتجاجات القانونية والحقوقية على تجاوزات عناصرها أثناء ممارستهم العنف المتكرر، وصلت حد تبنّي سلوكيات غريبة أصبحت بمثابة طقوس رمزية، مثل إجبار المعتقلين على العواء، الزحف، والدعس على وجوههم. هذا التركيز على الأداء الاستعراضي للقمع بات أمراً مشيناً، بخاصة أن المجتمع برر للسلطة الجديدة هذه الممارسات بحجة أنها كانت تُمارَس في السابق، ما أدى إلى تغييب أي اعتراض على استمرارها. وهكذا، تبنّت السلطة ضمنياً هذا السلوك، إذ لم تعترض عليه منذ ثلاثة أشهر وحتى اليوم، ولم تتخذ أي إجراء لمعالجته سوى الإدانة اللفظيّة.
معركة السلطة مع الأقليات: العلويون نموذجاً ناضجاً
كان للعلويين قسط كبير من التفاعل مع السلطة، التي تعاملت معهم بخصوصية واضحة. فالجمهور العميق للدولة الجديدة حمل مخاوف كبرى تجاههم، لا سيما في ما يتعلق بعودتهم إلى الحكم أو الجيش أو تأمين وضع خاص. وقد تم التعبير عن هذه المخاوف عبر التأطير الخطابي للعنف، إذ صُوِّروا كامتداد عضوي للنظام السابق، متناسياً ما فقدوه من قتلى ، أو ما تعرضوا له من تواطؤ قمعي طوعي، إذ زُجَّ بهم في دائرة العنف لا بدافع أيديولوجي، بل بسبب الخوف الذي عمّقته السلطة الأسدية، مستغلة قلقهم من الإقصاء. في ظل تلاعب إدراكي واضح، صيغت صورة العلويين، إذ تم انتقاء أسماء ضباط علويين واتهامهم من دون بنية واضحة جرمية أو الدفع نحو أشكال مقوننة لاتهامهم، مع إبراز فيديوهات لمقارنات عمرانية بين مناطقهم وباقي سوريا، بما أسس لتصوّر جمعي بأنهم يشكلون النظام أو على الأقل شركاء أساسيون فيه والأهم شركاء بالدمار الذي صنعه النظام السابق.
في المقابل، تم تجاهل أنهم كانوا، في آن واحد، ضحايا للسلطة الأسدية ولعملية تطييف مدروسة دفعتهم إلى الحرب، وجرّدتهم من أي موقع آخر سوى كونهم حراس النظام، وهذا ما يتضح بتجريد قتلى الجيش السوري سابقاً من صفة “الشهداء”، المشكلة التي تتطلب حواراً وفهماً لطبيعة الصراع في سوريا طوال 14 عاماً، وأثرها على السلم الأهلي، والتي حُلّت بقرار واحد وسريع، القتلى تحت علم النظام مجرد قتلى وفقط.
بالتوازي، استخدم العنف الرمزي ضدهم كأداة انفعالية لتفريغ الآلام السورية كافة، من الفقر والعوز إلى الإحباط الناتج من فشل السلطة الجديدة في إنتاج شكل ديمقراطي أو وطني جامع. فتم تحويلهم إلى هدف جاهز، ليس فقط للحساب السياسي، بل أيضاً لإسقاط كل معاناة السوريين عليهم، بما في ذلك فشل الثورة في بناء أفق جديد، وارتباك الدولة الجديدة في إدارة واقع ما بعد النظام.
يُشير هوبزباوم إلى فكرة اختراع التقاليد في تشكيل الأنظمة الحديثة، حيث يتم استغلال الماضي بشكل انتقائي لإعادة تشكيل الهوية السياسية وإنتاج أعداء داخليين. تبنّت السلطة هذا النهج، مروّجة لروايات تعيد صياغة التاريخ لخدمة مصالحها، ما سمح لها بتصنيع خصوم داخليين وإعادة تفعيل الطائفية كأداة للضبط الاجتماعي والسياسي.
لم تكن هذه السردية مجرد محاولة لإعادة تعريف تصوّر السلطة، بل كانت إنتاجاً أيديولوجياً يعيد تدوير الموروث الطائفي في سياق معاصر، حيث تتحول الهويات الطائفية إلى أدوات سياسية يتم التلاعب بها وفق منطق “اقتصاد القمع”. تستثمر السلطة في الخطابات المتداولة، فتوجّهها لدفع الشارع ضد الشارع، وترسيخ اصطفافات جديدة تُستخدم كأدوات قمع واستبعاد. هذا ما حدث في دمشق، حيث اصطفت الجماهير الموالية ضد وقفات التضامن مع الساحل، ولم يتردد البعض في التعبير عن كراهيته العلنية للعلويين، ما يعكس نجاح السلطة في إعادة تشكيل العداء داخل المجتمع، بحيث لم يعد يُستهدف النظام فقط، بل يُعاد إنتاجه بين المكونات الاجتماعية المختلفة.
الاحتواء عبر الاستثناء!
سعت السلطة إلى تقديم نفسها ككيان غير طائفي عبر خطاب إعلامي يروّج لفكرة الوحدة الوطنية، لكنها في الوقت ذاته دعمت سياسات عمّقت الانقسامات الداخلية. فعلى الرغم من محاولتها عزل نفسها عن الخطاب الطائفي، لم تتردد سابقاً في تقديم نفسها كطرف متشدد دينياً، مقصيّ للنزعات الليبرالية والمدنية، وهذا ما لاحظه عموم السوريين في تفادي لفظ كلمة “ديموقراطيّة” وابتداع كلمة “مدنية شرعيّة”! لم يكن هذا التناقض عشوائياً، بل استراتيجية محسوبة تهدف إلى خلق استعمار داخلي، حيث يُعاد توجيه الغضب الشعبي نحو فئات محددة بدلاً من النظام، ما يساهم في إدامة الصراع وإبقاء المجتمع في حالة استنزاف دائم.
لم تكن سياسية الاحتواء عبر الاستثناء inclusion via exclusion، سوى إنتاج الآخر بوصفه تهديداً داخلياً، يبقى على الحواف، وفي حالة العلويين، كان الاستثناء جغرافياً، أي دفعهم نحو الساحل أو “مواطنهم الأصلية” وتجريد الموظفين من وظائفهم، لخلق طبقة مستثناة، هم مواطنون، لكن على الحواف، تداري السلطة وجودهم بالحدّ الأدنى، وتروّج لسردية “السلم الأهلي”.
ترافقت هذه السياسة مع خطاب عنفي ممنهج، رُوّج له عبر الإعلام التقليدي والجديد، ما أطلق موجات من العداء الرمزي واللفظي ضد العلويين. وتصاعدت السخرية من المناطق الساحلية ولهجاتها، وأعيد تدوير رموز إعلامية مرتبطة بالنظام كمادة للتحريض والتشويه، ما جعل الصراع يبدو وكأنه مواجهة بين طوائف، وليس مواجهة ضد السلطة نفسها.
وأصبح التخلص من تاريخ التشدد نفسه قائماً على خلق “عدو”داخلي جديد، يواجهه المجتمع بالأدوات نفسها التي واجهه بها النظام السابق، فلا يعترفون بالأقليات إلا بوصفهم متشددين أو استثناءات داخلية، كما لم يعترف النظام بهم إلا ضمن هذه الأطر. وتماماً كما فعل النظام، تبنّوا خطاباً يعيد إنتاج الأعداء الداخليين، لا لتفكيك البنية الاستبدادية، بل لتغطية صعوباتهم في قيادة الدولة وتشكيلها، ما جعل إعادة بناء السلطة تتم وفق المنطق نفسه الذي حاولوا مواجهته، وإن بأدوار معكوسة.
إقرأوا أيضاً:
مجزرة الساحل والعنف الإلهامي
مع اندلاع مجزرة الساحل، استغلت السلطة الطغيان الموجّه، مستندةً إلى بنية تحتية داعمة لها، لكنها في الوقت ذاته تحمل تناقضات داخلية. فهي تجمع بين الاحتفال بالثورة والاحتفاء بالعنف، مستثمرةً في إرث الذنب الجمعي الملقى على العلويين، ليس فقط لإرهابهم، بل لإعادة تشكيل البنية الاجتماعية عبر العنف المنظَّم.
حملت المجازر التي حصلت في الساحل بُعداً شكّل العلويون فيه عدواً صريحاً، يُقتلون ويُصورون قتلى، وتُحرق متاجرهم وأراضيهم، ويُلاحقون حتى عند فرارهم إلى الأحراش أو الوديان.
لكن الأكثر قسوة كان القتل الرسائلي أو القتل الإلهامي، إذ حرص القتلة على تنفيذ المجازر وفقاً لما شُرِّع دينياً ضد “النُصيرية”، ما كرّس الطابع الديني للعنف، بحيث لم تكن الرسالة موجهة فقط نحو الضحايا، بل تحول جسدهم نفسه إلى رسالة سياسية ودينية. اندرجت جرائم عدة ومجازر ارتكبها النظام إلهامياً، مجزرة البيضا، وبعض شعارات الجنود أو ميليشيات الدفاع الوطني التي كانت تنساب عبر المقاطع من هنا أو هناك، أو حتى تجربة الفرق الشيعية في سوريا التي حملت في فعلها وسلوكها قتلاً إلهامياً. لم يُكتفَ بالقتل الغرائبي، بل ظهرت مقاطع توثّق قتلاً احتفالياً، إذ لم يكن الهدف تصفية الضحايا جسدياً فقط، بل الاستعراض بتفتيت ممتلكاتهم والتفاخر بسرقتها.
تفاخر علني بالنهب من بيوت المقتولين، مقاتلون يرفعون أغراض السكان كغنائم، تطبع فخري بالسرقة، تماماً كما شهده السوريون سابقاً مع جنود النظام البائد وميليشيات الدفاع الوطني.
تحوّل الضحايا المقتولون إلى رموز لانتصار العقيدة، إذ ظهر الواجب المقدّس بالتطهير على الأجساد المقتولة والمُلقاة في العراء، لترسيخ صورة طويلة الأمد تفيد بأنهم منبوذون سياسياً ودينياً وإلهامياً. لم يكن تسليع العلويين مجرد أداة للانتقام، بل رسالة للجميع بأنهم لم يكونوا فقط جزءاً من النظام، بل مسرحاً لسلطته وإرادته، وأصبح استهدافهم شكلاً من أشكال تصفية إرث النظام نفسه، ولكن عبر أدواته.
هذا ما يعيدنا إلى الاستثناء، قتل العلويين، لم يكن “جريمة” وكأنهم أعداء، أشخاص لا يستحقون الحياة، وتم تجميل هذه المقاربة عبر اعتقالات عدة لمن ارتكبوا انتهاكات وتجاوزات، لكن لا نعلم ما هي التهم التي وجهت لمرتكبي الانتهاكات، ولا أسلوب محاكمتهم، ما نعلمه أنه تم اعتقالهم.
صناعة العدو السياسي وترسيخ الهيمنة
لا تبدو هذه السلطة كياناً غريباً من الناحية المفاهيمية، فهي، وفقاً لمنطق كارل شميت، تُعرّف ذاتها عبر تحديد العدو السياسي، الذي تُحمّله مسؤولية الأزمات وتستخدمه لترسيخ سيادتها. تارةً، تُرتكب المجازر باسمه، كما حدث مع العلويين، وطوراً تُهاجم الأقليات في المنابر الرسمية.
لكن على خلاف النظام السوري السابق، الذي جعل إسرائيل العدو الرئيسي ووزّع خطاب التخوين على بعض المحافظات أثناء سنوات الثورة السوريّة، فإن السلطة الجديدة تحصر عدوها داخل الدولة نفسها، مكتفيةً بصناعة الانقسامات الداخلية لتعزيز هيمنتها، في إطار ما يُسمّيه شميت “منطق العداء السياسي الدائم”.
ما أرادته المجزرة، هو أن تظل السلطة تمتلك أعداءً، مضافين إلى من تحاشاهم الأسد وميليشياته بحيث لا يكون القتل والإبادة أداتين، بل مباشرين، حسّيين، إلهاميين، ومُدعّمين ببنية تحتية متكاملة.
لم يكن الهدف مجرد التصفية الجسدية، بل الاحتفال بالأجساد المقتولة، وتحويلها إلى أضحية سياسية ودينية، تُستخدم لتبرير الكراهية، بحيث لا يكون القتلى مجرد خصوم سياسيين، بل تصبح تربيتهم على الموت جزءاً من رسالة إلهية، تجعل وجود الآخر غير مقبول حتى كمجرد احتمال، مجازر العلويين لم تكن مجرد فعل سياسي، بل ديني. لكن الأكثر تلاعباً إدراكياً كان تحويل العنف إلى تلاعب إلهامي بالموت، حيث لم تكن المقتلة مجرد صراع سياسي، بل عقيدة بحد ذاتها.
إقرأوا أيضاً: