في الأيام الأولى لبدء مباريات كأس العالم في روسيا، دخل الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف، سيئ السمعة وصاحب التاريخ الكبير في انتهاكات حقوق الإنسان، إلى أرض الملعب الرياضي ممسكاً بيد محمد صلاح، اللاعب المصري الذي ذاع صيته عالمياً وأصبح من أشهر الشخصيات في العالم. المشهد أثار ردود فعل شاجبة وكتبت صحف عالمية نقداً لاذعاً لما حصل، فقد شعر كثيرون أن هناك من استغل شهرة صلاح لتلميع صورة مرتكب. وهذه الحادثة أعادت للذاكرة استخدام شعبية اللعبة تاريخياً في الترويج لطغاة. فعلها بينيتو موسوليني زعيم الفاشية الإيطالي وكذلك الجنرال الاسباني فرانكو.
لكن خلف مشهد محمد صلاح يسير قرب قاديروف وخلف صوره يشاركه مأدبة عشاء، وقائع كثيرة تروي كيف تلاعب النظام المصري بهذا الشاب الذي بات يجسد حلم الملايين من المصريين..
لاعب القرية
ولد “مو”، كما يحب أن يناديه عشاقه، في قرية نجريج التابعة لمدينة بسيون في محافظة الغربية. وككل القرى والأرياف في مصر، يعيش الشباب هناك على أمل الفرصة، فأهل القرى بمعظمهم بسيطو الحال، لا يملكون من فتات الحياة إلا النذر اليسير. وقلّة هم أبناء العائلات الغنية الذين يملكون من الأقارب والمعارف والإمكانات ما يمنحهم إمكان اختيار الطريق، سواء أكان الانتساب الى كلية من كليات الأمان الاجتماعي كالشرطة والجيش أو دخول سلك القضاء أو ضمان وظيفة بعد التخرج تحفظ مستوى اجتماعي واقتصادي جيد، أما السواد الأعظم فينشأ على الحلم أو المصادفة التي قد تغير مستقبله وواقع أهله.
كل تلك الوقائع والضغوط التي تعرض لها الشاب ذو الجذور القروية من النظام كان يقابلها بتلميحات بسيطة، أبرزها عدم نشر صورته مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حين تم التبرع لصندوق تحيا مصر على أي من حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي، فمن ذا الذي يلتقط صورة مع رئيس الجمهورية ولا ينشرها؟
وكذلك ينشأ هؤلاء الشباب على مشاهد الظلم شبه اليومية، فيرون عديمي الموهبة يتسلقون سلم الترقي المجتمعي بسرعة الصاروخ، وهم كما هم. كما تحضر مظاهر القمع الأمني بقوة في أذهانهم، فيرون دورياً مشاهد الضرب والإهانة من قبل أفراد من الشرطة لأبناء القرى، ومظاهر القسوة والتجبر التي يلجأ إليها أفراد حفظ الأمن لصنع هيبتهم على حساب كرامة البسطاء، فيُصبح رجال الأمن مصدر خوف يلازم الفقير طوال حياته.
وكثيرون من هؤلاء الشباب رقيقو الحال من الذين يمتلكون مهارات استثنائية في كرة القدم يعيشون على أمل الفرصة، فاللعبة، على رغم ما فيها من محسوبيات، تُبقي عادة على نسبة لمن لا ظهر لهم.
اقرأ أيضاً: الغلاء يفتك بالمصريين … شهادات حية عن واقع مر
من هذا الواقع، اتجه محمد صلاح، ابن الاسرة الفقيرة، للعب في “نادي المقاولون العرب” كناشئ وهو في الـ14 من عمره، ليسافر يومياً 4 ساعات مستخدماً 5 وسائل نقل ليصل إلى النادي ومثلها عائداً.
أتت الفرصة بسبب موهبته وبراعته وصعد للعب مع الفريق الأول بسبب مهارته وسجل هدفه الأول في الدوري الممتاز في شباك النادي الأهلي في ثاني موسم له وهو لم يكد يتخطى عمر الثامنة عشرة. حينها أتته فرصة دخول بوابات نادي الزمالك، حلم الملايين من الشباب في مصر، لكن رفض الملياردير ممدوح عباس، رئيس النادي حينها، انضمامه معللاً ذلك بقلة خبرته. ضاعت فرصة العمر فكان لابد من الانتقال الى بلاد ونواد اخرى وبدأ طريق محمد صلاح طريقه خارج مصر.
الاحتراف
على رغم عدم اقتناع ممدوح عباس، بمهارات مو وخبرته، إلا أن هناك من كان يرى فيه كنزاً يستحق أكثر مما يتوقعه أحد، وخلال مباراة عقدها نادي بازل السويسري مع منتخب مصر لمن هم تحت سن 23، أحرز صلاح هدفين على رغم مشاركته المتأخرة خلال الشوط الثاني.
مع صعود نجم صلاح تصاعدت الأطماع، فهو انتقل من تشيلسي إلى فيرونتينا ومن فيرونتينا إلى روما، ومن نجاح إلى نجاح حتى وصل إلى ليفربول وأصبح أحد أكثر الشخصيات شهرة في العالم. عمد صلاح للتبرع الى قريته وعائلته وأهله بسخاء، فنشرت وسائل الإعلام العالمية بعضاً من أعماله الخيرية لأبناء قريته من مستشفى ومعهد تعليمي ومساعدات للفقراء.
قرّر حينها بازل ضم اللاعب إلى صفوفه في صفقة كانت تاريخية بالنسبة إلى نادي المقاولون العرب، إذ بلغت 2 مليون يورو، إضافة إلى احتفاظ النادي بنسبة من صفقة بيعه مرة أخرى إذا ما قرر بيعه، وبدأ مشوار النجومية والاحتراف.
وخلال موسمه الأول حصد محمد صلاح إعجاب الصحف السويسرية بعد تسجيله أهدافاً في شباك توتنهام هوتسبير وتشيلسي خلال بطولة دوري أوروبا، كما حصل على لقب أفضل لاعب في الدوري السويسري وعلى جائزة أفضل لاعب صاعد في أفريقيا من الاتحاد الأفريقي لكرة القدم. واصل تألقه حتى آخر دقيقة مع ناديه، وخلال موسم ونصف لعب 79 مباراة محرزاً 20 هدفاً أهلته للانتقال إلى نادي تشيلسي الإنجليزي، في صفقة قُدرت بأكثر من 13 مليون يورو، ليلفت أنظاراً أخرى محلية هذه المرة ولكن من زاوية أخرى.
حرب الدولة: صلاح مطلوب للخدمة العسكرية..
انتقل مو إلى نادي تشيلسي في بداية عام 2014، تزامناً مع تبلور النظام العسكري الجديد، النظام الذي أطلق عليه المصريون بعد ذلك “نظام شخلل عشان تعدي”، وبعد أشهر قليلة من إتمام الصفقة وأسابيع أقل من تولي السيسي رئاسة الجمهورية، اضطربت أوضاع اللاعب الطموح، فبعد أن تم قبول أوراقه في أحد المعاهد الدراسية لاستكمال تعليمه، تم إبلاغه برفض طلبه وإلغاء انتسابه للمعهد ووجب عودته لمصر لتأدية الخدمة العسكرية التي كان يفترض أن تكون لقرابة عامين لعدم حصوله على مؤهل عال، وبذلك تعرضت أحلام الفتى الطموح لانتكاسة.
أشيع أن والده هو مدير الحملة الانتخابية لحملة عبد الفتاح السيسي الانتخابية في قريته، وجرت استضافة الأب في برامج اعلامية هدفت للربط ما بين الصورة الباهرة لمحمد صلاح وما بين السيسي.
خلال تحقيق أجرته صحيفة “الإندبندنت” الإنجليزية عن مو، قالت إنه قد تم تهديده في تلك الفترة بإجباره على العودة لتأدية الخدمة العسكرية، وإذا ما قرر عدم العودة فسيتم منع أهله من السفر إليه. وجد الشاب القروي البسيط الذي كانت قريته كلها تخاف من ضابط مباحث، نفسه في مواجهة أعلى أجهزة الدولة ومسؤوليها.
“ولكن الأمر أبسط من ذلك يا كابتن” هكذا كان لسان حال النظام. كل ما على صلاح فعله أن يدفع بعض “مما أتاك الله من نعيم وأن تساند الزعيم”.تم حل الأمر من خلال تبرع سخي لصندوق تحيا مصر والتقاط الصور مع الرئيس عبد الفتاح السيسي. هكذا طويت صفحة التجنيد الالزامي..
مع صعود نجم صلاح تصاعدت الأطماع، فهو انتقل من تشيلسي إلى فيرونتينا ومن فيرونتينا إلى روما، ومن نجاح إلى نجاح حتى وصل إلى ليفربول وأصبح أحد أكثر الشخصيات شهرة في العالم. عمد صلاح للتبرع الى قريته وعائلته وأهله بسخاء، فنشرت وسائل الإعلام العالمية بعضاً من أعماله الخيرية لأبناء قريته من مستشفى ومعهد تعليمي ومساعدات للفقراء.
لكن هذا لم يمنع محاولات استغلال اسمه هو واسرته من قبل دوائر النظام وأجهزة الأمن، فأشيع أن والده هو مدير الحملة الانتخابية لحملة عبد الفتاح السيسي الانتخابية في قريته، وجرت استضافة الأب في برامج اعلامية هدفت للربط ما بين الصورة الباهرة لمحمد صلاح وما بين السيسي.
مصر وكأس العالم
تأهلت مصر لمباريات كأس العالم بفضل ضربة من مو، مثيراً فرحاً انتظره المصريون لأكثر من 28 عاماً، وهو فرحة بدت بمثابة بارقة أمل لشرائح واسعة من المصريين الذين يعيشون ظروفاً اقتصادية وحياتية بالغة الصعوبة. لكن مجدداً، بدت محطة كأس العالم بمثابة فرصة استغلها النظام من جديد.
بدأ الأمر باستخدام صورة محمد صلاح على الطائرة المخصصة لنقل اللاعبين للدعاية لشركة محمول شبه حكومية يديرها النظام، وهي شركة تنافس شركة الهاتف المحمول التي تمتلك حقوق تسويق اللاعب. وجد محمد صلاح نفسه في أزمة إعلامية إعلانية نالت منه ومن مدير أعماله.
وما إن انتهت هذه الأزمة حتى بدأت التالية، بسبب اختيار مدينة غروزني عاصمة الشيشان مقراً للمعسكر المصري، في واقعة غريبة كشفت الأيام خباياها. لقد أصبح المنتخب المصري أبعد المنتخبات عن أماكن اللعب، فهو يقطع أطول مسافات في البطولة متفوقاً على الـ31 منتخباً، لتتضح معالم هذا اللغز لاحقاً، حينما فوجئ صلاح باستغلاله من اتحاد الكرة ومن وراءه النظام لتجميل وجه أحد أسوأ الحكام سمعة في العالم رمضان قاديروف، الذي يعتبر حليف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حليف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ففتحت على اللاعب أبواب جهنم النقد من الصحافة العالمية.
إشارات وتلميحات
كل تلك الوقائع والضغوط التي تعرض لها الشاب ذو الجذور القروية من النظام كان يقابلها بتلميحات بسيطة، أبرزها عدم نشر صورته مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حين تم التبرع لصندوق تحيا مصر على أي من حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي، فمن ذا الذي يلتقط صورة مع رئيس الجمهورية ولا ينشرها؟
وخلال مباراة المنتخب المصري مع نظيره السعودي، بدا واضحاً عدم رضا “مو” عما يحدث حوله في ظل الحملة المسلطة عليه بسبب استغلاله سياسياً. وحينما استطاع إحراز هدف في مرمى السعودية لم يحتفل به ولم تبدُ عليه أي علامة الفرح، فمن ذا اللاعب الذي لا يحتفل بهدف له في كأس العالم؟