fbpx

محنة الأقليات في العراق:
بين العنف والتمييز والاندثار في ظل الهجرة المستمرة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“لم يرجع أي ممن أعرفهم، يخشون جميعا من ألف احتمال سيء. هذه مدينتنا التي ولدنا وكبرنا فيها وشكلت هويتنا، لا نحب أن نتركها لكننا مرغمون”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يدر في خلد بهنام نعوم (64 سنة) أن خطوة النزوح التي اتخذها مع عائلته هرباً من داعش الذي سيطر على الموصل في حزيران/يونيو2014، ستمتد به أبعد بكثير من محافظة أربيل في أقليم كردستان، وأنه سيستقر في السويد بنهاية المطاف ويحصل على جنسيتها. 

“ظننا أنها مجرد أيام قليلة، وسيهرب عناصر داعش، ونعود نحن المسيحيون إلى أعمالنا ومنازلنا التي تركناها في الجانب الأيمن للموصل، لكن هذا لم يحدث، وخيار الرجوع لم يعد قابلاً للنقاش”، يقول نعوم الذي قام بزيارة قصيرة لأربيل من أجل توكيل محامٍ لبيع منزله في الموصل. 

استثمر نعوم وجوده في أربيل لإيصال بعض الهدايا كان قد أرسلها معه أصدقاء مقيمين في السويد لذويهم. يخرج ورقة مطوية من جيبه، ويقول ملوحاً بها: ” فيها عناوين أقرباء أصدقاء مرسلي الهدايا، وهم مسيحيان و إيزيدي وشبكي” ثم يتابع مبتسماً وهو يعيدها إلى جيبه: “وهنالك واحد غيرهم شبكي، لكنه بدلاً من أن يرسل شيئاً معي رافقني في السفر وهو يزور أهله الآن!”.

مشهد حياتي يومي، يشير إلى واقع التشظي الذي تعيشه الأقليات في العراق، فقد تعرض أبناؤها بين 2004 و2017 إلى حملات استهداف منظمة أدت إلى مقتل الآلاف منهم، وطرد الناجين من مناطقهم أو دفعهم للنزوح وفقدانهم لكل ممتلكاتهم، ما أحدث تغييراً ديمغرافياً غير قابل للمعالجة في مناطق تمتد على ثلاث محافظات (نينوى، وصلاح الدين وكركوك) وانتهى بهجرة مئات الآلاف منهم إلى خارج البلاد تاركين مناطقهم التاريخية.

وأدى ذلك إلى تقلص غير مسبوق في أعدادهم، على الرغم من محاولات منطقة إقليم كردستان الفيدرالية” حمايتهم وخلق ملاذ آمن للنازحين منهم، عبر سن قانون خاص بذلك هو الأول من نوعه في المنطقة، يعرف بالقانون رقم(5) لسنة 2015، والذي ينص في مواده على نبذ  جميع أشكال التمييز ضد المكونات، ويعاقب المخالف وفق القوانين النافذة.

وينص القانون أن لكل مكون ممارسة حقوقه وحرياته الأساسية بما في ذلك حرية الفكر والتعبير والاجتماع وممارسة المعتقد الديني. وحظر أية دعوة دينية أو سياسية او اعلامية الى الكراهية أو العنف أو الترهيب أو الاقصاء والتهميش المبنية على أساس قومي وديني.

يكشف هذا التحقيق خارطة انتشار الأقليات البارزة في العراق ومدى تأثير سياسات التمييز وعمليات القتل والاجبار على النزوح على وجودها، وما تعرضت له خلال العقدين المنصرمين من استهدافات ممنهجة، وما يطمح اليه المتبقون منهم، والإجراءات التي اتخذت في سبيل حمايتهم، سواءً من قبل الأقلية ذاتها أو مؤسسات الدولة الأمنية، وفي النهاية ما يمكن فعله لوقف هجرتهم وإقناع المهاجرين منهم بالعودة. 

“ظننا أنها مجرد أيام قليلة، وسيهرب عناصر داعش، ونعود نحن المسيحيون إلى أعمالنا ومنازلنا التي تركناها في الجانب الأيمن للموصل، لكن هذا لم يحدث، وخيار الرجوع لم يعد قابلاً للنقاش”

الرعب في إطار الاستهداف الممنهج

بدأت قصة استهداف الأقليات في العراق، مع بداية سقوط النظام العراقي في 10 نيسان/أبريل 2003 ، وارتفعت وتيرته فيما يعرف بنينوى بيوم السقوط الثاني، وكان في 11/11/2004، عندما سيطر مسلحون من تنظيم القاعدة على مقار مؤسسات الدولة، ومنها مراكز الشرطة، وأقامت نقاط تفتيش في شوارع مدينة الموصل في ظل تواجد القوات الأمريكية التي كانت تحتل البلاد وانكفأت في ذلك اليوم داخل قواعدها.  

وشاعت وبنحو شبه يومي عمليات تفجير السيارات والعبوات الناسفة في الشوارع الرئيسية والفرعية داخل مدينة الموصل وكذلك في الاقضية والنواحي المرتبطة بها، فضلا عن اغتيال منتسبي الأجهزة الأمنية، وخطف وتهديد وقتل المدنيين بتهم الكفر والردة عن الإسلام والعمالة للمحتل أو عدم دفع الإتاوات. 

يذكر الباحث عادل كمال، أن الجماعات المسلحة ورجال كانوا يروجون في الجوامع بأن غزو الولايات المتحدة للعراق هو “غزو صليبي” هدفه تدمير المسلمين في كل مكان وتحديداً في العراق “لذلك فإن المسيحيين كانوا من بين أوائل الأقليات التي تم استهدافها”.

ويضرب على ذلك مثالاً، قرص مدمج وزعه تنظيم القاعدة في الموصل بعد 2004 تضمن مقطع فيديو يظهر عناصر تابعين له وهم يقطعون رأسي مسيحيين ويضعونهما في دلوين معدنيين، وقال عنصر ملثّم بأن تهمتهما التعاون مع القوات الأمريكية في منطقة القصور الرئاسية داخل الموصل.

ووفقاً لكمال، فإن الاستهدافات تلك “سعت إلى خلق حالة من  الرعب” ودفعت آلاف المسيحيين سواءً في الموصل أو غيرها من المدن العراقية إلى النزوح صوب بلدات المسيحيين في قضائي الحمدانية و تلكيف بسهل نينوى وأيضاً إلى إقليم كردستان حيث لم يظهر نشاط للجماعات التكفيرية المسلحة هناك. 

ويقول بأن استهداف الأقليات أصبح ظاهرة رغم كونها ليست طرفا في الصراع الطائفي “الشيعي السني” ولا حاملين للسلاح، وبدا كأنها حملات لتفريغ مدن كاملة منهم :”في كل مرة كان يتم استهداف أقلية بعينها، فمرة يقتل أو يختطف مسيحيون، ومرة أخرى يحدث ذلك للإيزيديين أو للشبك أو الكرد وهكذا”.

تقدر مصادر غير رسمية، أعداد ضحايا المسيحيين في عموم العراق جراء استهداف الجماعات المسلحة من سنة 2003 لغاية 2014 بنحو 1000 شخص. كان من بينهم قساوسة عدة كالمطران بولس فرج رحو رئيس أساقفة الكنيسة الكلدانية في نينوى، الذي قتل في الموصل يوم 13/3/2008. والقس يوسف عادل عبودي راعي الكنيسة السريانية في بغداد، الذي قتل في منزله وأمام أفراد أسرته في نيسان/أبريل 2008.

وبسبب عدم إجراء إحصاء رسمي في العراق منذ 1988، فأن الإحصائيات المتعلقة بأعداد المسيحيين وغيرهم تقديرية، ويذكر لويس مرقوس أيوب، العضو المؤسس لتحالف الاقليات العراقية، أن مليون ونصف المليون مسيحي كانوا متواجدين في العراق حتى نيسان/أبريل 2003، وقد تقلصت أعدادهم لتبلغ نحو 400 ألف شخص فقط.

لكن خلال تواصلنا مع ممثلي كنائس ومنظمات معنية، ومع جمع أعداد المسيحيين الباقين في العراق بمختلف طوائفهم (آشوريين، سريان، كلدان) ظهر لنا أن العدد أقل بكثير مما ذكره أيوب، إذ بلغ 260،520 نسمة فقط. وذلك يُظهر أن أكثر من 80% من المسيحيين هجروا البلاد.

كنيسة حوش البيعة قبل إعادة إعمارها

التواجد المسيحي بعد 2003 كان متركزاً في محافظات بغداد ونينوى وإقليم كردستان وبشكل أقلّ في البصرة وكركوك، إلا أن نسبتهم الأكبر كانت في الموصل وبلداتهم التاريخية بسهل نينوى كـ قره قوش في قضاء الحمدانية وناحيتي برطلة والقوش وقضاء تلكيف.

نحو 20 ألف مسيحي كانوا يعيشون في مدينة الموصل، أي 5 ألف عائلة تقريباً، بحساب معدل أفراد كل عائلة 4 أشخاص، أما في قرى و بلدات سهل نينوى فكانت هناك ما يقرب من 30 ألف عائلة، وتقلصت كثيراً إلى يوم سيطرة داعش على نينوى في صيف 2014، إذ كانت هنالك فقط 1000 عائلة مسيحية في الموصل، و15 ألف عائلة في عموم سهل نينوى، نزحت هي الأخرى صوب اقليم كردستان خلال اسابيع قليلة حتى أصبحت نينوى خالية من المسيحيين تماماً للمرة الأولى منذ قرون.

عن ذلك يقول الكاتب المتخصص في شؤون الأقليات جرجيس توما: “الأمر لم يكن واضحاً تماماً بالنسبة للكثيرين في نينوى حينها، فانسحاب الجيش العراقي ومنتسبي الشرطة المحلية والاتحادية الفجائي، خلق حالة من الفوضى في الموصل والبلدات المحيطة بها، وأشاع تنظيم داعش بأن عناصره إنما ثوار عشائر وسينسحبون بعد اكمال مهمتهم لتسليم السلطة بأيدي حكومة يختارها أهالي المحافظة”. 

ويتابع: “لكنها كانت خدعة، إذ وزع التنظيم منشورات ورقية في 12تموز/ يوليو2014، خير فيها المسيحيين بين البقاء ودفع الجزية للتنظيم أو المغادرة أو القتل. وهكذا فضل المسيحيون المغادرة، وصادر التنظيم كل ممتلكاتهم، وكتب عناصره حرف (ن)باللون الأحمر على جدران منازلهم، وهو الحرف الأول من كلمة نصراني، في إشارة إلى أن المنزل مصادر”.

طوال سنوات نزح المسيحيون صوب إقليم كردستان، ومن هناك شق كثيرون منهم طريقهم نحو المهجر، وبالنسبة للمسيحيين النازحين داخل العراق، كانت عودتهم خجولة جداً إلى مناطقهم في سهل نينوى وغيرها من المناطق التي تركوها بعد اكمال طرد داعش منها في تموز/ يوليو 2017. إذ يقول لويس مرقس أيوب إن فقط 45% فمن المسيحيين الذين نزحوا في 2014 عادوا إلى مناطقهم و 55% تركوا البلاد و 3-5% بقوا في المناطق التي نزحوا إليها داخل إقليم كردستان.

ويستدرك:” قسم ممن عادوا إلى مناطقهم، لم تكن عودتهم دائمية، وبعضهم غيروا وجهتهم مجدداً والتحقوا بأقارب لهم من المهاجرين سواءً عن طريق لم الشمل أو الأمم المتحدة أو سلكوا طرق التهريب المتعددة”.

يلخص (و.ت) الواقع الحالي للوجود المسيحي في الموصل، وهو يقود كل يوم سيارته من دهوك باتجاهها كونه مازال موظفا في جامعتها، لكنه يفضل الاستقرار شمالا على بعد 60 كلم: “لم يرجع أي ممن أعرفهم، يخشون جميعا من ألف احتمال سيء. هذه مدينتنا التي ولدنا وكبرنا فيها وشكلت هويتنا، لا نحب أن نتركها لكننا مرغمون”.

في الجهة الشمالية للموصل، يشير إلى كنيسة ماركوركيس المبنية على تلة. ويقول بأسف “إنها مغلقة، لم يعد هناك مصلون في الأحياء القريبة لزيارتها”. ويمضي بسيارته الى الجانب الأيمن المدمر من المدينة، يقترب من موقع (كنيسة الساعة) التي يتم ترميمها، ويردد “لا أعرف أحدا عاد الى المدينة القديمة التي لم يكن يكاد حي واحد يخلو من وجود مسيحيين فيها”. 

ميليشيات خلفاً لداعش

الباحث في الشأن العراقي، ياسر بختيار زكي يربط عدم عودة الكثير من المسيحيين بعد تحرير مناطقهم من داعش بين2016-2017 بوجود ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية في سهل نينوى وفرض سلطتها المطلقة على المكان بدلاً من قوات البيشمركة الكردية التي انسحبت في 2014.

بطريرك الكلدان الكاثوليك، الكاردينال لويس روفائيل ساكو، أعرب عن قلقه حيال مستقبل الوجود المسيحي في العراق، وقال بأنهم وبعد ثماني سنوات من تهجيرهم من مناطقهم، يشعرون بالخيبة والافتقاد للحد الأدنى من المواطنة.

وهذا ما دفع وفقا لما ذكره إلى نزوح عكسي لعائلات كانت قد عادت منذ فترة وجيزة بعد سنوات من النزوح، وتساءل الكاردينال:”هل ستتغير النظرة الى المسيحيين؟ هل سيتم الاعتراف بهم كمواطنين متساوين، وهم يشكّلون ثاني ديانة سماوية في العراق؟ هل سيُنصَفون بعد كل هذه المضايقات والانتهاكات؟ هل أن مشروع الإصلاحات السياسية والتشريعية والمؤسساتية التي دعت إليها كتلة سماحة السيد مقتدى الصدر وحكومة إقليم كردستان، وكتل أخرى ستشمل المسيحيين والايزيديين والصابئة المندائيين، سكان البلاد الأصليين الذين ولاؤهم للعراق، حتى الذين تركوه مرغمين”.

ساكو يقول بتوضيح أكثر: “المسيحيون يعيشون حالة من الإحباط بسبب قوانين الأحوال الشخصية المُجحِفة كأسلمة القاصرين، وأسلمة أشخاص اُكرهوا على الإسلام من قبل القاعدة أو تنظيم داعش تحت التهديد بالقتل”.

ويستدرك: “من يحمي المسيحيين المسالمين الموالين لوطنهم، اذا الدولة لا تحميهم؟ هذه انتهاكات موجعة، ولها تداعيات على سمعة العراق؟  وبكل ألم أقول: ان كنت لا ترغبون في بقائنا مواطنين متساوين في بلدنا العراق، فقولوا لنا صراحةً، لندبِّر الأمر قبل فوات الأوان”.

تترجم الوقائع على الأرض ذلك الاحباط، ففي الموصل مركز محافظة نينوى يذكر القس رائد عادل مسؤول كنائس الموصل للسريان الكاثوليك أن 60- 70 عائلة مسيحية فقط، تضم أقل من 150 فرداً، عادت إلى المدينة بعد تحريرها بالكامل في تموز/ يوليو 2017.  

ويشير القس رائد عادل إلى أن في الموصل 35 كنيسة ودير، وقد تم تدميرها جميعاً كلياً او جزئياً خلال فترة سيطرة داعش أو في حرب التحرير منه، وتم إعادة إعمار العديد منها، وأخرى قيد الإعمار حالياً، مبينا أن كنائس (البشارة ومار توما ومار بولص) تفتح أبوابها وتستقبل المسيحيين القادمين من خارج الموصل وداخلها لتأدية طقوسهم فيها.

يقول فادي صباح، وهو موظف حكومي في الأربعينات من عمره، ويتابع باهتمام تراجع أعداد المسيحيين في البلاد: “إذا كان اندثار الوجود المسيحي غير قابل للملاحظة في بغداد أو حتى الموصل، رغم أن أحيائهم فرغت وكنائسهم باتت بلا مصلين، فإن الأمر واضح تماما في بلداتهم التاريخية بسهل نينوى”.

يشير بأصبعه على خارطة انتشارهم عبر جهاز الحاسوب، ويتابع: “حين تزورها تجدها شبه فارغة، بيوت مغلقة الأبواب وأسواق مهجورة، وأحياء كاملة بلا أمهات يفترشن عتبات المنازل كما كانت تجري العادة ولا أطفال يلعبون في الأزقة”.

ويتابع، بينما يسحب صورا من درج مكتبه:”الأمر لا يتعلق بنينوى فقط، أنظر الى هذه الصور لأحياء مسيحية في دهوك وزاخو، لقد فرغت بدورها، رغم الاستقرار الأمني ونوعا ما الاقتصادي”. تأخذه لحظة شرود ثم يقول بتردد:” كل يوم هناك مسيحيون يهاجرون ولا أحد يعود.. لن يكون لنا وجود هنا بعد سنوات”. 

“الإيزيديون” عمليات القتل وجرائم الإبادة

قبل سقوط النظام العراقي السابق في 2003 كان نحو 550 ألف إيزيدي يعيشون في العراق، موزعين في أقضية الشيخان ، وسنجار، وبعاج ، وفي ناحية بعشيقة بنينوى، وكذلك في اقليم كردستان. 

وهم يعتنقون ديانة توحيدية خاصة بهم غير تبشيرية، ويحجون إلى مرقد الشيخ (عادي) في منطقة عين سفني 60كم  شمال الموصل، تعاملت معهم الجماعات الدينية المسلحة التي نشطت في العراق بعد 2003 على أنهم كفار، واغتالت الكثيرين منهم مما أدى إلى انكفائهم في بلداتهم، فضلاً عن مدن أقليم كردستان، بعد أن تركوا أعمالهم وممتلكاتهم في باقي المدن العراقية.

الباحث المتخصص في شؤون الأقليات مناف رؤوف، يقول بأن تنظيمات القاعدة وأنصار الإسلام كانت تخطف وتقتل الإيزيديين بفتاوى دينية، ففي 14 آب أغسطس 2007 شهد مجمعا تل عزير وسيبا شيخ خدر الايزديين بسنجار انفجارات بشاحنات مفخخة أسفرت عن مقتل 796 إيزيدياً وجرح 1562 شخصاً، ما عد أكبر هجوم دموي في العراق، وسبق ذلك في نيسان ابريل من العام ذاته، عملية قتل21 ايزيديا من عمال مصنع النسيج بالموصل، من قبل مجموعة مسلحة ارغمت العمال على الترجل من حافلات كانت تقلهم الى مناطق سكنهم في بعشيقة (20 كلم شرق الموصل) واطلقت النار عليهم، ما خلق رعبا هائلا في صفوف الايزيديين بالموصل ودفع غالبيتهم لترك المدينة. 

يضيف مناف، أن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق الذي تم الإعلان عنه في 2006، قبل أن يتحول إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام في 2009 ويعرف لاحقا بـ(داعش)، انتهج السياسة ذاتها، وهاجم مناطق الايزيديين في آب/أغسطس 2014 وارتكب مذابح بحقهم. 

ويتابع: “كانت الجماعات التكفيرية صاحبة السطوة الكبرى، تتحرك بحرية وتختار ضحاياها وتنفذ أحكامها بهم في وسط المدن. بعض الجثث كانت تبقى لأيام على الأرصفة، لأن عناصر القاعدة وبعدها الدولة الإسلامية كانوا يضعون عبوات ناسفة تحت تلك الجثث ويفجرونها بمجرد وصول قوات الأمن العراقية أو الأمريكية أو سيارات الإسعاف”. 

وفي 3 آب/أغسطس 2014، هاجم مسلحو داعش مدينة سنجار، وكما حدث لدى سيطرة التنظيم على الموصل بعد انسحاب القوات العراقية وتسليمها المناطق التي كانت تسيطر عليها دون قتال، انسحبت قوات البيشمركة التي كانت تسيطر على المنطقة، ولم يجد عناصر التنظيم أمامهم سوى المدنيين الايزيديين. 

لجأ القادرون على الفرار إلى جبل سنجار، ووصل غالبيتهم بعد أسابيع وعبر طرق خطرة إلى مخيمات النزوح في اقليم كردستان التي استقبلت 139.719 ألفاً منهم.

تشير إحصائيات مكتب إنقاذ المختطفين الايزيديين المؤيدة من قبل الأمم المتحدة إلى أن (1293) إيزيدياً قتلوا لدى الاجتياح الداعشي لسنجار. وبلغت أعداد المختطفين (6417)، غالبيتهم من الإناث، تم تحرير 3530 منهم لغاية 2022، وبقي مصير 2887 مجهولاً. وبلغت أعداد الأيتام (2745) طفلاً.

“إذا كان اندثار الوجود المسيحي غير قابل للملاحظة في بغداد أو حتى الموصل، رغم أن أحيائهم فرغت وكنائسهم باتت بلا مصلين، فإن الأمر واضح تماما في بلداتهم التاريخية بسهل نينوى“.

صراعات سنجار وتغيير ديموغرافية الشيخان

في العام 2022 أغلقت وزارة الهجرة والمهجرين العراقية، غالبية مخيمات النازحين في عموم مناطق العراق لكنها أبقت على مخيمات الايزيديين في أقليم كردستان بسبب عدم تمكنهم من تركها والعودة إلى مناطقهم في سنجار على الرغم من مرور أكثر من سبع سنوات على تحريرها. ويؤكد مسؤولون ايزيديون ان ثلثي نازحي سنجار لم يعودوا، فيما تقول منظمة الهجرة الدولية أن أكثر من 193 الف من سكان المنطقة عموما مازالوا نازحين.

يعدد الباحث عادل كمال أسباباً عدة لامتناع الغالبية العظمى من النازحين الإيزيديين من العودة إلى مناطقهم “عدم التزام الحكومة المركزية في بغداد بإعمار مناطقهم المدمرة، ووجود صراع بين ميليشيات وقوات مسلحة متعددة الولاءات تنتشر في سنجار، غياب الخدمات وعدم توفر فرص اقتصادية لتأمين معيشتهم، وهي بمجملها دفعت الكثير من الايزيديين للهجرة”.

تكشف منظمات ايزيدية عن هجرة نحو 120 الف ايزيدي الى اوربا خلال السنوات التسع الأخيرة. هؤلاء أصبحوا محط آمال أقربائهم من النازحين في اللحاق بهم عن طريق لم الشمل أو بطرق الهجرة غير شرعية. 

لكن الباحث الإيزيدي حسو هورمي، يقدم أسباباً أخرى لعدم عودة الايزيديين الى مناطقم التاريخية، بقوله: “الابادة بحق الإيزيديين مستمرة لحد الان، إذ أن هناك أكثر من 2800 مختطفا مجهول المصير، كما ان مناطق الايزيديين لا تدار من قبلهم وهم يطالبون بإدارة ذاتية لها، الى جانب غياب دور المرجعية الايزيدية في تشجيع  الناس على العودة، والمشاكل السياسية بين الايزيديين أنفسهم، وافتقار مناطقهم في سنجار إلى المستشفيات والمدارس والمعاهد والكليات كما فرص العمل، وهي متوفرة في اقليم كردستان مقارنة بمناطقهم، لذا فخيارهم هو البقاء في المخيمات”.

ويقول بأن :”85% من الإيزيديين يعيشون في مخيمات يحيط بها فقدان الثقة بالآخر وضياع الانتماء، ولسان حالهم -الإيزيديون مشروع قتل طالما بقوا في العراق- لذا فتفكيرهم منصب دائما نحو الهجرة”.

ويشترط هورمي، الذي يترأس المؤسسة الايزيدية لمناهضة الإبادة الجماعية، لتغيير ذلك التوجه للفرد الايزيدي “بتعاون الدول الصديقة الإقليمية والعربية وإقناع الأمم المتحدة بإعادة تأهيل المنطقة بطريقة منظمة، ابتداءً من الإنسان وصولا إلى البنية التحية”.

ويعتقد بأن وقوع الإيزيدي تحت كل تلك الضغوط والمشاكل تسبب بالكثير من العلل الاجتماعية مثل “تكرر حالات الانتحار وبروز ظاهرة الزواج المبكر، وتزويج القاصرات”.

كل أسباب عدم العودة تلك تتركز في سنجار(غربي نينوى) ومجمعاتها التي كانت تحتضن أكثر من 200 الف ايزيدي، لكن ثمة أسباب أخرى لعدم العودة الى ناحية بعشيقة وبحزاني شمال شرقي نينوى، على رأسها مخاوف التغيير الديموغرافي الحاصل هناك، كما يشير الكاتب الايزيدي خدر خلات بقوله: “المناصب الرسمية في اغلب الدوائر الحكومية باتت بأيدي غير السكان الاصلاء، والتغلغل الخطير في شراء الأراضي الزراعية والسكنية في المحيط القريب من بعشيقة وبحزاني، من قبل مكونات أخرى، يرسم معالم التغيير الديموغرافي القادم.”

ويلفت إلى أن “المخاوف تدفع العديد من السكان الايزيديين الى بيع أو تأجير منازلهم التي تقع في أطراف المدينتين كي يشتروا او يستأجروا منازل في عمق البلدة، وهي عملية هروب وتحصن بالمجتمع الأصلي، لكن آخرين يفضلون الهجرة بعيدا”.

وتسيطر قوات اللواء 30 الشبكية الشيعية التابعة للحشد الشعبي على سهل نينوى، وهي متهمة بإحداث تغيير ديموغرافي في المنطقة بمنع أصحاب العقارات من غير الشبك أو سكان السهل من استغلالها أو التصرف بها، وهو ما ينفيه قياديو اللواء، ويقولون بأنه متوافق مع القانون العراقي، وتم اتخاذه لمنع التغيير الديموغرافي في المنطقة التي تسكنها أغلبية شبكية.

معالم التغيير الديمغرافي في المناطق التاريخية لانتشار الايزيديين واضحة، كما يقول (د. م) وهو صحفي من أبناء المنطقة، فحتى في قضاء الشيخان (60 كلم شمال الموصل) والتي تعد تاريخيا مركز الامارة الايزيدية، والذي كان قبل عقود منطقة ذات غالبية ايزيدية فضلا عن وجود مسيحي حيث تنتشر أبرز المزارات الايزيدية (شيخ شمس، شيخ حنتوش، وشيخ عدي) فضلا عن عدة كنائس تاريخية، أصبح اليوم ذو غالبية مسلمة مع تزايد عدد الكرد. وباتت المنطقة في السنوات الأخيرة تشهد إقبالا من قبل الشبك الذي يشترون أراض فيها بحكم قوتهم الاقتصادية.  

الشبك والسلاح لحماية أنفسهم

الشبك أقلية عراقية مسلمة يبلغ تعدادها التقديري بين 400 الى 450 الف نسمة. يتكلمون اللغة الشبكية، يتبع نحو 70% منهم المذهب الجعفري الاثني عشري و30 % الآخرون هم من السنة.

وللشبك الشيعة العديد من المزارات الدينية المقدسة في سهل نينوى، وهي مزارا الإمامين رضا والعباس، ومقام الإمام زين العابدين، والتي فجرها عناصر تنظيم داعش في أعقاب سيطرته على نينوى.

والشبك وبخلاف باقي الأقليات ليس لهم تواجد سوى في العراق، ويعيش غالبيتهم حسب الإعلامي يونس الأغا موزعين على أكثر من 60 قرية واقعة في ست وحدات إدارية بين أقضية تلكيف والموصل والحمدانية.

 وكانوا يسكنون في نحو 12 حياً سكنيا في الجانب الأيسر من مدينة الموصل، لكن وبسبب الاستهداف المتكرر لهم، من قبل عناصر القاعدة وأنصار الإسلام ومن بعدهما تنظيم الدولة الإسلامية بسبب انتمائهم لطائفة الشيعة في السنوات 2004 و2005 و2006 اضطر الكثير منهم للنزوح نحو القرى في سهل نينوى.  

مع هجوم داعش على مناطقهم بسهل نينوى في حزيران/يونيو 2014 نزح الشبك الشيعة نحو إقليم كردستان، واستولى عناصر التنظيم على أملاكهم المنقولة وغير المنقولة.

ويرى يونس الأغا بأن الشبك مهمشون ومستبعدون عن أي منصب تنفيذي وفقاً “للمحاصصة المتبعة في البلاد”. ويقول:” ليس لدينا وزير ولا وكيل وزارة ولا مدير عام، لا سفير، لا قائد فرقة عسكرية، ولا حتى ممثل في محافظة نينوى، وعلى مايبدو نحن مواطنون درجة ثانية، هذا إذا اعتبرونا مواطنين!” .

هنالك خلاف بين الباحثين بشأن أصل الشبك، فالبعض يعدهم كرداً، وآخرون يعدونهم عربا، وفريق ثالث ينسبهم للتركمان، وآخر إلى إيران على أنهم من بقايا نادر شاه لدى محاولته الفاشلة للسيطرة على الموصل سنة 1743.

الكاتب والمؤرخ عزيز هاني خضر، يقول بأن الشبك، منقسمون قومياً بين الكرد والعرب، وطائفياً بين الشيعة والسنة. ويضيف: “بعد 2003، أصبحوا هدفاً للجماعات المسلحة، التي اغتالت العشرات منهم  وفجرت شاحنات في عدد من قراهم، وفي 2014 نزح عدد كبير منهم إلى المدن الشيعية في الجنوب كالنجف وكربلاء، والسنة منهم صوب إقليم كردستان”.

مقام زين العابدين

بعد تحرير سهل نينوى من داعش في 2016، عاد الشبك الشيعة إلى قراهم، لكن مع تصميم بعدم السماح بتكرار ماحدث لهم، وتولى عضو مجلس النواب الراحل د.حنين قدو، قيادة اللواء 30 التابع للحشد الشعبي الذي يضم مقاتلين غالبيتهم من الشبك الشيعة، يزيد عددهم غت 1500 مقاتل.

وناب عنه بعد وفاته في ديسمبر/كانون الثاني 2020  شقيقه وعد قدو، الذي يحمل الجنسية الألمانية، وقد أدرجته وزارة الخزانة الأمريكية في 19 تموز 2019 ضمن اللائحة السوداء وفرضت عليه عقوبات بعد اتهامه بملفات تتعلق بانتهاكات لحقوق الإنسان، من بينها قمع الأقليات.

الباحث جرجيس توما، يقول بأن قوات البيشمركة كانت تسيطر على سهل نينوى قبل 2014 حين سيطر عليه تنظيم داعش، وعادت إليه بعد تحريره في 2016، لكنها تركته مجددا في تشرين الثاني/أكتوبر 2017 ليتولى الحشد الشعبي زمام الأمور هناك، واللواء 30 جزء منه.

ويرى توما ان مهمة ذلك اللواء تتلخص بحماية الشبك وقراهم من أي استهداف، الى جانب عدم السماح بأي شخص من خارج سهل نينوى بتملك عقارات او استغلال او التصرف بعقارات يملكها في سهل نينوى. 

حتى أن قائد اللواء 30 وعد القدو، منع في 2022  بلدية الموصل من توسيع التصميم الأساسي للمدينة باتجاه سهل نينوى المجاور، متذرعاً بمنع أي تغيير ديموغرافي يحصل على حساب الشبك. 

ويشير توما، إلى أن اللواء 30 “يحمي نفوذا إيرانيا في سهل نينوى، وتم افتتاح مدرسة ابتدائية في ناحية برطلة تحمل اسم الزعيم الإيراني الراحل الخميني، وأن آمر فوج في اللواء يدعى حسن السلطان هو ممثل الزعيم الإيراني خامنئي في سهل نينوى”.

عميد الشرطة المتقاعد غازي فواز، يرى بأن من حق الشبك حماية أنفسهم، ويقر بأنهم تعرضوا للكثير من المآسي منذ 2003، لكنه يحذر من أن السياسة التي ينتهجها قادة اللواء 30 ستضر مستقبلاً بالشبك. 

ويوضح:”الشبك مسالمون، وعلاقاتهم كانت طيبة مع أهالي مدينة الموصل، لكنها اليوم تشهد توتراً بسبب استحواذهم على بعض الوظائف العامة الحساسة، والممارسات التي يقوم بها عناصر اللواء بمنع آلاف المواطنين من استغلال عقاراتهم الموجودة في سهل نينوى، واستيلائهم على عقارات تعود إلى مسيحيين، وهو ما سينعكس على الشبك عموماً بنحو سلبي بمجرد زوال قوة الحشد الشعبي “.

الناشط الشبكي ربيع يحيى محسن، ينفي أن يكون للشبك نوايا عدوانية تجاه أي مكون آخر، ويقول:”كل ما نريده هو أن نعيش بسلام، وأن لا نستيقظ على أصوات التفجيرات ونفجع بقتل أبنائنا بدون سبب”.

ويرى الصحفي (د. م) ان الشبك بخلاف باقي الأقليات العراقية، حافظت على وجودها في مناطقها بل توسعت، ولم تواجه مشكلة هجرة أبنائها كباقي المكونات، وان النزوح الذي حصل للشيعة منهم الى جنوب البلاد وخاصة الى النجف وكربلاء في 2014 زاد من قوتهم وحضورهم السياسي والميداني في نينوى.

“الكاكئية”: عدم اعتراف واستهدافات متكررة

الكاكئية أو “يارسان” ويعرفون في إيران بـ”أهل حق”، معتقد ديني منتشر في دول عدة بالشرق الأوسط كإيران والعراق، قومياً يرتبطون بالكرد، لكن لديهم معتقدهم الديني الخاص وهم ليسوا مسلمين كما يعتقد البعض في العراق، بسبب محاولتهم الدائمة الانصهار بمحيطهم خوفاً من الاستهداف.

وكما هو الحال بالنسبة لباقي الأقليات، لا توجد إحصائية دقيقة بشأن أعداد الكاكئية الموجودين في العراق، لكن مصادر غير رسمية قدرت أعدادهم بنحو 120 ألفاً وهم متواجدون بحسب الناشط رجب عصمت كاكئي في ديالى وكركوك ونينوى والسليمانية وبغداد. 

ولفت رجب إلى أن الكاكئية أو اليارسانية هي ديانة توحيدية تؤمن بإله واحد وبأزلية الروح وتجسدها في شخصيات مختلفة (سفر الروح) يصومون ثلاثة أيام ولديهم صلاتان واحدة عند الفجر والأخرى عند الغروب، ويحجون إلى مرقد سلطان إسحاق في قرية رديور في هورمان لهون، داخل إيران قرب الحدود العراقية.

ولدى الكاكئية عدة مزارات في العراق أبرزها وأقدسها (سيد هياس) ويقع في قرية وردك شرقي مدينة الموصل، فجره عناصر تنظيم القاعدة في أواخر سنة 2004، فتم إعماره لاحقا، ليقوم عناصر تنظيم داعش بتفجيره مجدداً في حزيران/يونيو 2014، وبني مجدداً وافتتح في أواخر 2019.

مزار سيد هياس

واجه الكاكئيون طوال 19 عاما، خاصة في قرى محافظتي كركوك وديالى التي تشكل مناطق نزاع بين حكومتي بغداد واربيل، عمليات استهداف متكررة بسيارات مفخخة وهجمات مسلحة وعمليات قتل وخطف، من قبل جماعات تكفيرية، ما اضطرهم الى ترك العديد من قراهم التي لم يستطيعوا حمايتها في ظل عدم امتلاكهم لمليشيات مسلحة، متجهين الى المدن الكردية التي اندمجوا فيها اجتماعيا وثقافيا.

يعبر رجب، عن قلقه العميق حيال مستقبل معتنقي الديانة الكاكَئية، بسبب: “عدم الاعتراف بها في الدستور العراقي وعدم قبول ديانتهم وثقافتهم الخاصة، وكذلك التهديدات الأمنية بسبب وجود بقايا مسلحي تنظيم داعش قرب قراهم، الى جانب المشاكل المستمرة بين بغداد وأربيل بشأن ادارة مناطقهم، وهذه الأسباب تدفعهم الى النزوح، أو التصنع بأنهم مسلمون حفاظا على أرواحهم”.

وأكد سعي الكاكئية للحصول على التمثيل في الحكومات المحلية أو مجلس النواب العراقي، لخلق التأثير والضغط الضروري لحمايتهم وحفظ هويتهم، غير أنه يستدرك :”لكن أولاً علينا الحصول على الاعتراف بوجود الديانة الكاكَئية (يارسان)! “.

وهذا الاعتراف صعبٌ جداً، كما يقول المؤرخ عبد الهادي الشكيب، الذي يؤكد بأن الأقليات التابعة للديانات “غير السماوية” والتي ينظر إليها على أنها كافرة “ليس فقط من قبل السلطات الحاكمة، بل أيضاً من قبل المجتمع المحيط”.

ويوضح “تعقد الأمر بعد 2003، وتفاقم وضع هؤلاء حين ظهرت الجماعات التكفيرية المسلحة التي عملت على قتلهم وخطفهم بتهمة الكفر، وبهدف زرع الرعب الذي مكنها من فرض سطوتها على مناطقهم، ومن بينهم الكاكئية الذين دمرت قراهم ومزاراتهم في سهل نينوى وتم الاستيلاء على أملاكهم بعد 2014”.

وكنتيجة لذلك، يلجأ الكاكئيون إلى إخفاء معتقدهم ومزاولة طقوسهم الدينية بسرية تامة، ويتبعون ما يعرف بـ(التقية)أي عدم ممارسة طقوسهم علناً، لحماية أنفسهم من الاستهداف. لكن مع ذلك وبسبب مظهر رجالهم المميز بامتلاكهم شوارب كثة، كان من السهل أن تستدل الجماعات المسلحة عليهم.

رجل من الطائفة الكاكئية

وقد تعرضت مناطق الكاكئية في السنوات التي أعقبت استعادتها من تنظيم داعش، لهجمات عديدة، حيث استغل التنظيم ضعف الانتشار الأمني فيها فشن هجمات أوقعت 16 قتيلا وفق مصادر كاكئية، وهو ما دفع ممثليهم للمطالبة بتشكيل قوة خاصة بهم او تكليف قوة مشتركة من الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم يحضون فيها بتمثل قوي لحماية مناطقهم، وهو ما لم يحصل إلى الآن.

إلى جانب ضعف الجانب الأمني، تواجه مناطق انتشار الكاكائية صراعا بين الكرد والعرب والتركمان بشأن عائدية الأراضي الزراعية، فضلا عن معضلة غياب الخدمات. 

ترك الكاكائية لمناطق انتشارهم وتوجههم للعيش في المدن الكبيرة يعني فعليا انصهارهم في المجتمعات التي يغلب عليها الطابع الإسلامي كديانة، والكردي كقومية، وذلك ينذر بمخاطر مستقبلية على وجود المكون، بحسب ما أسرت لنا شخصيات كاكائية بارزة تحدثت إلينا وطلبت عدم الاشارة الى اسمائها. 

الصابئة المندائيون اندثار قريب

الصابئة ديانة توحيدية كانت منتشرة في وسط وجنوبي العراق، يؤمن أتباعها بالتطهر بالماء وتتواجد امكنتها المقدسة التي تسمى (المندي) بالقرب من ضفاف الأنهر للتعمد فيها، ولديهم كتاب مقدس يسمى (كنزا ربا).

لا توجد إحصائية بشأن أعدادهم، لكن شخصيات تتبع الطائفة قدرت أعدادهم بنحو 100 ألف شخص قبل 2003. انخفض الرقم بنحو 80% في العقدين الأخيرين مع هجرة غالبيتهم نحو الدول الأوروبية هربا من الاستهدافات والتمييز المجتمعي، لتبلغ أعدادهم الحالية بين 15 و 20 ألف نسمة فقط.

خٌصص لهم مقعد واحد في البرلمان العراقي بنظام (الكوته) تنافس عليه ثمانية مرشحين في انتخابات عام 2021.

عدم وجود تعليم في المدارس العراقية او تثقيف بشأن طبيعة الديانات والمكونات العراقية، رسم صور وتصورات مغلوطة عن غالبيتها، وهو ما عانى منه الصابئة ايضا. فسوء الفهم داخل المجتمع حيال معتقدهم، فرض صورة خاطئة عنهم خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يتم اتهامهم بممارسة السحر، وهو ما ينفيه وبنحو قاطع زعيم الطائفة في العراق والعالم الشيخ ستار جبار الحلو، الذي يؤكد بأن ذلك محرم وفق معتقده.

ويدعو الحلو الجهات الأمنية والحكومية والشعبية لمنع ربط أسم الصابئة بأعمال السحر، ومحاسبة من يقومون بذلك لاستغلال الناس مادياً ومعنوياً مدعين أنهم من الصابئة، وهو ما يعود لنفيه وبشدة. 

الباحث الأكاديمي عبد الجبار غازي نوح، يقول بأن مثل هذه الاتهامات الموجهة للصابئة تهدد أمنهم وسلامتهم، وهو ما يدفعهم للهجرة حتى بات وجودهم مهدداً في العراق وهم الذين سكنوه منذ مئات القرون، وفق تعبيره.

ويبين نوح:”في وقت ضعفت فيه سلطة الدولة العراقية بعد احتلال البلاد من قبل القوات الأمريكية في 2003، لم يعد للأقليات الدينية من يحميها، وكثرت الشائعات بشأن معتقداتها، وهو ما استغلته الجماعات الدينية المسلحة سواءً الإرهابية كالقاعدة أو داعش أو الموالية للدولة لاستهدافها”.

ستار جبار الحلو حماية الأقليات وفرص البقاء

يرى باحثون أن الأقليات الدينية والعرقية مهددة بالزوال من أرضها التاريخية نتيجة هجرتها المستمرة، لأسباب عديدة بينها غياب دولة المواطنة على حساب دولة المحاصصة التي لا يساوى فيها الاقليات مع العرب أو الكرد وحتى التركمان، وفي ظل إهمالها من قبل الحكومات المتعاقبة واستهدافها من قبل الجماعات الدينية المتشددة.

لويس مرقوس أيوب، عضو مؤسس لتحالف الاقليات العراقية، يضع جملة من الشروط من أجل وقف هجرة الأقليات، وهي بتخصيص  الحكومة، صندوق إعمار خاص بمناطق الأقليات  لتعويضهم عما فقدوه من ممتلكات إثر غزو داعش في 2014، ومنح كوتا الأقليات حق النقض (الفيتو) على ما يقره مجلس النواب من قوانين وقرارات تمس حقوقهم الدينية والثقافية واللغوية والفكرية .

وأن يتولى أبناء الأقليات من المنتسبين في صفوف الجيش والشرطة العراقيين الملف الأمني في مناطقهم وليس قوات الحشد الشعبي أو قوات تتبع أي جهة سياسية، وفقاً لتعبيره.

ويرى تحالف الأقليات، ضرورة منحهم شكلاً إدارياً (نوع من الإدارة الذاتية) يتيح لهم أن يكونوا مسؤولين عن إدارة مناطقهم، مع فتح قنوات للاستثمار فيها لأبنائهم ولمن هاجر منهم تحديداُ، 

وتحييد مناطق المسيحيين والايزيديين من مظاهر إقامة الشعائر الدينية الشيعية ومن بناء الحسينيات فيها، وتفعيل قانون التعويض للنقص في الملاكات الوظيفية للمسيحيين ليكون من أبنائهم حصراً كما نص القانون. وتعديل المادة 26 من قانون رقم 3 لسنة 2016 (قانون البطاقة الوطنية) التي يقول أيوب أن فيها تمييزاً خطيرا لغير المسلمين من المسيحيين والايزيديين والصابئة المندائيين، والتي تجبر الأطفال القاصرين ممن أسلم أحد ابويهم بأن يسجلوا مسلمين في السجل المدني، وكذلك تسمح لغير المسلم من تغيير دينه، ولا تسمح للمسلم بذلك.

إلى جانب تشريع قانون المكونات وفق المادة الدستورية (125) والتي تنص على “يضمن هذا الدستور الحقوق الادارية والسياسية والثقافية والتعليمية للقوميات المختلفة كالتركمان، والكلدان والآشوريين، وسائر المكونات الاخرى، وينظم ذلك بقانون”.

ويشك أيوب بعودة الأقليات المهاجرة أو في الأقل التقليل من هجرتهم إلا بتحقيق هذه الشروط، ونتيجة استمرار التطرف في العراق تجاه غير المسلمين بنحو عام، وحتى ضد المسلمين السنة “بسبب هيمنة الأحزاب الراديكالية الإسلامية الشيعية الموالية لنظام ولاية الفقيه الايراني”. وفقاً لتعبيره.

وينبه الباحث عادل كمال، إلى ضرورة تفعيل الاتفاقيات الأمنية بين حكومتي بغداد وإقليم كردستان لكون معظم الأقليات تتواجد في المناطق التي تعرف بالمتنازع عليها بينهما، ومن بين تلك الاتفاقيات ما يتعلق بسنجار والتي وقعت في تشرين الأول أكتوبر 2020 وعرفت باتفاقية إعادة الاستقرار وتطبيع الأوضاع في سنجار، والتي لم تنفذ لغاية اليوم. 

لأن من شأن تنفيذها وفقاً لكمال، أن :”تقنع النازحين بالعودة ووقف هجرة الإيزيديين، فضلاً عن إعادة بناء المنطقة التي مازالت حركة الإعمار فيها مشلولة بسبب تعدد القوى المسلحة والصراع والانقسام السياسيين فيها” .

ويدعو كمال، إلى عدم تغليب أقلية على حساب أخرى في سهل نينوى، ويقول:”من الواضح أن الشبك الشيعة بأغلبيتهم، يحظون بدعم كبير من قبل الحكومة العراقية، وذلك من خلال السماح لهم بامتلاك ميليشيا مؤلفة من أبنائها، وتفرض سلطتها المطلقة على سهل نينوى على حساب الأقليات الأخرى الساكنة فيه كالمسيحيين والايزيدية والكاكئية”.

• أنجز هذا التحقيق تحت إشراف شبكة نيريج، وبدعم من “صندوق دعم التحقيقات في شمال إفريقيا وغرب آسيا”

25.12.2022
زمن القراءة: 22 minutes

“لم يرجع أي ممن أعرفهم، يخشون جميعا من ألف احتمال سيء. هذه مدينتنا التي ولدنا وكبرنا فيها وشكلت هويتنا، لا نحب أن نتركها لكننا مرغمون”.

لم يدر في خلد بهنام نعوم (64 سنة) أن خطوة النزوح التي اتخذها مع عائلته هرباً من داعش الذي سيطر على الموصل في حزيران/يونيو2014، ستمتد به أبعد بكثير من محافظة أربيل في أقليم كردستان، وأنه سيستقر في السويد بنهاية المطاف ويحصل على جنسيتها. 

“ظننا أنها مجرد أيام قليلة، وسيهرب عناصر داعش، ونعود نحن المسيحيون إلى أعمالنا ومنازلنا التي تركناها في الجانب الأيمن للموصل، لكن هذا لم يحدث، وخيار الرجوع لم يعد قابلاً للنقاش”، يقول نعوم الذي قام بزيارة قصيرة لأربيل من أجل توكيل محامٍ لبيع منزله في الموصل. 

استثمر نعوم وجوده في أربيل لإيصال بعض الهدايا كان قد أرسلها معه أصدقاء مقيمين في السويد لذويهم. يخرج ورقة مطوية من جيبه، ويقول ملوحاً بها: ” فيها عناوين أقرباء أصدقاء مرسلي الهدايا، وهم مسيحيان و إيزيدي وشبكي” ثم يتابع مبتسماً وهو يعيدها إلى جيبه: “وهنالك واحد غيرهم شبكي، لكنه بدلاً من أن يرسل شيئاً معي رافقني في السفر وهو يزور أهله الآن!”.

مشهد حياتي يومي، يشير إلى واقع التشظي الذي تعيشه الأقليات في العراق، فقد تعرض أبناؤها بين 2004 و2017 إلى حملات استهداف منظمة أدت إلى مقتل الآلاف منهم، وطرد الناجين من مناطقهم أو دفعهم للنزوح وفقدانهم لكل ممتلكاتهم، ما أحدث تغييراً ديمغرافياً غير قابل للمعالجة في مناطق تمتد على ثلاث محافظات (نينوى، وصلاح الدين وكركوك) وانتهى بهجرة مئات الآلاف منهم إلى خارج البلاد تاركين مناطقهم التاريخية.

وأدى ذلك إلى تقلص غير مسبوق في أعدادهم، على الرغم من محاولات منطقة إقليم كردستان الفيدرالية” حمايتهم وخلق ملاذ آمن للنازحين منهم، عبر سن قانون خاص بذلك هو الأول من نوعه في المنطقة، يعرف بالقانون رقم(5) لسنة 2015، والذي ينص في مواده على نبذ  جميع أشكال التمييز ضد المكونات، ويعاقب المخالف وفق القوانين النافذة.

وينص القانون أن لكل مكون ممارسة حقوقه وحرياته الأساسية بما في ذلك حرية الفكر والتعبير والاجتماع وممارسة المعتقد الديني. وحظر أية دعوة دينية أو سياسية او اعلامية الى الكراهية أو العنف أو الترهيب أو الاقصاء والتهميش المبنية على أساس قومي وديني.

يكشف هذا التحقيق خارطة انتشار الأقليات البارزة في العراق ومدى تأثير سياسات التمييز وعمليات القتل والاجبار على النزوح على وجودها، وما تعرضت له خلال العقدين المنصرمين من استهدافات ممنهجة، وما يطمح اليه المتبقون منهم، والإجراءات التي اتخذت في سبيل حمايتهم، سواءً من قبل الأقلية ذاتها أو مؤسسات الدولة الأمنية، وفي النهاية ما يمكن فعله لوقف هجرتهم وإقناع المهاجرين منهم بالعودة. 

“ظننا أنها مجرد أيام قليلة، وسيهرب عناصر داعش، ونعود نحن المسيحيون إلى أعمالنا ومنازلنا التي تركناها في الجانب الأيمن للموصل، لكن هذا لم يحدث، وخيار الرجوع لم يعد قابلاً للنقاش”

الرعب في إطار الاستهداف الممنهج

بدأت قصة استهداف الأقليات في العراق، مع بداية سقوط النظام العراقي في 10 نيسان/أبريل 2003 ، وارتفعت وتيرته فيما يعرف بنينوى بيوم السقوط الثاني، وكان في 11/11/2004، عندما سيطر مسلحون من تنظيم القاعدة على مقار مؤسسات الدولة، ومنها مراكز الشرطة، وأقامت نقاط تفتيش في شوارع مدينة الموصل في ظل تواجد القوات الأمريكية التي كانت تحتل البلاد وانكفأت في ذلك اليوم داخل قواعدها.  

وشاعت وبنحو شبه يومي عمليات تفجير السيارات والعبوات الناسفة في الشوارع الرئيسية والفرعية داخل مدينة الموصل وكذلك في الاقضية والنواحي المرتبطة بها، فضلا عن اغتيال منتسبي الأجهزة الأمنية، وخطف وتهديد وقتل المدنيين بتهم الكفر والردة عن الإسلام والعمالة للمحتل أو عدم دفع الإتاوات. 

يذكر الباحث عادل كمال، أن الجماعات المسلحة ورجال كانوا يروجون في الجوامع بأن غزو الولايات المتحدة للعراق هو “غزو صليبي” هدفه تدمير المسلمين في كل مكان وتحديداً في العراق “لذلك فإن المسيحيين كانوا من بين أوائل الأقليات التي تم استهدافها”.

ويضرب على ذلك مثالاً، قرص مدمج وزعه تنظيم القاعدة في الموصل بعد 2004 تضمن مقطع فيديو يظهر عناصر تابعين له وهم يقطعون رأسي مسيحيين ويضعونهما في دلوين معدنيين، وقال عنصر ملثّم بأن تهمتهما التعاون مع القوات الأمريكية في منطقة القصور الرئاسية داخل الموصل.

ووفقاً لكمال، فإن الاستهدافات تلك “سعت إلى خلق حالة من  الرعب” ودفعت آلاف المسيحيين سواءً في الموصل أو غيرها من المدن العراقية إلى النزوح صوب بلدات المسيحيين في قضائي الحمدانية و تلكيف بسهل نينوى وأيضاً إلى إقليم كردستان حيث لم يظهر نشاط للجماعات التكفيرية المسلحة هناك. 

ويقول بأن استهداف الأقليات أصبح ظاهرة رغم كونها ليست طرفا في الصراع الطائفي “الشيعي السني” ولا حاملين للسلاح، وبدا كأنها حملات لتفريغ مدن كاملة منهم :”في كل مرة كان يتم استهداف أقلية بعينها، فمرة يقتل أو يختطف مسيحيون، ومرة أخرى يحدث ذلك للإيزيديين أو للشبك أو الكرد وهكذا”.

تقدر مصادر غير رسمية، أعداد ضحايا المسيحيين في عموم العراق جراء استهداف الجماعات المسلحة من سنة 2003 لغاية 2014 بنحو 1000 شخص. كان من بينهم قساوسة عدة كالمطران بولس فرج رحو رئيس أساقفة الكنيسة الكلدانية في نينوى، الذي قتل في الموصل يوم 13/3/2008. والقس يوسف عادل عبودي راعي الكنيسة السريانية في بغداد، الذي قتل في منزله وأمام أفراد أسرته في نيسان/أبريل 2008.

وبسبب عدم إجراء إحصاء رسمي في العراق منذ 1988، فأن الإحصائيات المتعلقة بأعداد المسيحيين وغيرهم تقديرية، ويذكر لويس مرقوس أيوب، العضو المؤسس لتحالف الاقليات العراقية، أن مليون ونصف المليون مسيحي كانوا متواجدين في العراق حتى نيسان/أبريل 2003، وقد تقلصت أعدادهم لتبلغ نحو 400 ألف شخص فقط.

لكن خلال تواصلنا مع ممثلي كنائس ومنظمات معنية، ومع جمع أعداد المسيحيين الباقين في العراق بمختلف طوائفهم (آشوريين، سريان، كلدان) ظهر لنا أن العدد أقل بكثير مما ذكره أيوب، إذ بلغ 260،520 نسمة فقط. وذلك يُظهر أن أكثر من 80% من المسيحيين هجروا البلاد.

كنيسة حوش البيعة قبل إعادة إعمارها

التواجد المسيحي بعد 2003 كان متركزاً في محافظات بغداد ونينوى وإقليم كردستان وبشكل أقلّ في البصرة وكركوك، إلا أن نسبتهم الأكبر كانت في الموصل وبلداتهم التاريخية بسهل نينوى كـ قره قوش في قضاء الحمدانية وناحيتي برطلة والقوش وقضاء تلكيف.

نحو 20 ألف مسيحي كانوا يعيشون في مدينة الموصل، أي 5 ألف عائلة تقريباً، بحساب معدل أفراد كل عائلة 4 أشخاص، أما في قرى و بلدات سهل نينوى فكانت هناك ما يقرب من 30 ألف عائلة، وتقلصت كثيراً إلى يوم سيطرة داعش على نينوى في صيف 2014، إذ كانت هنالك فقط 1000 عائلة مسيحية في الموصل، و15 ألف عائلة في عموم سهل نينوى، نزحت هي الأخرى صوب اقليم كردستان خلال اسابيع قليلة حتى أصبحت نينوى خالية من المسيحيين تماماً للمرة الأولى منذ قرون.

عن ذلك يقول الكاتب المتخصص في شؤون الأقليات جرجيس توما: “الأمر لم يكن واضحاً تماماً بالنسبة للكثيرين في نينوى حينها، فانسحاب الجيش العراقي ومنتسبي الشرطة المحلية والاتحادية الفجائي، خلق حالة من الفوضى في الموصل والبلدات المحيطة بها، وأشاع تنظيم داعش بأن عناصره إنما ثوار عشائر وسينسحبون بعد اكمال مهمتهم لتسليم السلطة بأيدي حكومة يختارها أهالي المحافظة”. 

ويتابع: “لكنها كانت خدعة، إذ وزع التنظيم منشورات ورقية في 12تموز/ يوليو2014، خير فيها المسيحيين بين البقاء ودفع الجزية للتنظيم أو المغادرة أو القتل. وهكذا فضل المسيحيون المغادرة، وصادر التنظيم كل ممتلكاتهم، وكتب عناصره حرف (ن)باللون الأحمر على جدران منازلهم، وهو الحرف الأول من كلمة نصراني، في إشارة إلى أن المنزل مصادر”.

طوال سنوات نزح المسيحيون صوب إقليم كردستان، ومن هناك شق كثيرون منهم طريقهم نحو المهجر، وبالنسبة للمسيحيين النازحين داخل العراق، كانت عودتهم خجولة جداً إلى مناطقهم في سهل نينوى وغيرها من المناطق التي تركوها بعد اكمال طرد داعش منها في تموز/ يوليو 2017. إذ يقول لويس مرقس أيوب إن فقط 45% فمن المسيحيين الذين نزحوا في 2014 عادوا إلى مناطقهم و 55% تركوا البلاد و 3-5% بقوا في المناطق التي نزحوا إليها داخل إقليم كردستان.

ويستدرك:” قسم ممن عادوا إلى مناطقهم، لم تكن عودتهم دائمية، وبعضهم غيروا وجهتهم مجدداً والتحقوا بأقارب لهم من المهاجرين سواءً عن طريق لم الشمل أو الأمم المتحدة أو سلكوا طرق التهريب المتعددة”.

يلخص (و.ت) الواقع الحالي للوجود المسيحي في الموصل، وهو يقود كل يوم سيارته من دهوك باتجاهها كونه مازال موظفا في جامعتها، لكنه يفضل الاستقرار شمالا على بعد 60 كلم: “لم يرجع أي ممن أعرفهم، يخشون جميعا من ألف احتمال سيء. هذه مدينتنا التي ولدنا وكبرنا فيها وشكلت هويتنا، لا نحب أن نتركها لكننا مرغمون”.

في الجهة الشمالية للموصل، يشير إلى كنيسة ماركوركيس المبنية على تلة. ويقول بأسف “إنها مغلقة، لم يعد هناك مصلون في الأحياء القريبة لزيارتها”. ويمضي بسيارته الى الجانب الأيمن المدمر من المدينة، يقترب من موقع (كنيسة الساعة) التي يتم ترميمها، ويردد “لا أعرف أحدا عاد الى المدينة القديمة التي لم يكن يكاد حي واحد يخلو من وجود مسيحيين فيها”. 

ميليشيات خلفاً لداعش

الباحث في الشأن العراقي، ياسر بختيار زكي يربط عدم عودة الكثير من المسيحيين بعد تحرير مناطقهم من داعش بين2016-2017 بوجود ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية في سهل نينوى وفرض سلطتها المطلقة على المكان بدلاً من قوات البيشمركة الكردية التي انسحبت في 2014.

بطريرك الكلدان الكاثوليك، الكاردينال لويس روفائيل ساكو، أعرب عن قلقه حيال مستقبل الوجود المسيحي في العراق، وقال بأنهم وبعد ثماني سنوات من تهجيرهم من مناطقهم، يشعرون بالخيبة والافتقاد للحد الأدنى من المواطنة.

وهذا ما دفع وفقا لما ذكره إلى نزوح عكسي لعائلات كانت قد عادت منذ فترة وجيزة بعد سنوات من النزوح، وتساءل الكاردينال:”هل ستتغير النظرة الى المسيحيين؟ هل سيتم الاعتراف بهم كمواطنين متساوين، وهم يشكّلون ثاني ديانة سماوية في العراق؟ هل سيُنصَفون بعد كل هذه المضايقات والانتهاكات؟ هل أن مشروع الإصلاحات السياسية والتشريعية والمؤسساتية التي دعت إليها كتلة سماحة السيد مقتدى الصدر وحكومة إقليم كردستان، وكتل أخرى ستشمل المسيحيين والايزيديين والصابئة المندائيين، سكان البلاد الأصليين الذين ولاؤهم للعراق، حتى الذين تركوه مرغمين”.

ساكو يقول بتوضيح أكثر: “المسيحيون يعيشون حالة من الإحباط بسبب قوانين الأحوال الشخصية المُجحِفة كأسلمة القاصرين، وأسلمة أشخاص اُكرهوا على الإسلام من قبل القاعدة أو تنظيم داعش تحت التهديد بالقتل”.

ويستدرك: “من يحمي المسيحيين المسالمين الموالين لوطنهم، اذا الدولة لا تحميهم؟ هذه انتهاكات موجعة، ولها تداعيات على سمعة العراق؟  وبكل ألم أقول: ان كنت لا ترغبون في بقائنا مواطنين متساوين في بلدنا العراق، فقولوا لنا صراحةً، لندبِّر الأمر قبل فوات الأوان”.

تترجم الوقائع على الأرض ذلك الاحباط، ففي الموصل مركز محافظة نينوى يذكر القس رائد عادل مسؤول كنائس الموصل للسريان الكاثوليك أن 60- 70 عائلة مسيحية فقط، تضم أقل من 150 فرداً، عادت إلى المدينة بعد تحريرها بالكامل في تموز/ يوليو 2017.  

ويشير القس رائد عادل إلى أن في الموصل 35 كنيسة ودير، وقد تم تدميرها جميعاً كلياً او جزئياً خلال فترة سيطرة داعش أو في حرب التحرير منه، وتم إعادة إعمار العديد منها، وأخرى قيد الإعمار حالياً، مبينا أن كنائس (البشارة ومار توما ومار بولص) تفتح أبوابها وتستقبل المسيحيين القادمين من خارج الموصل وداخلها لتأدية طقوسهم فيها.

يقول فادي صباح، وهو موظف حكومي في الأربعينات من عمره، ويتابع باهتمام تراجع أعداد المسيحيين في البلاد: “إذا كان اندثار الوجود المسيحي غير قابل للملاحظة في بغداد أو حتى الموصل، رغم أن أحيائهم فرغت وكنائسهم باتت بلا مصلين، فإن الأمر واضح تماما في بلداتهم التاريخية بسهل نينوى”.

يشير بأصبعه على خارطة انتشارهم عبر جهاز الحاسوب، ويتابع: “حين تزورها تجدها شبه فارغة، بيوت مغلقة الأبواب وأسواق مهجورة، وأحياء كاملة بلا أمهات يفترشن عتبات المنازل كما كانت تجري العادة ولا أطفال يلعبون في الأزقة”.

ويتابع، بينما يسحب صورا من درج مكتبه:”الأمر لا يتعلق بنينوى فقط، أنظر الى هذه الصور لأحياء مسيحية في دهوك وزاخو، لقد فرغت بدورها، رغم الاستقرار الأمني ونوعا ما الاقتصادي”. تأخذه لحظة شرود ثم يقول بتردد:” كل يوم هناك مسيحيون يهاجرون ولا أحد يعود.. لن يكون لنا وجود هنا بعد سنوات”. 

“الإيزيديون” عمليات القتل وجرائم الإبادة

قبل سقوط النظام العراقي السابق في 2003 كان نحو 550 ألف إيزيدي يعيشون في العراق، موزعين في أقضية الشيخان ، وسنجار، وبعاج ، وفي ناحية بعشيقة بنينوى، وكذلك في اقليم كردستان. 

وهم يعتنقون ديانة توحيدية خاصة بهم غير تبشيرية، ويحجون إلى مرقد الشيخ (عادي) في منطقة عين سفني 60كم  شمال الموصل، تعاملت معهم الجماعات الدينية المسلحة التي نشطت في العراق بعد 2003 على أنهم كفار، واغتالت الكثيرين منهم مما أدى إلى انكفائهم في بلداتهم، فضلاً عن مدن أقليم كردستان، بعد أن تركوا أعمالهم وممتلكاتهم في باقي المدن العراقية.

الباحث المتخصص في شؤون الأقليات مناف رؤوف، يقول بأن تنظيمات القاعدة وأنصار الإسلام كانت تخطف وتقتل الإيزيديين بفتاوى دينية، ففي 14 آب أغسطس 2007 شهد مجمعا تل عزير وسيبا شيخ خدر الايزديين بسنجار انفجارات بشاحنات مفخخة أسفرت عن مقتل 796 إيزيدياً وجرح 1562 شخصاً، ما عد أكبر هجوم دموي في العراق، وسبق ذلك في نيسان ابريل من العام ذاته، عملية قتل21 ايزيديا من عمال مصنع النسيج بالموصل، من قبل مجموعة مسلحة ارغمت العمال على الترجل من حافلات كانت تقلهم الى مناطق سكنهم في بعشيقة (20 كلم شرق الموصل) واطلقت النار عليهم، ما خلق رعبا هائلا في صفوف الايزيديين بالموصل ودفع غالبيتهم لترك المدينة. 

يضيف مناف، أن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق الذي تم الإعلان عنه في 2006، قبل أن يتحول إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام في 2009 ويعرف لاحقا بـ(داعش)، انتهج السياسة ذاتها، وهاجم مناطق الايزيديين في آب/أغسطس 2014 وارتكب مذابح بحقهم. 

ويتابع: “كانت الجماعات التكفيرية صاحبة السطوة الكبرى، تتحرك بحرية وتختار ضحاياها وتنفذ أحكامها بهم في وسط المدن. بعض الجثث كانت تبقى لأيام على الأرصفة، لأن عناصر القاعدة وبعدها الدولة الإسلامية كانوا يضعون عبوات ناسفة تحت تلك الجثث ويفجرونها بمجرد وصول قوات الأمن العراقية أو الأمريكية أو سيارات الإسعاف”. 

وفي 3 آب/أغسطس 2014، هاجم مسلحو داعش مدينة سنجار، وكما حدث لدى سيطرة التنظيم على الموصل بعد انسحاب القوات العراقية وتسليمها المناطق التي كانت تسيطر عليها دون قتال، انسحبت قوات البيشمركة التي كانت تسيطر على المنطقة، ولم يجد عناصر التنظيم أمامهم سوى المدنيين الايزيديين. 

لجأ القادرون على الفرار إلى جبل سنجار، ووصل غالبيتهم بعد أسابيع وعبر طرق خطرة إلى مخيمات النزوح في اقليم كردستان التي استقبلت 139.719 ألفاً منهم.

تشير إحصائيات مكتب إنقاذ المختطفين الايزيديين المؤيدة من قبل الأمم المتحدة إلى أن (1293) إيزيدياً قتلوا لدى الاجتياح الداعشي لسنجار. وبلغت أعداد المختطفين (6417)، غالبيتهم من الإناث، تم تحرير 3530 منهم لغاية 2022، وبقي مصير 2887 مجهولاً. وبلغت أعداد الأيتام (2745) طفلاً.

“إذا كان اندثار الوجود المسيحي غير قابل للملاحظة في بغداد أو حتى الموصل، رغم أن أحيائهم فرغت وكنائسهم باتت بلا مصلين، فإن الأمر واضح تماما في بلداتهم التاريخية بسهل نينوى“.

صراعات سنجار وتغيير ديموغرافية الشيخان

في العام 2022 أغلقت وزارة الهجرة والمهجرين العراقية، غالبية مخيمات النازحين في عموم مناطق العراق لكنها أبقت على مخيمات الايزيديين في أقليم كردستان بسبب عدم تمكنهم من تركها والعودة إلى مناطقهم في سنجار على الرغم من مرور أكثر من سبع سنوات على تحريرها. ويؤكد مسؤولون ايزيديون ان ثلثي نازحي سنجار لم يعودوا، فيما تقول منظمة الهجرة الدولية أن أكثر من 193 الف من سكان المنطقة عموما مازالوا نازحين.

يعدد الباحث عادل كمال أسباباً عدة لامتناع الغالبية العظمى من النازحين الإيزيديين من العودة إلى مناطقهم “عدم التزام الحكومة المركزية في بغداد بإعمار مناطقهم المدمرة، ووجود صراع بين ميليشيات وقوات مسلحة متعددة الولاءات تنتشر في سنجار، غياب الخدمات وعدم توفر فرص اقتصادية لتأمين معيشتهم، وهي بمجملها دفعت الكثير من الايزيديين للهجرة”.

تكشف منظمات ايزيدية عن هجرة نحو 120 الف ايزيدي الى اوربا خلال السنوات التسع الأخيرة. هؤلاء أصبحوا محط آمال أقربائهم من النازحين في اللحاق بهم عن طريق لم الشمل أو بطرق الهجرة غير شرعية. 

لكن الباحث الإيزيدي حسو هورمي، يقدم أسباباً أخرى لعدم عودة الايزيديين الى مناطقم التاريخية، بقوله: “الابادة بحق الإيزيديين مستمرة لحد الان، إذ أن هناك أكثر من 2800 مختطفا مجهول المصير، كما ان مناطق الايزيديين لا تدار من قبلهم وهم يطالبون بإدارة ذاتية لها، الى جانب غياب دور المرجعية الايزيدية في تشجيع  الناس على العودة، والمشاكل السياسية بين الايزيديين أنفسهم، وافتقار مناطقهم في سنجار إلى المستشفيات والمدارس والمعاهد والكليات كما فرص العمل، وهي متوفرة في اقليم كردستان مقارنة بمناطقهم، لذا فخيارهم هو البقاء في المخيمات”.

ويقول بأن :”85% من الإيزيديين يعيشون في مخيمات يحيط بها فقدان الثقة بالآخر وضياع الانتماء، ولسان حالهم -الإيزيديون مشروع قتل طالما بقوا في العراق- لذا فتفكيرهم منصب دائما نحو الهجرة”.

ويشترط هورمي، الذي يترأس المؤسسة الايزيدية لمناهضة الإبادة الجماعية، لتغيير ذلك التوجه للفرد الايزيدي “بتعاون الدول الصديقة الإقليمية والعربية وإقناع الأمم المتحدة بإعادة تأهيل المنطقة بطريقة منظمة، ابتداءً من الإنسان وصولا إلى البنية التحية”.

ويعتقد بأن وقوع الإيزيدي تحت كل تلك الضغوط والمشاكل تسبب بالكثير من العلل الاجتماعية مثل “تكرر حالات الانتحار وبروز ظاهرة الزواج المبكر، وتزويج القاصرات”.

كل أسباب عدم العودة تلك تتركز في سنجار(غربي نينوى) ومجمعاتها التي كانت تحتضن أكثر من 200 الف ايزيدي، لكن ثمة أسباب أخرى لعدم العودة الى ناحية بعشيقة وبحزاني شمال شرقي نينوى، على رأسها مخاوف التغيير الديموغرافي الحاصل هناك، كما يشير الكاتب الايزيدي خدر خلات بقوله: “المناصب الرسمية في اغلب الدوائر الحكومية باتت بأيدي غير السكان الاصلاء، والتغلغل الخطير في شراء الأراضي الزراعية والسكنية في المحيط القريب من بعشيقة وبحزاني، من قبل مكونات أخرى، يرسم معالم التغيير الديموغرافي القادم.”

ويلفت إلى أن “المخاوف تدفع العديد من السكان الايزيديين الى بيع أو تأجير منازلهم التي تقع في أطراف المدينتين كي يشتروا او يستأجروا منازل في عمق البلدة، وهي عملية هروب وتحصن بالمجتمع الأصلي، لكن آخرين يفضلون الهجرة بعيدا”.

وتسيطر قوات اللواء 30 الشبكية الشيعية التابعة للحشد الشعبي على سهل نينوى، وهي متهمة بإحداث تغيير ديموغرافي في المنطقة بمنع أصحاب العقارات من غير الشبك أو سكان السهل من استغلالها أو التصرف بها، وهو ما ينفيه قياديو اللواء، ويقولون بأنه متوافق مع القانون العراقي، وتم اتخاذه لمنع التغيير الديموغرافي في المنطقة التي تسكنها أغلبية شبكية.

معالم التغيير الديمغرافي في المناطق التاريخية لانتشار الايزيديين واضحة، كما يقول (د. م) وهو صحفي من أبناء المنطقة، فحتى في قضاء الشيخان (60 كلم شمال الموصل) والتي تعد تاريخيا مركز الامارة الايزيدية، والذي كان قبل عقود منطقة ذات غالبية ايزيدية فضلا عن وجود مسيحي حيث تنتشر أبرز المزارات الايزيدية (شيخ شمس، شيخ حنتوش، وشيخ عدي) فضلا عن عدة كنائس تاريخية، أصبح اليوم ذو غالبية مسلمة مع تزايد عدد الكرد. وباتت المنطقة في السنوات الأخيرة تشهد إقبالا من قبل الشبك الذي يشترون أراض فيها بحكم قوتهم الاقتصادية.  

الشبك والسلاح لحماية أنفسهم

الشبك أقلية عراقية مسلمة يبلغ تعدادها التقديري بين 400 الى 450 الف نسمة. يتكلمون اللغة الشبكية، يتبع نحو 70% منهم المذهب الجعفري الاثني عشري و30 % الآخرون هم من السنة.

وللشبك الشيعة العديد من المزارات الدينية المقدسة في سهل نينوى، وهي مزارا الإمامين رضا والعباس، ومقام الإمام زين العابدين، والتي فجرها عناصر تنظيم داعش في أعقاب سيطرته على نينوى.

والشبك وبخلاف باقي الأقليات ليس لهم تواجد سوى في العراق، ويعيش غالبيتهم حسب الإعلامي يونس الأغا موزعين على أكثر من 60 قرية واقعة في ست وحدات إدارية بين أقضية تلكيف والموصل والحمدانية.

 وكانوا يسكنون في نحو 12 حياً سكنيا في الجانب الأيسر من مدينة الموصل، لكن وبسبب الاستهداف المتكرر لهم، من قبل عناصر القاعدة وأنصار الإسلام ومن بعدهما تنظيم الدولة الإسلامية بسبب انتمائهم لطائفة الشيعة في السنوات 2004 و2005 و2006 اضطر الكثير منهم للنزوح نحو القرى في سهل نينوى.  

مع هجوم داعش على مناطقهم بسهل نينوى في حزيران/يونيو 2014 نزح الشبك الشيعة نحو إقليم كردستان، واستولى عناصر التنظيم على أملاكهم المنقولة وغير المنقولة.

ويرى يونس الأغا بأن الشبك مهمشون ومستبعدون عن أي منصب تنفيذي وفقاً “للمحاصصة المتبعة في البلاد”. ويقول:” ليس لدينا وزير ولا وكيل وزارة ولا مدير عام، لا سفير، لا قائد فرقة عسكرية، ولا حتى ممثل في محافظة نينوى، وعلى مايبدو نحن مواطنون درجة ثانية، هذا إذا اعتبرونا مواطنين!” .

هنالك خلاف بين الباحثين بشأن أصل الشبك، فالبعض يعدهم كرداً، وآخرون يعدونهم عربا، وفريق ثالث ينسبهم للتركمان، وآخر إلى إيران على أنهم من بقايا نادر شاه لدى محاولته الفاشلة للسيطرة على الموصل سنة 1743.

الكاتب والمؤرخ عزيز هاني خضر، يقول بأن الشبك، منقسمون قومياً بين الكرد والعرب، وطائفياً بين الشيعة والسنة. ويضيف: “بعد 2003، أصبحوا هدفاً للجماعات المسلحة، التي اغتالت العشرات منهم  وفجرت شاحنات في عدد من قراهم، وفي 2014 نزح عدد كبير منهم إلى المدن الشيعية في الجنوب كالنجف وكربلاء، والسنة منهم صوب إقليم كردستان”.

مقام زين العابدين

بعد تحرير سهل نينوى من داعش في 2016، عاد الشبك الشيعة إلى قراهم، لكن مع تصميم بعدم السماح بتكرار ماحدث لهم، وتولى عضو مجلس النواب الراحل د.حنين قدو، قيادة اللواء 30 التابع للحشد الشعبي الذي يضم مقاتلين غالبيتهم من الشبك الشيعة، يزيد عددهم غت 1500 مقاتل.

وناب عنه بعد وفاته في ديسمبر/كانون الثاني 2020  شقيقه وعد قدو، الذي يحمل الجنسية الألمانية، وقد أدرجته وزارة الخزانة الأمريكية في 19 تموز 2019 ضمن اللائحة السوداء وفرضت عليه عقوبات بعد اتهامه بملفات تتعلق بانتهاكات لحقوق الإنسان، من بينها قمع الأقليات.

الباحث جرجيس توما، يقول بأن قوات البيشمركة كانت تسيطر على سهل نينوى قبل 2014 حين سيطر عليه تنظيم داعش، وعادت إليه بعد تحريره في 2016، لكنها تركته مجددا في تشرين الثاني/أكتوبر 2017 ليتولى الحشد الشعبي زمام الأمور هناك، واللواء 30 جزء منه.

ويرى توما ان مهمة ذلك اللواء تتلخص بحماية الشبك وقراهم من أي استهداف، الى جانب عدم السماح بأي شخص من خارج سهل نينوى بتملك عقارات او استغلال او التصرف بعقارات يملكها في سهل نينوى. 

حتى أن قائد اللواء 30 وعد القدو، منع في 2022  بلدية الموصل من توسيع التصميم الأساسي للمدينة باتجاه سهل نينوى المجاور، متذرعاً بمنع أي تغيير ديموغرافي يحصل على حساب الشبك. 

ويشير توما، إلى أن اللواء 30 “يحمي نفوذا إيرانيا في سهل نينوى، وتم افتتاح مدرسة ابتدائية في ناحية برطلة تحمل اسم الزعيم الإيراني الراحل الخميني، وأن آمر فوج في اللواء يدعى حسن السلطان هو ممثل الزعيم الإيراني خامنئي في سهل نينوى”.

عميد الشرطة المتقاعد غازي فواز، يرى بأن من حق الشبك حماية أنفسهم، ويقر بأنهم تعرضوا للكثير من المآسي منذ 2003، لكنه يحذر من أن السياسة التي ينتهجها قادة اللواء 30 ستضر مستقبلاً بالشبك. 

ويوضح:”الشبك مسالمون، وعلاقاتهم كانت طيبة مع أهالي مدينة الموصل، لكنها اليوم تشهد توتراً بسبب استحواذهم على بعض الوظائف العامة الحساسة، والممارسات التي يقوم بها عناصر اللواء بمنع آلاف المواطنين من استغلال عقاراتهم الموجودة في سهل نينوى، واستيلائهم على عقارات تعود إلى مسيحيين، وهو ما سينعكس على الشبك عموماً بنحو سلبي بمجرد زوال قوة الحشد الشعبي “.

الناشط الشبكي ربيع يحيى محسن، ينفي أن يكون للشبك نوايا عدوانية تجاه أي مكون آخر، ويقول:”كل ما نريده هو أن نعيش بسلام، وأن لا نستيقظ على أصوات التفجيرات ونفجع بقتل أبنائنا بدون سبب”.

ويرى الصحفي (د. م) ان الشبك بخلاف باقي الأقليات العراقية، حافظت على وجودها في مناطقها بل توسعت، ولم تواجه مشكلة هجرة أبنائها كباقي المكونات، وان النزوح الذي حصل للشيعة منهم الى جنوب البلاد وخاصة الى النجف وكربلاء في 2014 زاد من قوتهم وحضورهم السياسي والميداني في نينوى.

“الكاكئية”: عدم اعتراف واستهدافات متكررة

الكاكئية أو “يارسان” ويعرفون في إيران بـ”أهل حق”، معتقد ديني منتشر في دول عدة بالشرق الأوسط كإيران والعراق، قومياً يرتبطون بالكرد، لكن لديهم معتقدهم الديني الخاص وهم ليسوا مسلمين كما يعتقد البعض في العراق، بسبب محاولتهم الدائمة الانصهار بمحيطهم خوفاً من الاستهداف.

وكما هو الحال بالنسبة لباقي الأقليات، لا توجد إحصائية دقيقة بشأن أعداد الكاكئية الموجودين في العراق، لكن مصادر غير رسمية قدرت أعدادهم بنحو 120 ألفاً وهم متواجدون بحسب الناشط رجب عصمت كاكئي في ديالى وكركوك ونينوى والسليمانية وبغداد. 

ولفت رجب إلى أن الكاكئية أو اليارسانية هي ديانة توحيدية تؤمن بإله واحد وبأزلية الروح وتجسدها في شخصيات مختلفة (سفر الروح) يصومون ثلاثة أيام ولديهم صلاتان واحدة عند الفجر والأخرى عند الغروب، ويحجون إلى مرقد سلطان إسحاق في قرية رديور في هورمان لهون، داخل إيران قرب الحدود العراقية.

ولدى الكاكئية عدة مزارات في العراق أبرزها وأقدسها (سيد هياس) ويقع في قرية وردك شرقي مدينة الموصل، فجره عناصر تنظيم القاعدة في أواخر سنة 2004، فتم إعماره لاحقا، ليقوم عناصر تنظيم داعش بتفجيره مجدداً في حزيران/يونيو 2014، وبني مجدداً وافتتح في أواخر 2019.

مزار سيد هياس

واجه الكاكئيون طوال 19 عاما، خاصة في قرى محافظتي كركوك وديالى التي تشكل مناطق نزاع بين حكومتي بغداد واربيل، عمليات استهداف متكررة بسيارات مفخخة وهجمات مسلحة وعمليات قتل وخطف، من قبل جماعات تكفيرية، ما اضطرهم الى ترك العديد من قراهم التي لم يستطيعوا حمايتها في ظل عدم امتلاكهم لمليشيات مسلحة، متجهين الى المدن الكردية التي اندمجوا فيها اجتماعيا وثقافيا.

يعبر رجب، عن قلقه العميق حيال مستقبل معتنقي الديانة الكاكَئية، بسبب: “عدم الاعتراف بها في الدستور العراقي وعدم قبول ديانتهم وثقافتهم الخاصة، وكذلك التهديدات الأمنية بسبب وجود بقايا مسلحي تنظيم داعش قرب قراهم، الى جانب المشاكل المستمرة بين بغداد وأربيل بشأن ادارة مناطقهم، وهذه الأسباب تدفعهم الى النزوح، أو التصنع بأنهم مسلمون حفاظا على أرواحهم”.

وأكد سعي الكاكئية للحصول على التمثيل في الحكومات المحلية أو مجلس النواب العراقي، لخلق التأثير والضغط الضروري لحمايتهم وحفظ هويتهم، غير أنه يستدرك :”لكن أولاً علينا الحصول على الاعتراف بوجود الديانة الكاكَئية (يارسان)! “.

وهذا الاعتراف صعبٌ جداً، كما يقول المؤرخ عبد الهادي الشكيب، الذي يؤكد بأن الأقليات التابعة للديانات “غير السماوية” والتي ينظر إليها على أنها كافرة “ليس فقط من قبل السلطات الحاكمة، بل أيضاً من قبل المجتمع المحيط”.

ويوضح “تعقد الأمر بعد 2003، وتفاقم وضع هؤلاء حين ظهرت الجماعات التكفيرية المسلحة التي عملت على قتلهم وخطفهم بتهمة الكفر، وبهدف زرع الرعب الذي مكنها من فرض سطوتها على مناطقهم، ومن بينهم الكاكئية الذين دمرت قراهم ومزاراتهم في سهل نينوى وتم الاستيلاء على أملاكهم بعد 2014”.

وكنتيجة لذلك، يلجأ الكاكئيون إلى إخفاء معتقدهم ومزاولة طقوسهم الدينية بسرية تامة، ويتبعون ما يعرف بـ(التقية)أي عدم ممارسة طقوسهم علناً، لحماية أنفسهم من الاستهداف. لكن مع ذلك وبسبب مظهر رجالهم المميز بامتلاكهم شوارب كثة، كان من السهل أن تستدل الجماعات المسلحة عليهم.

رجل من الطائفة الكاكئية

وقد تعرضت مناطق الكاكئية في السنوات التي أعقبت استعادتها من تنظيم داعش، لهجمات عديدة، حيث استغل التنظيم ضعف الانتشار الأمني فيها فشن هجمات أوقعت 16 قتيلا وفق مصادر كاكئية، وهو ما دفع ممثليهم للمطالبة بتشكيل قوة خاصة بهم او تكليف قوة مشتركة من الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم يحضون فيها بتمثل قوي لحماية مناطقهم، وهو ما لم يحصل إلى الآن.

إلى جانب ضعف الجانب الأمني، تواجه مناطق انتشار الكاكائية صراعا بين الكرد والعرب والتركمان بشأن عائدية الأراضي الزراعية، فضلا عن معضلة غياب الخدمات. 

ترك الكاكائية لمناطق انتشارهم وتوجههم للعيش في المدن الكبيرة يعني فعليا انصهارهم في المجتمعات التي يغلب عليها الطابع الإسلامي كديانة، والكردي كقومية، وذلك ينذر بمخاطر مستقبلية على وجود المكون، بحسب ما أسرت لنا شخصيات كاكائية بارزة تحدثت إلينا وطلبت عدم الاشارة الى اسمائها. 

الصابئة المندائيون اندثار قريب

الصابئة ديانة توحيدية كانت منتشرة في وسط وجنوبي العراق، يؤمن أتباعها بالتطهر بالماء وتتواجد امكنتها المقدسة التي تسمى (المندي) بالقرب من ضفاف الأنهر للتعمد فيها، ولديهم كتاب مقدس يسمى (كنزا ربا).

لا توجد إحصائية بشأن أعدادهم، لكن شخصيات تتبع الطائفة قدرت أعدادهم بنحو 100 ألف شخص قبل 2003. انخفض الرقم بنحو 80% في العقدين الأخيرين مع هجرة غالبيتهم نحو الدول الأوروبية هربا من الاستهدافات والتمييز المجتمعي، لتبلغ أعدادهم الحالية بين 15 و 20 ألف نسمة فقط.

خٌصص لهم مقعد واحد في البرلمان العراقي بنظام (الكوته) تنافس عليه ثمانية مرشحين في انتخابات عام 2021.

عدم وجود تعليم في المدارس العراقية او تثقيف بشأن طبيعة الديانات والمكونات العراقية، رسم صور وتصورات مغلوطة عن غالبيتها، وهو ما عانى منه الصابئة ايضا. فسوء الفهم داخل المجتمع حيال معتقدهم، فرض صورة خاطئة عنهم خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يتم اتهامهم بممارسة السحر، وهو ما ينفيه وبنحو قاطع زعيم الطائفة في العراق والعالم الشيخ ستار جبار الحلو، الذي يؤكد بأن ذلك محرم وفق معتقده.

ويدعو الحلو الجهات الأمنية والحكومية والشعبية لمنع ربط أسم الصابئة بأعمال السحر، ومحاسبة من يقومون بذلك لاستغلال الناس مادياً ومعنوياً مدعين أنهم من الصابئة، وهو ما يعود لنفيه وبشدة. 

الباحث الأكاديمي عبد الجبار غازي نوح، يقول بأن مثل هذه الاتهامات الموجهة للصابئة تهدد أمنهم وسلامتهم، وهو ما يدفعهم للهجرة حتى بات وجودهم مهدداً في العراق وهم الذين سكنوه منذ مئات القرون، وفق تعبيره.

ويبين نوح:”في وقت ضعفت فيه سلطة الدولة العراقية بعد احتلال البلاد من قبل القوات الأمريكية في 2003، لم يعد للأقليات الدينية من يحميها، وكثرت الشائعات بشأن معتقداتها، وهو ما استغلته الجماعات الدينية المسلحة سواءً الإرهابية كالقاعدة أو داعش أو الموالية للدولة لاستهدافها”.

ستار جبار الحلو حماية الأقليات وفرص البقاء

يرى باحثون أن الأقليات الدينية والعرقية مهددة بالزوال من أرضها التاريخية نتيجة هجرتها المستمرة، لأسباب عديدة بينها غياب دولة المواطنة على حساب دولة المحاصصة التي لا يساوى فيها الاقليات مع العرب أو الكرد وحتى التركمان، وفي ظل إهمالها من قبل الحكومات المتعاقبة واستهدافها من قبل الجماعات الدينية المتشددة.

لويس مرقوس أيوب، عضو مؤسس لتحالف الاقليات العراقية، يضع جملة من الشروط من أجل وقف هجرة الأقليات، وهي بتخصيص  الحكومة، صندوق إعمار خاص بمناطق الأقليات  لتعويضهم عما فقدوه من ممتلكات إثر غزو داعش في 2014، ومنح كوتا الأقليات حق النقض (الفيتو) على ما يقره مجلس النواب من قوانين وقرارات تمس حقوقهم الدينية والثقافية واللغوية والفكرية .

وأن يتولى أبناء الأقليات من المنتسبين في صفوف الجيش والشرطة العراقيين الملف الأمني في مناطقهم وليس قوات الحشد الشعبي أو قوات تتبع أي جهة سياسية، وفقاً لتعبيره.

ويرى تحالف الأقليات، ضرورة منحهم شكلاً إدارياً (نوع من الإدارة الذاتية) يتيح لهم أن يكونوا مسؤولين عن إدارة مناطقهم، مع فتح قنوات للاستثمار فيها لأبنائهم ولمن هاجر منهم تحديداُ، 

وتحييد مناطق المسيحيين والايزيديين من مظاهر إقامة الشعائر الدينية الشيعية ومن بناء الحسينيات فيها، وتفعيل قانون التعويض للنقص في الملاكات الوظيفية للمسيحيين ليكون من أبنائهم حصراً كما نص القانون. وتعديل المادة 26 من قانون رقم 3 لسنة 2016 (قانون البطاقة الوطنية) التي يقول أيوب أن فيها تمييزاً خطيرا لغير المسلمين من المسيحيين والايزيديين والصابئة المندائيين، والتي تجبر الأطفال القاصرين ممن أسلم أحد ابويهم بأن يسجلوا مسلمين في السجل المدني، وكذلك تسمح لغير المسلم من تغيير دينه، ولا تسمح للمسلم بذلك.

إلى جانب تشريع قانون المكونات وفق المادة الدستورية (125) والتي تنص على “يضمن هذا الدستور الحقوق الادارية والسياسية والثقافية والتعليمية للقوميات المختلفة كالتركمان، والكلدان والآشوريين، وسائر المكونات الاخرى، وينظم ذلك بقانون”.

ويشك أيوب بعودة الأقليات المهاجرة أو في الأقل التقليل من هجرتهم إلا بتحقيق هذه الشروط، ونتيجة استمرار التطرف في العراق تجاه غير المسلمين بنحو عام، وحتى ضد المسلمين السنة “بسبب هيمنة الأحزاب الراديكالية الإسلامية الشيعية الموالية لنظام ولاية الفقيه الايراني”. وفقاً لتعبيره.

وينبه الباحث عادل كمال، إلى ضرورة تفعيل الاتفاقيات الأمنية بين حكومتي بغداد وإقليم كردستان لكون معظم الأقليات تتواجد في المناطق التي تعرف بالمتنازع عليها بينهما، ومن بين تلك الاتفاقيات ما يتعلق بسنجار والتي وقعت في تشرين الأول أكتوبر 2020 وعرفت باتفاقية إعادة الاستقرار وتطبيع الأوضاع في سنجار، والتي لم تنفذ لغاية اليوم. 

لأن من شأن تنفيذها وفقاً لكمال، أن :”تقنع النازحين بالعودة ووقف هجرة الإيزيديين، فضلاً عن إعادة بناء المنطقة التي مازالت حركة الإعمار فيها مشلولة بسبب تعدد القوى المسلحة والصراع والانقسام السياسيين فيها” .

ويدعو كمال، إلى عدم تغليب أقلية على حساب أخرى في سهل نينوى، ويقول:”من الواضح أن الشبك الشيعة بأغلبيتهم، يحظون بدعم كبير من قبل الحكومة العراقية، وذلك من خلال السماح لهم بامتلاك ميليشيا مؤلفة من أبنائها، وتفرض سلطتها المطلقة على سهل نينوى على حساب الأقليات الأخرى الساكنة فيه كالمسيحيين والايزيدية والكاكئية”.

• أنجز هذا التحقيق تحت إشراف شبكة نيريج، وبدعم من “صندوق دعم التحقيقات في شمال إفريقيا وغرب آسيا”