fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

محنة الحريري وضرورة لبننة السياسات الإسلامية في لبنان

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تُعيدنا استقالة الرئيس سعد الحريري والأزمة التي أثارتها إلى الزعامة المسلمة في لبنان في بنيتها وتكوينها. ذاك أن المُقوّم الأول لهذه الزعامة كان العامل الخارجي، على العكس من الزعامات المارونية والدرزية التي استمدت مقوّمها الأول من علاقاتها المحلية في جبل لبنان.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تُعيدنا استقالة الرئيس سعد الحريري والأزمة التي أثارتها إلى الزعامة المسلمة في لبنان في بنيتها وتكوينها. ذاك أن المُقوّم الأول لهذه الزعامة كان العامل الخارجي، على العكس من الزعامات المارونية والدرزية التي استمدت مقوّمها الأول من علاقاتها المحلية في جبل لبنان.
وهذا لا يعني أن الذين تعاقبوا على زعامة الموارنة والدروز تجردوا من العلاقات مع القوى الأجنبية، فمثل هذا التجرد غير ممكن من حيث المبدأ. لكن الزعامات تلك نبعت أولويتها من صلة الجمهور الجبلي، جمهور المتصرفية، بفكرة لبنان – الوطن، ومن كون الموارنة تحديداً قاعدة هذه الفكرة والمدافعين عنها في مواجهة مشاريع الدمج في “أمم” أكبر. وقد وجد الارتباط هذا ما يعززه في المناخ الدولي والإقليمي الهادىء نسبياً، في الفترة الفاصلة بين انتهاء المنافسة العابرة بين البريطانيين والفرنسيين على مواقع النفوذ إثر الحرب العالمية الأولى واندلاع الحرب الباردة.
مع هذا، كانت فترات الصدام المفتوح بين الموارنة والدروز، ثمّ بين المسيحيين والمسلمين، تقوّي العنصر الخارجي في تكوين الزعامة الجبلية: هذا ما حدث مع تدخل الدول الأوروبية في ستينات القرن التاسع عشر، ثم مع التنازع الشمعوني – الجنبلاطي في الخمسينات، حين طالب كميل شمعون بالتدخل الأميركي المباشر بعد التصاق كمال جنبلاط بالناصرية، ليتكرر في السبعينات، باندماج جنبلاط في مشروع الثورة الفلسطينية قبل اندماج بشير الجميل في مشروع إسرائيلي مقابل.
والواقع والتجربة يقولان إن كل تصدع يصيب علاقات الطوائف في ما بينها إنما يعزز العنصر الخارجي على الداخلي في تكوين الزعامات السياسية، وهو ما يسري على الطوائف والزعامات جميعاً من دون استثناء.
لقد انتقلت الزعامة الشيعية، مع موسى الصدر، من نطاقها المفتّت مناطقياً، ومن ثنائية الجنوب – البقاع، إلى السوية الوطنية. إلا أنها كانت أيضاً، وفي الوقت نفسه، محاولة شيعية لبناء الزعامة على قاعدة داخلية. هكذا صرف “الإمام” جهداً كبيراً في الانفتاح على المسيحيين ومحاورتهم قبل أن يصطدم بالجدار الذي مثله وصول سليمان فرنجية إلى رئاسة الجمهورية في 1970. وإذ أجهض هذا الأخير، برفضه مطالب الصدر المتواضعة، لبنانية المحاولة وإصلاحيتها، فإنه فتح لها طريق الرهان على السلاح بمصدريه الفلسطيني والسوري. وكان الجوّ الملبد لأوائل السبعينات وأواسطها (المقاومة الفلسطينية، التنازع الأهلي، الضربات الانتقامية الإسرائيلية وما تسببه من نزوح…) عاملاً مشجّعاً على انتقال الصدر من الأخذ بأولوية الداخل إلى الأخذ بأولوية الخارج. أما بعد خطفه في ليبيا، ثمّ قيام الثورة الإيرانية ونشوب الحرب العراقية – الإيرانية، وأخيراً غزو 1982 الإسرائيلي، فعبّر “حزب الله” عن الغلبة الكاسحة للخارجيّ، على شكل التحاق وذوبان بإيران وأهدافها.
إلا أن تجربة السنّة أعقد من ذلك وأقدم وأطول. وقد يجوز القول إن رياض الصلح هو من رمز، أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات، إلى زعامة سنية على نطاق وطني. وقبل ربع قرن على ما فعله الصدر محكوماً بالنوايا ذاتها، اهتم الصلح بمحاورة المسيحيين وطمأنتهم إلى أن “العرب” لا يضمرون السوء للبنان، في مقابل طمأنة أصدقائه القدامى في الحركة الوطنية السورية إلى أن لبنان لا يشكل خطراً على “العروبة” أو تهديداً لها.
لكن ما فعله الصلح اختلف عن العملين التأسيسيين الآخرين، الماروني – الدرزي قبله، والشيعي بعده. فالصدر تحول إلى مُعبّر عن الأكثرية العددية في كافة الأقضية الشيعية، وبدورهم كان زعماء الموارنة والدروز زعماء طوائفهم، أقلّه في أقضيتهم. لكن الصلح – الذي ارتبط صعود عائلته السياسي بدورها في الإدارة – لم يكن الزعيم الشعبي الأول للسنّة في أيٍ من أقضيتهم.
هكذا بقي عمله التأسيسي أقرب إلى مهمة ثقافية وإعلامية تفتقر إلى امتدادها الشعبي، وهو ما اختلف أمره مع الزعامات السنية الأخرى الأشد ارتباطاً بتمثيل قضاء معين، كعبد الله اليافي وصائب سلام في بيروت، ورشيد كرامي في طرابلس.
وكان من الطبيعي، بفعل العلاقات التاريخية، التجارية والقرابية والسياسية، التي ربطت سنّة المدن بالداخل السوري، ومن ثم العربي، أن يزداد تعويل الزعماء المذكورين على الخارجي. فشعارات “الوحدة العربية” و”القومية العربية” و”تحرير فلسطين” كانت لا تزال تضجّ في المشرق العربي، أما لبنان نفسه، وعلى رغم محاولات رياض الصلح، فكان لا يزال يبدو كياناً نافراً وغريباً عند أغلبيات سنية مدينية واسعة. وكان للنزاع الشمعوني – الناصري في الخمسينات، والذي أحاطته أجواء الحرب الباردة، أن فاقم تلك المشاعر بقدر ما حرّض على الانحياز إلى جوار عربي موصوف بالقومية وبمعاداة الاستعمار. وليس مبالغةً أن يقال أن الزعامات الصغيرة في أحياء المدن وحاراتها (التي غالباً ما كانت تجد وسيلتها للحصول على دعم ما عربي) فرضت على السياسيين التقليديين جواً من المزايدة في إبداء الانتساب للعروبة والقومية من خلال دولها.
هكذا استعان كميل شمعون على الناصرية بسياسي سني بيروتي ضعيف، على رغم تاريخه المديد في العملين الإداري والسياسي، هو سامي الصلح. لكن الدعم السني الذي تحقق له إنما جاءه من الأطراف والأرياف (سليمان العلي في عكار، عبده عويدات في إقليم الخروب…).
وعلى مدى الستينات، كادت تنتصف الزعامة المدينية السنية بين صائب سلام ورشيد كرامي. فالاثنان شاركا في “ثورة 58” ضد شمعون، والمدعومة من “الجمهورية العربية المتحدة”، إلا أنهما افترقا بعد قيام العهد الشهابي: فسلام ما لبث أن تحول إلى أحد أبرز معارضي ذاك العهد المتحالف مع الناصرية، بحيث سلطت “الشعبة الثانية” والسفارة المصرية في بيروت معظم الزعماء الصغار للأحياء والحارات عليه. وقد أضاف ارتباط اسمه بـ “المقاصد الإسلامية” سبباً آخر لاصطفافه في خط المملكة العربية السعودية، يوم كان الملك فيصل الاسم العربي الأول في منافسته لعبد الناصر.
أما رشيد كرامي فشكل معظم حكومات العهد الشهابي، وأطولها عمراً، كما اعتُبر أحد أبرز المؤيدين للسياسات الناصرية في لبنان.
وقد استمر لاحقاً هذا الافتراق بينهما حيال “الحركة الوطنية” اللبنانية، وذيول الاجتياح الإسرائيلي للبنان، والوصاية السورية عليه.
وبدوره ترافق الانهيار الذي ضرب لبنان ابتداء بحرب السنتين، 1975-6، مع التعاظم الفلكي للثروة النفطية العربية، لا سيما السعودية، في موازاة ضمور الدور المصري بعد رحيل عبد الناصر ورئاسة أنور السادات.
ومن حصيلة هذين العاملين (انهيار لبنان ووقوعه في الحضن السوري، وتعاظم النفوذ المالي، ومن ثم السياسي، للسعودية)، ولدت زعامة رفيق الحريري.
صحيح أن الأخير لم يكن سابقة تحصل للمرة الأولى: فدائماً كان هناك سياسيون لبنانيون سنّة مقربون من السعودية، كسلام وحسين العويني الذي جمع ثروته أصلاً فيها، مثله في ذلك مثل رجال الأعمال والسياسي الدرزي نجيب صالحة.
لكن خصوصية الحريري متعددة الأضلاع: ذاك أن دوره إنما تصاحب مع تحول نوعي طرأ على دور المملكة الإقليمي ابتداء بأواسط السبعينات، ثم أن الثراء الذي حققه يفوق كثيراً غنى الأغنياء السابقين. وأهم مما عداه أن الحريري أبدى من الكفاءة السياسية ما جعله فعلاً يوحد أكثرية السنة اللبنانيين في مختلف محافظاتهم وأقضيتهم وراءه. بهذا بدا الحريري استثماراً سياسياً سعودياً فائق النجاح، يعادل نجاح إيران في استثمارها المسمى “حزب الله”. ولم يخل الأمر من بُعد رمزي وسياسي في آن معاً، هو حمل الحريري جنسية سعودية إلى جانب جنسيته اللبنانية.
بلغة أخرى، صارت السياسات المسلمة في لبنان محكومة بصراع بين طرفين يتماهى كل منهما تمام التماهي مع طرف خارجي قريب وبالغ التأثير وكثير الطموحات.
لا شك أن هناك اعتبارات ثلاثة على الأقل تجعل السعودية والحريرية أكثر قابلية من إيران و”حزب الله” للاندراج في لبنانية طبيعية وغير انقلابية:
– فالسياسة السعودية في لبنان لا تزجه في صراعات وحروب مصيرية كالتي تزجه فيها السياسات الإيرانية،
– كما أن “الاقتصاد السعودي الموازي” غير حربي، ولا تقتصر عوائده على طائفة وجماعة بعينهما، وهذا ما لا يصح في “الاقتصاد الإيراني الموازي”،
– وأخيراً فإن الثقافة التي تشيعها الحريرية، على ما فيها من استهلاكية متورمة، تبقى ظاهرة طبقية بقياس الظاهرة الطائفية – الدينية التي يرعاها “حزب الله” وتتجسد في طريقة حياة مضادة بثقافتها وتعليمها وقيمها.
لكن ذلك لا يعفي من الإقرار بأن الحكم الذي تقاسمه الطرفان بين اتفاق الطائف و2005 كان كارثي النتائج بقياس النجاح النسبي الذي تحقق في ظل “المارونية السياسية”. ولقد تعمدت كارثيته، في آخر المطاف، بدم الحريري نفسه.
أما بعد محنة سعد الحريري الأخيرة، فتتعاظم ضرورة التفكير بلبننة الزعامة المسلمة في لبنان. واللبننة المقصودة ليست تشدقاً بعبارات فارغة كـ “لبنان أولاً”، بل إعادة تأسيس تمنح الأولوية للمصادر الداخلية في السياسة وبناء الزعامة. وهذا ما قد يبدو صعباً بعد تاريخ شائك، ووسط نزاعات ومنافسات أهلية وإقليمية ضارية، لكنْ من دونه لن يستقيم نقد إيرانية “حزب الله” ولن يكون نقداً متماسكاً. وهذا فضلاً عن أن إقلاع لبنان نفسه (إذا كان لا يزال ممكناً) يظل مرهوناً بهذه اللبننة.  
[video_player link=””][/video_player]

20.11.2017
زمن القراءة: 6 minutes

تُعيدنا استقالة الرئيس سعد الحريري والأزمة التي أثارتها إلى الزعامة المسلمة في لبنان في بنيتها وتكوينها. ذاك أن المُقوّم الأول لهذه الزعامة كان العامل الخارجي، على العكس من الزعامات المارونية والدرزية التي استمدت مقوّمها الأول من علاقاتها المحلية في جبل لبنان.

تُعيدنا استقالة الرئيس سعد الحريري والأزمة التي أثارتها إلى الزعامة المسلمة في لبنان في بنيتها وتكوينها. ذاك أن المُقوّم الأول لهذه الزعامة كان العامل الخارجي، على العكس من الزعامات المارونية والدرزية التي استمدت مقوّمها الأول من علاقاتها المحلية في جبل لبنان.
وهذا لا يعني أن الذين تعاقبوا على زعامة الموارنة والدروز تجردوا من العلاقات مع القوى الأجنبية، فمثل هذا التجرد غير ممكن من حيث المبدأ. لكن الزعامات تلك نبعت أولويتها من صلة الجمهور الجبلي، جمهور المتصرفية، بفكرة لبنان – الوطن، ومن كون الموارنة تحديداً قاعدة هذه الفكرة والمدافعين عنها في مواجهة مشاريع الدمج في “أمم” أكبر. وقد وجد الارتباط هذا ما يعززه في المناخ الدولي والإقليمي الهادىء نسبياً، في الفترة الفاصلة بين انتهاء المنافسة العابرة بين البريطانيين والفرنسيين على مواقع النفوذ إثر الحرب العالمية الأولى واندلاع الحرب الباردة.
مع هذا، كانت فترات الصدام المفتوح بين الموارنة والدروز، ثمّ بين المسيحيين والمسلمين، تقوّي العنصر الخارجي في تكوين الزعامة الجبلية: هذا ما حدث مع تدخل الدول الأوروبية في ستينات القرن التاسع عشر، ثم مع التنازع الشمعوني – الجنبلاطي في الخمسينات، حين طالب كميل شمعون بالتدخل الأميركي المباشر بعد التصاق كمال جنبلاط بالناصرية، ليتكرر في السبعينات، باندماج جنبلاط في مشروع الثورة الفلسطينية قبل اندماج بشير الجميل في مشروع إسرائيلي مقابل.
والواقع والتجربة يقولان إن كل تصدع يصيب علاقات الطوائف في ما بينها إنما يعزز العنصر الخارجي على الداخلي في تكوين الزعامات السياسية، وهو ما يسري على الطوائف والزعامات جميعاً من دون استثناء.
لقد انتقلت الزعامة الشيعية، مع موسى الصدر، من نطاقها المفتّت مناطقياً، ومن ثنائية الجنوب – البقاع، إلى السوية الوطنية. إلا أنها كانت أيضاً، وفي الوقت نفسه، محاولة شيعية لبناء الزعامة على قاعدة داخلية. هكذا صرف “الإمام” جهداً كبيراً في الانفتاح على المسيحيين ومحاورتهم قبل أن يصطدم بالجدار الذي مثله وصول سليمان فرنجية إلى رئاسة الجمهورية في 1970. وإذ أجهض هذا الأخير، برفضه مطالب الصدر المتواضعة، لبنانية المحاولة وإصلاحيتها، فإنه فتح لها طريق الرهان على السلاح بمصدريه الفلسطيني والسوري. وكان الجوّ الملبد لأوائل السبعينات وأواسطها (المقاومة الفلسطينية، التنازع الأهلي، الضربات الانتقامية الإسرائيلية وما تسببه من نزوح…) عاملاً مشجّعاً على انتقال الصدر من الأخذ بأولوية الداخل إلى الأخذ بأولوية الخارج. أما بعد خطفه في ليبيا، ثمّ قيام الثورة الإيرانية ونشوب الحرب العراقية – الإيرانية، وأخيراً غزو 1982 الإسرائيلي، فعبّر “حزب الله” عن الغلبة الكاسحة للخارجيّ، على شكل التحاق وذوبان بإيران وأهدافها.
إلا أن تجربة السنّة أعقد من ذلك وأقدم وأطول. وقد يجوز القول إن رياض الصلح هو من رمز، أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات، إلى زعامة سنية على نطاق وطني. وقبل ربع قرن على ما فعله الصدر محكوماً بالنوايا ذاتها، اهتم الصلح بمحاورة المسيحيين وطمأنتهم إلى أن “العرب” لا يضمرون السوء للبنان، في مقابل طمأنة أصدقائه القدامى في الحركة الوطنية السورية إلى أن لبنان لا يشكل خطراً على “العروبة” أو تهديداً لها.
لكن ما فعله الصلح اختلف عن العملين التأسيسيين الآخرين، الماروني – الدرزي قبله، والشيعي بعده. فالصدر تحول إلى مُعبّر عن الأكثرية العددية في كافة الأقضية الشيعية، وبدورهم كان زعماء الموارنة والدروز زعماء طوائفهم، أقلّه في أقضيتهم. لكن الصلح – الذي ارتبط صعود عائلته السياسي بدورها في الإدارة – لم يكن الزعيم الشعبي الأول للسنّة في أيٍ من أقضيتهم.
هكذا بقي عمله التأسيسي أقرب إلى مهمة ثقافية وإعلامية تفتقر إلى امتدادها الشعبي، وهو ما اختلف أمره مع الزعامات السنية الأخرى الأشد ارتباطاً بتمثيل قضاء معين، كعبد الله اليافي وصائب سلام في بيروت، ورشيد كرامي في طرابلس.
وكان من الطبيعي، بفعل العلاقات التاريخية، التجارية والقرابية والسياسية، التي ربطت سنّة المدن بالداخل السوري، ومن ثم العربي، أن يزداد تعويل الزعماء المذكورين على الخارجي. فشعارات “الوحدة العربية” و”القومية العربية” و”تحرير فلسطين” كانت لا تزال تضجّ في المشرق العربي، أما لبنان نفسه، وعلى رغم محاولات رياض الصلح، فكان لا يزال يبدو كياناً نافراً وغريباً عند أغلبيات سنية مدينية واسعة. وكان للنزاع الشمعوني – الناصري في الخمسينات، والذي أحاطته أجواء الحرب الباردة، أن فاقم تلك المشاعر بقدر ما حرّض على الانحياز إلى جوار عربي موصوف بالقومية وبمعاداة الاستعمار. وليس مبالغةً أن يقال أن الزعامات الصغيرة في أحياء المدن وحاراتها (التي غالباً ما كانت تجد وسيلتها للحصول على دعم ما عربي) فرضت على السياسيين التقليديين جواً من المزايدة في إبداء الانتساب للعروبة والقومية من خلال دولها.
هكذا استعان كميل شمعون على الناصرية بسياسي سني بيروتي ضعيف، على رغم تاريخه المديد في العملين الإداري والسياسي، هو سامي الصلح. لكن الدعم السني الذي تحقق له إنما جاءه من الأطراف والأرياف (سليمان العلي في عكار، عبده عويدات في إقليم الخروب…).
وعلى مدى الستينات، كادت تنتصف الزعامة المدينية السنية بين صائب سلام ورشيد كرامي. فالاثنان شاركا في “ثورة 58” ضد شمعون، والمدعومة من “الجمهورية العربية المتحدة”، إلا أنهما افترقا بعد قيام العهد الشهابي: فسلام ما لبث أن تحول إلى أحد أبرز معارضي ذاك العهد المتحالف مع الناصرية، بحيث سلطت “الشعبة الثانية” والسفارة المصرية في بيروت معظم الزعماء الصغار للأحياء والحارات عليه. وقد أضاف ارتباط اسمه بـ “المقاصد الإسلامية” سبباً آخر لاصطفافه في خط المملكة العربية السعودية، يوم كان الملك فيصل الاسم العربي الأول في منافسته لعبد الناصر.
أما رشيد كرامي فشكل معظم حكومات العهد الشهابي، وأطولها عمراً، كما اعتُبر أحد أبرز المؤيدين للسياسات الناصرية في لبنان.
وقد استمر لاحقاً هذا الافتراق بينهما حيال “الحركة الوطنية” اللبنانية، وذيول الاجتياح الإسرائيلي للبنان، والوصاية السورية عليه.
وبدوره ترافق الانهيار الذي ضرب لبنان ابتداء بحرب السنتين، 1975-6، مع التعاظم الفلكي للثروة النفطية العربية، لا سيما السعودية، في موازاة ضمور الدور المصري بعد رحيل عبد الناصر ورئاسة أنور السادات.
ومن حصيلة هذين العاملين (انهيار لبنان ووقوعه في الحضن السوري، وتعاظم النفوذ المالي، ومن ثم السياسي، للسعودية)، ولدت زعامة رفيق الحريري.
صحيح أن الأخير لم يكن سابقة تحصل للمرة الأولى: فدائماً كان هناك سياسيون لبنانيون سنّة مقربون من السعودية، كسلام وحسين العويني الذي جمع ثروته أصلاً فيها، مثله في ذلك مثل رجال الأعمال والسياسي الدرزي نجيب صالحة.
لكن خصوصية الحريري متعددة الأضلاع: ذاك أن دوره إنما تصاحب مع تحول نوعي طرأ على دور المملكة الإقليمي ابتداء بأواسط السبعينات، ثم أن الثراء الذي حققه يفوق كثيراً غنى الأغنياء السابقين. وأهم مما عداه أن الحريري أبدى من الكفاءة السياسية ما جعله فعلاً يوحد أكثرية السنة اللبنانيين في مختلف محافظاتهم وأقضيتهم وراءه. بهذا بدا الحريري استثماراً سياسياً سعودياً فائق النجاح، يعادل نجاح إيران في استثمارها المسمى “حزب الله”. ولم يخل الأمر من بُعد رمزي وسياسي في آن معاً، هو حمل الحريري جنسية سعودية إلى جانب جنسيته اللبنانية.
بلغة أخرى، صارت السياسات المسلمة في لبنان محكومة بصراع بين طرفين يتماهى كل منهما تمام التماهي مع طرف خارجي قريب وبالغ التأثير وكثير الطموحات.
لا شك أن هناك اعتبارات ثلاثة على الأقل تجعل السعودية والحريرية أكثر قابلية من إيران و”حزب الله” للاندراج في لبنانية طبيعية وغير انقلابية:
– فالسياسة السعودية في لبنان لا تزجه في صراعات وحروب مصيرية كالتي تزجه فيها السياسات الإيرانية،
– كما أن “الاقتصاد السعودي الموازي” غير حربي، ولا تقتصر عوائده على طائفة وجماعة بعينهما، وهذا ما لا يصح في “الاقتصاد الإيراني الموازي”،
– وأخيراً فإن الثقافة التي تشيعها الحريرية، على ما فيها من استهلاكية متورمة، تبقى ظاهرة طبقية بقياس الظاهرة الطائفية – الدينية التي يرعاها “حزب الله” وتتجسد في طريقة حياة مضادة بثقافتها وتعليمها وقيمها.
لكن ذلك لا يعفي من الإقرار بأن الحكم الذي تقاسمه الطرفان بين اتفاق الطائف و2005 كان كارثي النتائج بقياس النجاح النسبي الذي تحقق في ظل “المارونية السياسية”. ولقد تعمدت كارثيته، في آخر المطاف، بدم الحريري نفسه.
أما بعد محنة سعد الحريري الأخيرة، فتتعاظم ضرورة التفكير بلبننة الزعامة المسلمة في لبنان. واللبننة المقصودة ليست تشدقاً بعبارات فارغة كـ “لبنان أولاً”، بل إعادة تأسيس تمنح الأولوية للمصادر الداخلية في السياسة وبناء الزعامة. وهذا ما قد يبدو صعباً بعد تاريخ شائك، ووسط نزاعات ومنافسات أهلية وإقليمية ضارية، لكنْ من دونه لن يستقيم نقد إيرانية “حزب الله” ولن يكون نقداً متماسكاً. وهذا فضلاً عن أن إقلاع لبنان نفسه (إذا كان لا يزال ممكناً) يظل مرهوناً بهذه اللبننة.  
[video_player link=””][/video_player]