شرع الجيش الإسرائيلي مؤخراً في شقّ محور جديد يفصل بين مدينتي رفح وخان يونس جنوب قطاع غزة، وأطلق عليه “محور ميراج”، وذلك بعد أن استكمل إخلاء مدينة رفح الحدودية مع مصر من سكّانها بالكامل، وسيطر عليها سيطرة تامّة، مقتطعاً بذلك نحو 20% من إجمالي مساحة القطاع البالغة نحو 360 كيلومتراً مربعاً.
منذ أن أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو يوم الأربعاء 2 أبريل/ نيسان الجاري، السيطرة على ما يُعرَف بـ”محور ميراج”، بوصفه امتداداً لمحور فيلادلفيا القديم الموجود على امتداد الحدود الفلسطينية المصرية، لم تهدأ حركة الدبّابات والجرافات العسكرية التي شرعت على الفور في تنفيذ المخطط، إذ أخذت تشقّ الطرق وتعدّ الأرض لبناء منشآت عسكرية، على غرار ما حدث في محور نيتساريم وسط القطاع.
يقع المحور الجديد على بعد نحو 8 كيلومترات من الحدود المصرية، وقد أدّى إلى عزل مدينة رفح التي تبلغ مساحتها 64 كيلومتراً مربعاً عن بقيّة القطاع، مما تسبّب في إخراج واحدة من أهم المناطق الزراعية من الخدمة، خاصّة وأن المنطقة معروفة بإنتاجها الوفير للخضروات مثل الطماطم والخيار والبصل والفلفل.
ويُعدّ “محور ميراج” رابع المحاور العسكرية التي يُقيمها الجيش الإسرائيلي داخل قطاع غزة، بعد كلّ من: محور فيلادلفيا الممتدّ على الحدود مع مصر، ومحور نيتساريم الذي يفصل شمال القطاع عن وسطه وجنوبه، ومحور مفلاسيم الذي كان من المُفترض أن يفصل شمال غزة عن مدينة غزة، إلا أن الجيش الإسرائيلي تراجع عنه في المرحلة الراهنة.
تهدف هذه المحاور إلى تمزيق النسيج الجغرافي لقطاع غزة، وتحويله إلى مناطق معزولة يسهل السيطرة عليها أمنياً وعسكرياً، في خطّة ممنهجة للاستيلاء على أكبر قدر ممكن من أراضي القطاع، وفرض وقائع جديدة على الأرض تُعيق أي تسوية سياسية مستقبلية.
توقيت استراتيجي
لم يكن توقيت السيطرة على “محور ميراج” عشوائياً، بل اختارته القيادات العسكرية الإسرائيلية بعناية، بالتزامن مع اقتراب موسم الحصاد في المناطق الزراعية جنوب القطاع، حيث كان آلاف المزارعين الفلسطينيين يستعدّون لقطف محاصيلهم من الخضروات التي تشكل جزءاً أساسياً من السلّة الغذائية لغزة.
بهذا التحرّك، حُرم المزارعون من الوصول إلى أراضيهم، وتراجعت كميات الخضروات المعروضة في الأسواق بشكل ملحوظ، مما ضاعف الأزمة الغذائية المتفاقمة أصلاً، في القطاع الذي يعاني من مجاعة تزداد يوماً بعد يوم، وحصار خانق ونقص حادّ في الإمدادات.
على أرض الواقع، بدأت ملامح الكارثة بالظهور فوراً، حيث ارتفعت أسعار الخضروات إلى مستويات غير مسبوقة، وأُغلق الباب أمام عودة عشرات الآلاف من النازحين من سكان رفح إلى منازلهم، بل حتى إلى تفقّد ما تبقّى منها، نتيجة لإغلاق المنطقة وتحويلها إلى منطقة عسكرية.
إقرأوا أيضاً:
الامتداد العسكري
يمتدّ “محور ميراج” من غرب رفح وخان يونس بمحاذاة شاطئ البحر، وصولاً إلى الحدود الشرقية مع إسرائيل، عابراً مسافة واسعة يصل عرضها إلى 18 كيلومتراً، تسمح للجيش الإسرائيلي بكشف مساحات شاسعة مما تبقّى من أراضي غزة ومراقبتها والتحكّم بها.
وتكمن خطورة هذا المحور أيضاً، في أنه يسهّل على القوّات الإسرائيلية تنفيذ هجمات مركّزة على المناطق السكنية والزراعية في شمال خان يونس، التي أصبحت الآن خالية تماماً من سكّانها بسبب استمرار القصف الإسرائيلي.
يمتلك هذا المحور أيضاً دلالات رمزية وتاريخية بالنسبة للإسرائيليين، إذ يعود إلى مستوطنة ميراج التي كانت قائمة ضمن مستوطنات غوش قطيف، قبل انسحاب الاحتلال من قطاع غزة في عام 2005.
وكانت هذه المستوطنة جزءاً من الممرّات العسكرية التي أنشأها الاحتلال في سبعينيات القرن الماضي لتقسيم القطاع، إلى جانب محاور مثل فيلادلفيا وكيسوفيم ونيتساريم.
النظرة الإسرائيلية
في داخل إسرائيل، يُنظَر إلى “محور ميراج” بوصفه جزءاً من خطة أوسع تُعرَف بـ”الإجلاء الطوعي”، وهي الخطّة التي تروّج لها حكومة نتانياهو بدعم من اليمين المتطرّف، وتهدف إلى إعادة رسم الخريطة الديموغرافية لقطاع غزة، عبر الضغط المستمرّ على السكان في الجنوب، وخلق بيئة طاردة تُجبرهم على النزوح.
من الناحية العسكرية، يرى الخبراء أن هذا المحور يشكل امتداداً استراتيجياً لمحور فيلادلفيا، ويهدف إلى قطع خطوط الإمداد بين عناصر المقاومة الفلسطينية المنتشرة في رفح وخان يونس، وتعزيز القبضة الأمنية على هذه المنطقة الحيوية.
وقد زار رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال إيال زامير المحور الجديد برفقة كبار القادة العسكريين، وأكّد من هناك: “سنُبقي على ضبابية المشهد، ولن نكشف عن تحرّكاتنا، الميدان هو الذي سيتحدث”، في إشارة إلى استمرار العمليات من دون الإعلان عن تفاصيلها، وربما من دون نية للتوقّف قريباً.
أما الجنرال إيتان دانغوت المنسّق الإسرائيلي السابق لشؤون الحكومة في الأراضي الفلسطينية، فقد أكّد أن السيطرة على المحور ليست مجرّد عملية عسكرية، بل بداية لمرحلة جديدة تهدف إلى تقسيم القطاع إلى ثلاث مناطق رئيسية، يسهل التحكّم في تنقلاتها ومراقبتها بدقّة، حتى بالنسبة إلى قوافل المساعدات الإنسانية التي ستواجه قيوداً صارمة.
وأشار دانغوت إلى أن هذه التحرّكات تحمل رسائل سياسية بالغة الأهمية، إذ تهدف إلى طمأنة التيارات اليمينية داخل الحكومة، عبر إحياء فكرة “العودة” إلى المستوطنات التي أُخليت في عام 2005، وعلى رأسها مستوطنات غوش قطيف.
خسارة جديدة
لا يمكن النظر إلى محور ميراج بمعزل عن المأساة الإنسانية التي يعيشها قطاع غزة منذ شهور، فقد أضاف المحور الجديد خسارة قاسية إلى سلسلة الخسائر المتتالية التي يتكبّدها الفلسطينيون، يوماً بعد يوم.
يتخوّف الفلسطينيون من أن يُستخدَم المحور كورقة ضغط جديدة في المفاوضات التي قد تُستأنَف في أي لحظة، خاصّة أن نتانياهو يدرك الأهمية الجغرافية والاقتصادية لهذه المنطقة بالنسبة للقطاع، مما يمنحه أداة جديدة للمناورة وإطالة أمد الحرب.
وإلى جانب المفاوضات، فقد خسر سكّان غزة ما تبقّى من منازلهم وذكرياتهم، بعد أن أُجبروا على النزوح القسري إلى مناطق مدمّرة في خان يونس، لا يملكون فيها سوى بقايا من ملابسهم وذكرياتهم، وسط أوضاع إنسانية تزداد قسوة وصعوبة.
من خرج من رفح وذهب إلى خان يونس، بسبب هذا المحور عاد إلى حياة النزوح مرّة أخرى، بعد أيّام قليلة عاشها في مدينته وفوق أنقاض منزله، ولا يعرف هل يكون هذا النزوح هو الأخير في هذه الحرب التي يبدو أنه لا نهاية لها؟
إقرأوا أيضاً: