fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

“مخيم جرش” في الأردن: غزّيو النكبة الأولى

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أعاد القرار بتأسيس وكالة “للتهجير الطوعي” للفلسطينيين في قطاع غزّة المنكوب، ذكريات تجارب قاسية ومريرة  لغزّيين نزحوا إلى الأردن عقب نكسة 1967، واستقرّوا  في مخيّم جرش المكتظّ، الذي يعاني من نقص حادّ في الخدمات الأساسية وسط تفشي البطالة والفقر. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

نشرت صحيفة “هآرتس” خبراً أشارت فيه إلى أن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، أعلن في 23 آذار/ مارس 2025،  أن مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي صادق على قرار إنشاء “مكتب للهجرة الطوعية لسكّان قطاع غزّة الراغبين في الانتقال إلى دول ثالثة”، وذلك وفقاً للقانونين الإسرائيلي والدولي.

أعاد القرار بتأسيس وكالة “للتهجير الطوعي” للفلسطينيين في قطاع غزّة المنكوب، ذكريات تجارب قاسية ومريرة  لغزّيين نزحوا إلى الأردن عقب نكسة 1967، واستقرّوا  في مخيّم جرش المكتظّ، الذي يعاني من نقص حادّ في الخدمات الأساسية وسط تفشي البطالة والفقر. 

يقع مخيّم جرش في شمال البلاد، وسكّانه ال 33 ألفا يشهدون على معاناة أهله المستمرّة: لاجئون ونازحون فلسطينيون هُجِّروا مرّتين في ظروف قاسية، بعد نكبة 1948، ونكسة 1967.

استعاد البعض ممن التقيناهم في المخيّم الذي يقع على بعد 50 كيلومتراً من العاصمة الأردنية عمّان، ذكريات ألم وقهر ومعاناة، بعدما اضطرّوا لترك بيوتهم ومدنهم وقراهم والانفصال عن أهاليهم، وما بدأ كمخيّم طوارئ تحوّل تدريجياً إلى مأوى دائم اسمه “مخيّم جرش”. 

يعيش سكّان المخيّم على أعصابهم منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يتوقّعون الأسوأ كلما تلقّوا أنباء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وعبر شاشات التلفزة عن استشهاد أو إصابة أحد أقاربهم في حرب الإبادة والتدمير والتجويع الجارية في غزّة.

ورغم الأمان الذي بات جزءاً لا يتجزأ من الحياة في وطنهم الثاني الأردن، وعيشهم بعيداً عن دوي القصف وأهوال الحرب، ما زالت قلوبهم معلّقة بوطنهم الأول، ويحلم عدد كبير منهم باليوم الذي تطأ فيه أقدامهم أرضه مرّة أخرى، ليعودوا إلى بيوتهم وحقولهم التي هُجّروا منها قسراً.

لاجئون لا مواطنون

يعيش سكّان المخيّم في وضع القانوني غير مستقرّ: غالبيتهم من حاملي جواز السفر الأردني المؤقت لتسهيل السفر، من دون الحصول على حقوق المواطنة، يليهم حملة الوثائق المصرية، وهم يدركون أن حال الأردن مثل حال مصر، يرفض استقبال المهجّرين من غزّة لأسباب سياسية منذ عقود، منها منع التوطين على حساب حلّ القضيّة الفلسطينية.

 مخيّم جرش واحد من 10 مخيّمات تقدّم فيها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين خدماتها، ويحتوي على 5 مدارس، ومركز واحد لتوزيع الأغذية، ومركز صحي، ومركز تأهيل مجتمعي، ومركز للبرامج النسائية، ومكتب تطوير للمخيّم.

الحياة بالكاد مستمرّة بين أزقّة المخيّم الضيّقة، لكن سكّانه توقّفوا أمام قرار ترامب ترحيل الغزّيين لبناء ريفيرا الشرق الأوسط في قطاع غزّة، الذي رفضته القمّة العربية، وأرسلت إلى واشنطن خطّة بديلة  لإعادة الإعمار وعدم تهجير السكّان، وفوجئوا أكثر بخبر قيام الوكالة الجديدة ضمن وزارة الدفاع بتسفير مائة غزّي إلى اندونيسيا، بعد أن وجدت لهم فرص عمل هناك، وتتواصل اليوم مع دول أخرى لتقبل دخولهم بحسب تقارير إعلامية.

يخشى الساسة العرب من أن مهمّة هذه الوكالة، ستكون ضمن سياق خطّة إسرائيل القائمة على الفصل العنصري وضمّ الضفّة الغربية وقطاع غزّة لتوسيع حدودها، لذلك أصدرت وزارة الخارجية الأردنية بياناً، تدين في تأسيس الوكالة الإسرائيلية، مؤكّدة أن “جميع الإجراءات الإسرائيلية التي تستهدف وجود الفلسطيني على أرضه باطلة، وتمثّل خرقاً فاضحاً للقانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني”.

فيما أصدرت الخارجية المصرية بياناً، دانت فيه جمهورية مصر العربية “إعلان إسرائيل إنشاء وكالة تستهدف تهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة، والمصادقة على الاعتراف بـ13 مستوطنة جديدة في الضفّة الغربية”.

الشوق للأهل والخوف من الفقر

تتذكّر  نعمة خطّاب (78 عاماً) كيف نزحت للمرّة الأولى من مسقط رأسها في الجليل الأعلى إلى غزّة في عام  1948، وكانت تبلغ من العمر عاماً واحداً حين انفصلت عن والديها، ثم تشرّدت مرّة ثانية من غزّة إلى الأردن في عام 1967، وكانت حينها متزوّجة ولديها طفلان، أحدهما “رضيع بين يدي، والثاني عمره عام واحد”. رحلتها ما زالت محفورة بالذاكرة لقساوة التجربة: “أذكر يومها أنني كنت وزوجي في بيت ذويه، وكنا نطبخ البامية، وفجأة دخلت علينا دبّابات أعلاها أعلام فلسطينية، مع أنها كانت دبّابات “يهودية”، وتقول: “أدركني الخوف على زوجي أولاً، وأن أترمّل بعمر  الشباب مع طفلين”.

تُضيف نعمة “لم يترك الاحتلال أمامنا خياراً آخر سوى التفكير في اللجوء بعيداً عن الحرب”،  عندما سمعت نعمة وأسرتها بفتح جسر الملك حسين، الذي يربط الضفّتين  لاستقبال اللاجئين، قرّرا اللجوء إلى الأردن، وبدأت رحلة أخرى مع معاناة في مخيّم  اللجوء، مشيرة إلى أنهم قطنوا في خيمة صغيرة، تشبه كوخ يتمّ توزيعها عليهم، وعاشوا على المساعدات، إذ كانوا ينتظرون وقت الطعام، للحصول على “كرت المؤن”، لافتة إلى أنها في العادة كانت وجبة أرز مع سبانخ وقطعة لحمة معلّبات.

تروي نعمة أن زوجها كان يعمل في “حمل شوالات الطحين مقابل أجر زهيد، ورغم قلّة الدخل، كان الزوجان يواجهان الحياة بصبر واحتساب على الرغم من صعوبة الوضع”. 

وتوفّي في عام 1984، تاركاً لها أسرة مكوّنة من تسعة أبناء بلا منزل يحميهم من برد الشتاء، كانوا ينامون في العراء، فاضطرّت للعمل في الحصاد وقطف الزيتون لتأمين قوت أطفالها.

في البداية فرحت نعمة قليلاً عندما سمعت بقرار ترامب بتهجير الغزّيين، لأنه سيسمح لها بأن تلتقي بابنتها وأطفالها “وصرت أتخيّل أني أُطعمهم بيدي”.

لكنّها سرعان ما سألت نفسها كيف تُطعمهم وهي غير قادرة على الطبخ نتيجة رجفة يديها،  وأولادها المتزوّجون “يربطون على بطونهم من الجوع والبطالة، وفكّرت بأي منزل يُؤويهم، وأنا أتغطّى بالبطانية، من البرد، وليس لدي مدفأة”.

تضيف والدمع في عينيها: “كيف بدهم يرحّلوا الغزّيين لعنا، واحنا ما عنا غير خبز يابس وشاي؟”، وتتابع: “نحن مش قادرين نأمّن لقمة العيش، ولا حتى جرّة غاز،  وآخر حرام كان عنا حطّيته على زوجي بس مات، وبقي في المستشفى”، وأردفت قائلة: “أنا عادي بدفّي جسمي بأي بطانية، بس إلي عندهم صغار،  شو يعملوا؟”.

“نعيش بأمان حتى لو كنّا جوعانين”

في زاوية صغيرة من مخيّم جرش، جلست السبعينية الحاجّة عزيزة تستعيد معي ذكريات لجوئها إلى الأردن، عندما كانت تبلغ من العمر 18 عاماً/ وأُجبرت وعائلتها على مغادرة غزّة في عام 1967.

تحكي عزيزة كيف قضت الأيام الأولى في منطقة العبدلي في العاصمة عمّان، بلا مأوى وعيون المارّة ترمقهم بنظرات الشفقة، وهم يحدّثون أنفسهم “هؤلاء من غزّة، يا حرام”.

 بعد مرور ثلاثة أيّام، انتقلت وعائلتها للعيش عند أقرباء لهم في منطقة جبل الجوفة، بالقرب من المدرّج الروماني، لكن لم يمكثوا طويلاً، وينتقلون لمنطقة غور كبد في محافظة البلقاء، لكي يحصلوا  على بطاقة تموين، لأن ذلك كان ممنوعاً على من يقطن خارج الغور، لكن لم تستطع الأسرة الحصول عليها.

 جاءت معركة “الكرامة” بين الأردن وإسرائيل في عام 1968، وأُجبروا على الرحيل إلى مخيّم البقعة، ويُعتبر اليوم أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في الأردن، وتُشرف “الأونروا” على رعايته.

 هناك عاشت معاناة اللجوء بكلّ تفاصيلها: “البرد القارس، قلّة الماء، وانعدام موارد الحياة الأساسية”، وللمرّة الخامسة والأخيرة بأقلّ من عام، طُلب من عزيزة وعائلتها أن ينتقلوا للعيش في مخيّم جرش، لكي يعيش جميع اللاجئين الغزّيين معاً.  

في بدايات اللجوء “كنا نجري وراء الماء، نحمل الطاسات لنملأها من العين، بعدين كان ينزل الثلج علينا ونحن في الخيام”.

ومع مرور الأيام استُبدلت الخيام بالبراكيّات، وباتوا يتلقّون كروت التموين كلّ أسبوعين تقريباً، تقول: “الحياة لم تكن سهلة داخل البيوت المصنوعة من الزينكو، والعمل كان نادراً، والأجور بالكاد تكفي لتأمين لقمة طعام ليوم واحد”.

لكنّ عزيز قرّرت أن تبدأ بالعمل في الخياطة لتُعيل أسرتها، اليوم ورغم قضاء أكثر من نصف عمرها في المخيّم، لا تزال عزيزة تشعر أنها بين نارين، وتقول: “غزّة بلدنا، والسبع أصلنا، لكن هنا نعيش بأمان حتى لو كنّا جوعانين”.

 تراقب بقلق الأوضاع في غزّة، حيث تعيش ابنتها وبقيّة عائلتها تحت القصف بلا مأوى، بعد أن هُدم منزلهم، وتتمنّى لو أن الطريق مفتوح. شعور بالغصّة والحزن الشديدين تملّكاها، عندما سمعت بمقترحات ترامب الجديدة للتهجير: “هاي بلادنا كيف نتركها؟ الحرب كانت على الأرض والعرض، والناس ماتت دفاعاً عنها”.

نزوح في ظلام الحرب

لا تختلف قصّة صبحة كثيراً عن قصّتي عزيزة ونعمة، فسرعان ما أدركت نفسها، طفلة يتيمة بعمر ثماني سنوات، لا تحمل شيئاً سوى يد شقيقها الصغير، وهما مجبران على الفرار بحثاً عن الأمان، استرجعت مسار الرحلة التي بدأت من خان يونس في قطاع غزّة مروراً بالحقول والأحراج، حتى وصلت إلى الأراضي الأردنية. 

توقّفت لحظة، وكأنها لا تزال تتذوّق طعم الخوف الذي تملّكها حين أمضت ليلة كاملة، وشقيقها في العراء بين الأشجار، محاطة بالظلام والوحوش “والله نمنا تحت الشجر، كيف ما أكلتنا الضباع؟ ما أنا عارفة”.

 صبيحة اليوم التالي، وجدت نفسها تمضي بشقيقها وسط الحشود النازحة، برفقة بناتها ليخرجوا معاً بآخر سيارة تركت القطاع إلى الأردن، نصبت خيم استقبال كملجأ موقت للعائلات، التي فقدت كلّ شي قرب محطة وقود في مخيّم جرش، تقول: “ما كان معنا ورقة تُثبت مين إحنا”.

لكن السيّدة التي نزحوا معها، ساعدتهم في تسجيل أسمائهم للحصول على بطاقة “الأونروا” ضماناً لحصولهم على معونات غذائية، لم تكن الحياة الجديدة سهلة، الجوع والفقر ظلّا يرافقانهما في المخيّم، الذي تحوّل لموطن جديد من دون عمل وخبز لا يكفي الجميع “الشباب الحين بدهم تساريح، من وين يجيبوا؟ مافي شغل، ما في شي”.

غضبت كثيراً وأجهشت بالبكاء عندما سُئلت عن قرارات التهجير الجديد، وقالت: “ترامب يرحّلنا من أرضنا؟ كيف؟ احنا بنتمنّى نرجع عليها يا بنت الحلال، مش نتركها!”،  لكنّها لا تزال متمسكّة بالأمل، موقنة أن التهجير لن يتكرّر مرّة أخرى، لا، بقدرة الله ما يتنفّذ، ولا واحد بيطلع!”، وختمت قائلة: “إن متت، قولي الله يرحمها الحاجّة، بس ما رح يتهجّروا!”.

اللاجئون في المخيّم: المساعدات شريان الحياة

في ظلّ الأوضاع التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون في مخيّم جرش، فإنهم معرّضون لخطر الفقر المتزايد، حسب تقرير “الأونروا” للعام 2025″ النداء الطارئ سوريا ولبنان والأردن“،  وخاصّة من انتهت صلاحية وثائق هوّياتهم أو لم يتمّ الاعتراف بها.

وبيّنت “الأونروا” في التقرير أنه لا يحقّ لهم الحصول على جواز سفر أردني مؤقت، لأنهم يُعتبرون أجانب، مما يحدّ من حصولهم على الرعاية الصحّية الوطنية، والتعليم العالي، وبرامج المعونة الحكومية، بالإضافة إلى وظائف القطاع العامّ، وغيرها من فرص العمل.

مؤكّدة أن اعتمادهم  على الدعم غير الرسمي وغير المنتظم، يعزّز ثقافة الفقر والاعتماد على المساعدات، وفي السياق ذاته، أشار التقرير إلى تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بالنسبة إلى اللاجئين الفلسطينيين في الأردن؛  فعاش ثلثاهم بالفعل تحت خطّ الفقر في عام 2023، بزيادة قدرها 10٪ منذ العام 2021 .

تؤثّر  التداعيات الاقتصادية للصراع الإقليمي بشكل أكبر  على الظروف المعيشية للفئات الأشد ضعفاً في الأردن، مما يزيد من معاناتهم الإنسانية، منها تدهور ظروف السكن، وارتفاع معدّلات عمل الأطفال، ويأتي ذلك على خلفية أدنى مستوى من التمويل الدولي، الذي تمّ تلقّيه حتى الآن لخطّة الاستجابة الأردنية للأزمة السورية (2024-2026) التي تنسّقها الحكومة الأردنية.

بوكس

رفض الأردن تصريحات ترامب حول تهجير الغزّيين إلى المملكة ،كتب الملك عبدالله الثاني في تغريدة له عبر منصة(x) بعد انتهاء لقائه مع ترامب في 11 شباط/ فبراير 2025، مؤكّداً فيها موقف الأردن الثابت ضدّ تهجير الفلسطينيين في غزّة والضفّة الغربية، وقال “هذا هو الموقف العربي الموحّد، ويجب أن تكون أولوية الجميع إعادة إعمار غزّة من دون تهجير أهلها، والتعامل مع الوضع الإنساني الصعب في القطاع”.

وعبّر الأردنيون عن وقوفهم خلف الملك، بالخروج في مظاهرات واسعة شملت محافظات الأردن كافّة.

رنا الصبّاغ- كاتبة وصحافية أردنية | 23.05.2025

الرقص على أوجاع الغزّيين !…عندما تعطّل واشنطن وتل أبيب ديناميات الأمم المتّحدة 

أثناء كتابة هذا المقال، بدأت كوادر في الشركات الجديدة ومتعهّدون أمنيون ومرتزقة، بالوصول مع معدّاتهم إلى إسرائيل، استعداداً لدخول غزّة، وتطبيق الخطّة الإشكالية البديلة عن المسار الأممي.
24.04.2025
زمن القراءة: 8 minutes

أعاد القرار بتأسيس وكالة “للتهجير الطوعي” للفلسطينيين في قطاع غزّة المنكوب، ذكريات تجارب قاسية ومريرة  لغزّيين نزحوا إلى الأردن عقب نكسة 1967، واستقرّوا  في مخيّم جرش المكتظّ، الذي يعاني من نقص حادّ في الخدمات الأساسية وسط تفشي البطالة والفقر. 

نشرت صحيفة “هآرتس” خبراً أشارت فيه إلى أن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، أعلن في 23 آذار/ مارس 2025،  أن مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي صادق على قرار إنشاء “مكتب للهجرة الطوعية لسكّان قطاع غزّة الراغبين في الانتقال إلى دول ثالثة”، وذلك وفقاً للقانونين الإسرائيلي والدولي.

أعاد القرار بتأسيس وكالة “للتهجير الطوعي” للفلسطينيين في قطاع غزّة المنكوب، ذكريات تجارب قاسية ومريرة  لغزّيين نزحوا إلى الأردن عقب نكسة 1967، واستقرّوا  في مخيّم جرش المكتظّ، الذي يعاني من نقص حادّ في الخدمات الأساسية وسط تفشي البطالة والفقر. 

يقع مخيّم جرش في شمال البلاد، وسكّانه ال 33 ألفا يشهدون على معاناة أهله المستمرّة: لاجئون ونازحون فلسطينيون هُجِّروا مرّتين في ظروف قاسية، بعد نكبة 1948، ونكسة 1967.

استعاد البعض ممن التقيناهم في المخيّم الذي يقع على بعد 50 كيلومتراً من العاصمة الأردنية عمّان، ذكريات ألم وقهر ومعاناة، بعدما اضطرّوا لترك بيوتهم ومدنهم وقراهم والانفصال عن أهاليهم، وما بدأ كمخيّم طوارئ تحوّل تدريجياً إلى مأوى دائم اسمه “مخيّم جرش”. 

يعيش سكّان المخيّم على أعصابهم منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يتوقّعون الأسوأ كلما تلقّوا أنباء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وعبر شاشات التلفزة عن استشهاد أو إصابة أحد أقاربهم في حرب الإبادة والتدمير والتجويع الجارية في غزّة.

ورغم الأمان الذي بات جزءاً لا يتجزأ من الحياة في وطنهم الثاني الأردن، وعيشهم بعيداً عن دوي القصف وأهوال الحرب، ما زالت قلوبهم معلّقة بوطنهم الأول، ويحلم عدد كبير منهم باليوم الذي تطأ فيه أقدامهم أرضه مرّة أخرى، ليعودوا إلى بيوتهم وحقولهم التي هُجّروا منها قسراً.

لاجئون لا مواطنون

يعيش سكّان المخيّم في وضع القانوني غير مستقرّ: غالبيتهم من حاملي جواز السفر الأردني المؤقت لتسهيل السفر، من دون الحصول على حقوق المواطنة، يليهم حملة الوثائق المصرية، وهم يدركون أن حال الأردن مثل حال مصر، يرفض استقبال المهجّرين من غزّة لأسباب سياسية منذ عقود، منها منع التوطين على حساب حلّ القضيّة الفلسطينية.

 مخيّم جرش واحد من 10 مخيّمات تقدّم فيها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين خدماتها، ويحتوي على 5 مدارس، ومركز واحد لتوزيع الأغذية، ومركز صحي، ومركز تأهيل مجتمعي، ومركز للبرامج النسائية، ومكتب تطوير للمخيّم.

الحياة بالكاد مستمرّة بين أزقّة المخيّم الضيّقة، لكن سكّانه توقّفوا أمام قرار ترامب ترحيل الغزّيين لبناء ريفيرا الشرق الأوسط في قطاع غزّة، الذي رفضته القمّة العربية، وأرسلت إلى واشنطن خطّة بديلة  لإعادة الإعمار وعدم تهجير السكّان، وفوجئوا أكثر بخبر قيام الوكالة الجديدة ضمن وزارة الدفاع بتسفير مائة غزّي إلى اندونيسيا، بعد أن وجدت لهم فرص عمل هناك، وتتواصل اليوم مع دول أخرى لتقبل دخولهم بحسب تقارير إعلامية.

يخشى الساسة العرب من أن مهمّة هذه الوكالة، ستكون ضمن سياق خطّة إسرائيل القائمة على الفصل العنصري وضمّ الضفّة الغربية وقطاع غزّة لتوسيع حدودها، لذلك أصدرت وزارة الخارجية الأردنية بياناً، تدين في تأسيس الوكالة الإسرائيلية، مؤكّدة أن “جميع الإجراءات الإسرائيلية التي تستهدف وجود الفلسطيني على أرضه باطلة، وتمثّل خرقاً فاضحاً للقانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني”.

فيما أصدرت الخارجية المصرية بياناً، دانت فيه جمهورية مصر العربية “إعلان إسرائيل إنشاء وكالة تستهدف تهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة، والمصادقة على الاعتراف بـ13 مستوطنة جديدة في الضفّة الغربية”.

الشوق للأهل والخوف من الفقر

تتذكّر  نعمة خطّاب (78 عاماً) كيف نزحت للمرّة الأولى من مسقط رأسها في الجليل الأعلى إلى غزّة في عام  1948، وكانت تبلغ من العمر عاماً واحداً حين انفصلت عن والديها، ثم تشرّدت مرّة ثانية من غزّة إلى الأردن في عام 1967، وكانت حينها متزوّجة ولديها طفلان، أحدهما “رضيع بين يدي، والثاني عمره عام واحد”. رحلتها ما زالت محفورة بالذاكرة لقساوة التجربة: “أذكر يومها أنني كنت وزوجي في بيت ذويه، وكنا نطبخ البامية، وفجأة دخلت علينا دبّابات أعلاها أعلام فلسطينية، مع أنها كانت دبّابات “يهودية”، وتقول: “أدركني الخوف على زوجي أولاً، وأن أترمّل بعمر  الشباب مع طفلين”.

تُضيف نعمة “لم يترك الاحتلال أمامنا خياراً آخر سوى التفكير في اللجوء بعيداً عن الحرب”،  عندما سمعت نعمة وأسرتها بفتح جسر الملك حسين، الذي يربط الضفّتين  لاستقبال اللاجئين، قرّرا اللجوء إلى الأردن، وبدأت رحلة أخرى مع معاناة في مخيّم  اللجوء، مشيرة إلى أنهم قطنوا في خيمة صغيرة، تشبه كوخ يتمّ توزيعها عليهم، وعاشوا على المساعدات، إذ كانوا ينتظرون وقت الطعام، للحصول على “كرت المؤن”، لافتة إلى أنها في العادة كانت وجبة أرز مع سبانخ وقطعة لحمة معلّبات.

تروي نعمة أن زوجها كان يعمل في “حمل شوالات الطحين مقابل أجر زهيد، ورغم قلّة الدخل، كان الزوجان يواجهان الحياة بصبر واحتساب على الرغم من صعوبة الوضع”. 

وتوفّي في عام 1984، تاركاً لها أسرة مكوّنة من تسعة أبناء بلا منزل يحميهم من برد الشتاء، كانوا ينامون في العراء، فاضطرّت للعمل في الحصاد وقطف الزيتون لتأمين قوت أطفالها.

في البداية فرحت نعمة قليلاً عندما سمعت بقرار ترامب بتهجير الغزّيين، لأنه سيسمح لها بأن تلتقي بابنتها وأطفالها “وصرت أتخيّل أني أُطعمهم بيدي”.

لكنّها سرعان ما سألت نفسها كيف تُطعمهم وهي غير قادرة على الطبخ نتيجة رجفة يديها،  وأولادها المتزوّجون “يربطون على بطونهم من الجوع والبطالة، وفكّرت بأي منزل يُؤويهم، وأنا أتغطّى بالبطانية، من البرد، وليس لدي مدفأة”.

تضيف والدمع في عينيها: “كيف بدهم يرحّلوا الغزّيين لعنا، واحنا ما عنا غير خبز يابس وشاي؟”، وتتابع: “نحن مش قادرين نأمّن لقمة العيش، ولا حتى جرّة غاز،  وآخر حرام كان عنا حطّيته على زوجي بس مات، وبقي في المستشفى”، وأردفت قائلة: “أنا عادي بدفّي جسمي بأي بطانية، بس إلي عندهم صغار،  شو يعملوا؟”.

“نعيش بأمان حتى لو كنّا جوعانين”

في زاوية صغيرة من مخيّم جرش، جلست السبعينية الحاجّة عزيزة تستعيد معي ذكريات لجوئها إلى الأردن، عندما كانت تبلغ من العمر 18 عاماً/ وأُجبرت وعائلتها على مغادرة غزّة في عام 1967.

تحكي عزيزة كيف قضت الأيام الأولى في منطقة العبدلي في العاصمة عمّان، بلا مأوى وعيون المارّة ترمقهم بنظرات الشفقة، وهم يحدّثون أنفسهم “هؤلاء من غزّة، يا حرام”.

 بعد مرور ثلاثة أيّام، انتقلت وعائلتها للعيش عند أقرباء لهم في منطقة جبل الجوفة، بالقرب من المدرّج الروماني، لكن لم يمكثوا طويلاً، وينتقلون لمنطقة غور كبد في محافظة البلقاء، لكي يحصلوا  على بطاقة تموين، لأن ذلك كان ممنوعاً على من يقطن خارج الغور، لكن لم تستطع الأسرة الحصول عليها.

 جاءت معركة “الكرامة” بين الأردن وإسرائيل في عام 1968، وأُجبروا على الرحيل إلى مخيّم البقعة، ويُعتبر اليوم أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في الأردن، وتُشرف “الأونروا” على رعايته.

 هناك عاشت معاناة اللجوء بكلّ تفاصيلها: “البرد القارس، قلّة الماء، وانعدام موارد الحياة الأساسية”، وللمرّة الخامسة والأخيرة بأقلّ من عام، طُلب من عزيزة وعائلتها أن ينتقلوا للعيش في مخيّم جرش، لكي يعيش جميع اللاجئين الغزّيين معاً.  

في بدايات اللجوء “كنا نجري وراء الماء، نحمل الطاسات لنملأها من العين، بعدين كان ينزل الثلج علينا ونحن في الخيام”.

ومع مرور الأيام استُبدلت الخيام بالبراكيّات، وباتوا يتلقّون كروت التموين كلّ أسبوعين تقريباً، تقول: “الحياة لم تكن سهلة داخل البيوت المصنوعة من الزينكو، والعمل كان نادراً، والأجور بالكاد تكفي لتأمين لقمة طعام ليوم واحد”.

لكنّ عزيز قرّرت أن تبدأ بالعمل في الخياطة لتُعيل أسرتها، اليوم ورغم قضاء أكثر من نصف عمرها في المخيّم، لا تزال عزيزة تشعر أنها بين نارين، وتقول: “غزّة بلدنا، والسبع أصلنا، لكن هنا نعيش بأمان حتى لو كنّا جوعانين”.

 تراقب بقلق الأوضاع في غزّة، حيث تعيش ابنتها وبقيّة عائلتها تحت القصف بلا مأوى، بعد أن هُدم منزلهم، وتتمنّى لو أن الطريق مفتوح. شعور بالغصّة والحزن الشديدين تملّكاها، عندما سمعت بمقترحات ترامب الجديدة للتهجير: “هاي بلادنا كيف نتركها؟ الحرب كانت على الأرض والعرض، والناس ماتت دفاعاً عنها”.

نزوح في ظلام الحرب

لا تختلف قصّة صبحة كثيراً عن قصّتي عزيزة ونعمة، فسرعان ما أدركت نفسها، طفلة يتيمة بعمر ثماني سنوات، لا تحمل شيئاً سوى يد شقيقها الصغير، وهما مجبران على الفرار بحثاً عن الأمان، استرجعت مسار الرحلة التي بدأت من خان يونس في قطاع غزّة مروراً بالحقول والأحراج، حتى وصلت إلى الأراضي الأردنية. 

توقّفت لحظة، وكأنها لا تزال تتذوّق طعم الخوف الذي تملّكها حين أمضت ليلة كاملة، وشقيقها في العراء بين الأشجار، محاطة بالظلام والوحوش “والله نمنا تحت الشجر، كيف ما أكلتنا الضباع؟ ما أنا عارفة”.

 صبيحة اليوم التالي، وجدت نفسها تمضي بشقيقها وسط الحشود النازحة، برفقة بناتها ليخرجوا معاً بآخر سيارة تركت القطاع إلى الأردن، نصبت خيم استقبال كملجأ موقت للعائلات، التي فقدت كلّ شي قرب محطة وقود في مخيّم جرش، تقول: “ما كان معنا ورقة تُثبت مين إحنا”.

لكن السيّدة التي نزحوا معها، ساعدتهم في تسجيل أسمائهم للحصول على بطاقة “الأونروا” ضماناً لحصولهم على معونات غذائية، لم تكن الحياة الجديدة سهلة، الجوع والفقر ظلّا يرافقانهما في المخيّم، الذي تحوّل لموطن جديد من دون عمل وخبز لا يكفي الجميع “الشباب الحين بدهم تساريح، من وين يجيبوا؟ مافي شغل، ما في شي”.

غضبت كثيراً وأجهشت بالبكاء عندما سُئلت عن قرارات التهجير الجديد، وقالت: “ترامب يرحّلنا من أرضنا؟ كيف؟ احنا بنتمنّى نرجع عليها يا بنت الحلال، مش نتركها!”،  لكنّها لا تزال متمسكّة بالأمل، موقنة أن التهجير لن يتكرّر مرّة أخرى، لا، بقدرة الله ما يتنفّذ، ولا واحد بيطلع!”، وختمت قائلة: “إن متت، قولي الله يرحمها الحاجّة، بس ما رح يتهجّروا!”.

اللاجئون في المخيّم: المساعدات شريان الحياة

في ظلّ الأوضاع التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون في مخيّم جرش، فإنهم معرّضون لخطر الفقر المتزايد، حسب تقرير “الأونروا” للعام 2025″ النداء الطارئ سوريا ولبنان والأردن“،  وخاصّة من انتهت صلاحية وثائق هوّياتهم أو لم يتمّ الاعتراف بها.

وبيّنت “الأونروا” في التقرير أنه لا يحقّ لهم الحصول على جواز سفر أردني مؤقت، لأنهم يُعتبرون أجانب، مما يحدّ من حصولهم على الرعاية الصحّية الوطنية، والتعليم العالي، وبرامج المعونة الحكومية، بالإضافة إلى وظائف القطاع العامّ، وغيرها من فرص العمل.

مؤكّدة أن اعتمادهم  على الدعم غير الرسمي وغير المنتظم، يعزّز ثقافة الفقر والاعتماد على المساعدات، وفي السياق ذاته، أشار التقرير إلى تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بالنسبة إلى اللاجئين الفلسطينيين في الأردن؛  فعاش ثلثاهم بالفعل تحت خطّ الفقر في عام 2023، بزيادة قدرها 10٪ منذ العام 2021 .

تؤثّر  التداعيات الاقتصادية للصراع الإقليمي بشكل أكبر  على الظروف المعيشية للفئات الأشد ضعفاً في الأردن، مما يزيد من معاناتهم الإنسانية، منها تدهور ظروف السكن، وارتفاع معدّلات عمل الأطفال، ويأتي ذلك على خلفية أدنى مستوى من التمويل الدولي، الذي تمّ تلقّيه حتى الآن لخطّة الاستجابة الأردنية للأزمة السورية (2024-2026) التي تنسّقها الحكومة الأردنية.

بوكس

رفض الأردن تصريحات ترامب حول تهجير الغزّيين إلى المملكة ،كتب الملك عبدالله الثاني في تغريدة له عبر منصة(x) بعد انتهاء لقائه مع ترامب في 11 شباط/ فبراير 2025، مؤكّداً فيها موقف الأردن الثابت ضدّ تهجير الفلسطينيين في غزّة والضفّة الغربية، وقال “هذا هو الموقف العربي الموحّد، ويجب أن تكون أولوية الجميع إعادة إعمار غزّة من دون تهجير أهلها، والتعامل مع الوضع الإنساني الصعب في القطاع”.

وعبّر الأردنيون عن وقوفهم خلف الملك، بالخروج في مظاهرات واسعة شملت محافظات الأردن كافّة.

24.04.2025
زمن القراءة: 8 minutes
|
آخر القصص
وثائق إيلي كوهين تعود إلى تل أبيب: حفظ الحقيقة أم تكريس للسلطة الاستعمارية؟
جيفري كرم - أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية | 23.05.2025
شهر على جيرة البحيرة
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 23.05.2025

اشترك بنشرتنا البريدية