ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

مدارس السويداء: بين التعليم والمآوي الجماعيّة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تتضاعف التحديات مع اقتراب فصل الشتاء، فالمدارس غير مجهّزة للتدفئة أو الإيواء طويل الأمد، وأعداد النازحين الكبيرة تجعل أي محاولة لإعادة العملية التعليمية رهينة للواقع الإنساني، إذ يفتقر كثر من الطلاب إلى منازل مستقرة أو صفوف يمكنهم التعلم فيها. يضاف إليها أن رواتب المعلمين لم تُصرف منذ بداية الأحداث، حتى نسخ الكتب المعدلة لمناهج الديانة والجغرافيا والتاريخ لم تصل إلى السويداء حتى الآن.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ أن وجّهت المجزرة بوصلتها نحو السويداء، لم تقتصر تداعياتها على الصدام العسكري فحسب، بل تسلّلت سريعاً إلى نسيج المحافظة الاجتماعي، لتعيد تشكيله على نحو مأساوي.  شهران ونصف الشهر كانت كافية لجعل السويداء مكانين منفصلين: نصف مدمّر ونصف آخر مكتظّ بالنازحين، يتخلل هذا الانفصال مشهد لمنازل معفّشة ومحروقة، آبار مردومة، بساتين مقطوعة، نزوح وطوابير ومآتم عزاء جماعية، وكأن الحرب عادت لتتكثّف في هذه البقعة الصغيرة.

بين 11 و12 تموز/ يوليو، شهد التوتر في جنوب سوريا بين الجماعات الدرزية المسلحة والمقاتلين من العشائر البدوية تصعيدًا أفضى إلى اشتباكات مسلحة. وفي 15 من الشهر نفسه، قالت القوات الحكومية إنها دخلت مدينة السويداء “لفرض الاستقرار” ففرضت حظر تجوُّل. وفي اليوم نفسه، شنّت إسرائيل غارات جوية على مركبات عسكرية سورية، فقتلت 15 فردًا على الأقل من القوات الحكومية. وقد تسببت التقارير الواردة حول انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها القوات الحكومية والقوات التابعة لها في السويداء، بتجدد القتال مع الجماعات المسلّحة الدرزيّة، ما أدى إلى تصعيد كبير للعنف انتهى بانسحاب القوات الحكومية في ساعة متأخرة من مساء 16 تموز. 

الهجمات خلفت عدداً كبيراً من الضحايا ودماراً وتدميراً لمنازل ومنشآت مدنيّة كثيرة.

وفيما لا تزال بعض المناطق تحت سيطرة سلطة دمشق منذ تموز الماضي، يغص النصف الثاني من المحافظة بأعداد مضاعفة من السكان، بعدما تحولت المدارس والصالات الرياضية ودور العبادة إلى ملاجئ جماعية، أو كما يفضّل أهالي السويداء تسميتها بـ”بيوت الاستضافة”.

البحث عن منزل

قضمت الهجمة العسكرية نحو أكثر من 36 بلدة وأجزاء من مركز المدينة، أي ما يعادل نحو نصف مساحة المحافظة، التي يبلغ عدد سكانها نحو 550 ألف نسمة. وبحسب مدير مراكز الإيواء في السويداء، أشرف منذر، فقد أسفر الهجوم عن تشريد حوالى 192 ألفاً منهم، أي قرابة ثلث السكان يتوزعون اليوم داخل المحافظة وخارجها.

يروي أبو طلال، وهو نازح من قرية رضمية اللواء، تفاصيل اللحظات الأولى من نزوحه: “بدأ الهجوم ليلاً بينما كنا نستعد للنوم، لنجد أنفسنا تحت قذائف الهاون والرصاص، حملت أنا وزوجتي طفلينا النائمين وركضنا خارجاً، لم نأخذ معنا شيئاً، لا نقود ولا هويات، فقط ما كنا نرتديه”.

الهجوم المباغت من أطراف المحافظة دفع الأهالي إلى الهروب نحو الداخل، تجمّع السكان عند مداخل القرى، وبدأوا بالخروج تباعاً عبر وسائل النقل المتاحة. كانت عائلة أبو طلال آخر المغادرين، إذ انطلقوا بدراجتهم نحو مدينة شهبا، تقول زوجته: “كان المسلحون خلفنا، والهاون فوقنا، والقناص أمامنا عند تقاطع الطريق المؤدي إلى شهبا، وضعنا الأطفال بيننا، غطيناهم وهربنا”.

وصلت العائلة إلى ملعب شهبا البلدي، حيث أمضت أياماً عدة قبل أن تنتقل إلى منزل صغير مكوّن من غرفة واحدة في إحدى القرى المجاورة، فالصالات التي تحولت إلى مراكز إيواء لم تكن مهيأة للسكن، لا خصوصية ولا خدمات ولا مساحات كافية. ومع التدفق المستمر للنازحين، اضطرت بعض العائلات إلى افتراش جوانب الطرق بانتظار مأوى، فيما استضيف البعض لدى أقاربهم، بينما بقي كثيرون في الصالات.

تواجه السويداء اليوم أزمة سكن حادة، إذ تجاوز عدد الوافدين الطاقة الاستيعابية للمنازل المتاحة، في محافظة ذات بنى تحتية محدودة يغلب عليها الطابع الريفي. بات العثور على مسكن مهمة شبه مستحيلة، ما دفع الأهالي إلى استغلال أي مساحة مغلقة كمأوى. قدّم بعض المغتربين منازلهم للمتضررين، وتحولت المراكز الثقافية والروضات والمكاتب والمحال التجارية والأقبية إلى مساكن بديلة، وحتى الأبنية غير المكتملة وجدت فيها العائلات مأوى بعد إغلاق نوافذها وأبوابها بما توافر من أغطية وشوادر، وفرش أرضها بما تيسّر من تبرعات الأهالي.

المدارس… قرى صغيرة 

يبلغ عدد مراكز الإيواء في المحافظة حالياً نحو 90 مركزاً، فيما يسجّل الإحصاء الداخلي أن عدد المستفيدين من هذه المراكز يتراوح بين 12 ألفاً و12.5 ألف شخص. في مدينة شهبا، وصل عدد مراكز الإيواء الرئيسية إلى خمسة، تضم نحو 1500 شخص، من بينها (3) مدارس، أما في مدينة السويداء فقد تحولت نحو (19) مدرسة إلى ملاجئ جماعية.

أصبحت الصفوف الدراسية أشبه ببيوت متجاورة، كل غرفة تختصر منزلاً وعائلة كاملة، كما خُصصت بعض الصفوف للمسنين، أنشأت إدارات المراكز فرقاً للتنظيف والطبخ، فيما تتولى لجان تطوعية تقديم خدمات طبية ونفسية، إضافة إلى تأمين وجبة غداء أساسية، ووجبتين للفطور والعشاء عند توافر الكميات، والتي تعتمد بشكل أساسي على المعونات وتبرعات أهالي المنطقة.

تقول أم عدي (اسم مستعار)، وافدة من الريف الشمالي: “السكن في المدارس مؤقت، لكنه لا يصلح للاستقرار، بخاصة وأننا على أبواب الشتاء”. وضعت أم عدي مولودها الرابع داخل إحدى المدارس، قبل أن تستضيفها سيدة من شهبا في منزلها خلال فترة التعافي، لعدم جاهزية المكان.

وعود تخدير ولا ضمانات حقيقيّة للعودة

مع بداية العام الدراسي، تحاول الجمعيات بالتنسيق مع مديرية التربية في السويداء، تأمين مساكن بديلة لنقل العائلات واستئناف العملية التعليمية، غير أن قسماً من الوافدين يرفضون المغادرة، مؤكدين أنهم لن يخرجوا إلا إلى منازلهم الأصلية، في محاولة للضغط على الجهات المعنية لإيجاد حلول جذرية. 

يقول حسان (اسم مستعار)، وافد يقيم في مدرسة مهنّا الشحف في شهبا: “اقترحوا علينا الانتقال إلى مركز أكبر، لكن المبنى غير مجهز وعدد الحمامات أقل، ما يعني زيادة معاناتنا”. ويضيف: “قبل أسبوعين، خرج وفد من منطقتنا للقاء الشيخ حكمت الهجري لمناقشة مصيرنا، وكان الرد: نفعل ما بوسعنا، لكن الأمر خرج من أيدينا وأصبح قضية دولية”.

حتى اليوم، يرفض الكثير من الأهالي العودة إلى مناطقهم الأصلية ، وعلى رغم دعوات المحافظ مصطفى البكور للعودة، تسود حالة من انعدام الثقة، إذ يرى كثيرون في هذه الدعوات محاولة لإخضاعهم أكثر، بخاصة في ظل غياب ضمانات حقيقية أو نية معلنة لجبر المتضررين، ما يضاعف شعور الأهالي بالعزلة والخذلان، ويزيد منه الحصار غير المباشر المطبق على المحافظة. 

ماذا عن التعليم؟ 

تركت المدارس المكتظة آلاف الطلاب بلا مقاعد دراسية، كما توقفت امتحانات البكالوريا بعدما قطعها الاجتياح، ولم تُستأنف حتى اليوم، وسط غياب خطة واضحة لإعادة التعليم إلى مساره. 

في محاولة للتعامل داخلياً مع الأزمة، بدأت مديرية التربية بإحصاء المدارس الفارغة وإعادة فرز المعلمين وفق اختصاصاتهم، يوضح الموجّه الاختصاصي لمادة الجغرافيا: “بدأنا بتوزيع المدرّسين، وباشرت بعض المدارس بالدوام، لكن الضغط كبير في المدن المزدحمة، لذلك نسعى الى تأمين نقل الأهالي من المدارس لضمان استمرارية التعليم للمراحل الدراسية كافة”.

تتضاعف التحديات مع اقتراب فصل الشتاء، فالمدارس غير مجهّزة للتدفئة أو الإيواء طويل الأمد، وأعداد النازحين الكبيرة تجعل أي محاولة لإعادة العملية التعليمية رهينة للواقع الإنساني، إذ يفتقر كثر من الطلاب إلى منازل مستقرة أو صفوف يمكنهم التعلم فيها. يضاف إليها أن رواتب المعلمين لم تُصرف منذ بداية الأحداث، حتى نسخ الكتب المعدلة لمناهج الديانة والجغرافيا والتاريخ لم تصل إلى السويداء حتى الآن.

أما عن امتحانات البكالوريا، فأوضحت مديرة التربية، ليلى جهجاه، أن المراكز مجهزة منذ قرابة الشهر، ويتم تقديم دورات مجانية ضمن مبادرات محلية، إلا أنه حتى الآن لم يصدر قرار وزاري بإجرائها، على رغم إصرار الطلاب والأهالي على خوضها.

 وأضافت جهجاه: “تكمن الصعوبات في وجود العائلات بالمدارس، والحلول يجب أن تبدأ بتأمين مبانٍ لائقة للوافدين أو بإزاحة الطلاب إلى المدارس في المناطق غير المكتظة، مؤكدة أن العمل جارٍ بشكل تمهيدي”. كما باشرت اللجان في مدينة السويداء يوم الأحد 28 أيلول/ سبتمبر، بنقل الأهالي من المدارس إلى قصر العدل، الذي يتمتع بمساحة واسعة تتيح استيعاب أعداد أكبر.

طائرة “درون” فوق المدرسة

لم تقتصر أزمة المدارس على النزوح، إذ يظل الخطر الأمني حاضراً، ففي قرية الهيت، وخلال الأيام الأولى لدوام الطلاب، حلّقت طائرة مسيّرة (درون) قادمة من تلة مقابلة، تمركزت فيها قوات سلطة دمشق. اقتربت المسيرة من باحة المدرسة، ما دفع الطلاب الى مغادرتها على عجل نتيجة الهلع، وعادة ما استخدمت هذه المُسيرات في عمليات الاقتحام، إذ تقوم بمسح جغرافي للمنطقة، كما يمكنها رمي القذائف بعد تحديد الأهداف بدقة.

 وتشير الحوادث الأخيرة إلى أن مناطق التماس لا تزال تحت تهديد محاولات الاقتحام والقصف والمسيرات، فمنذ أيام شهدت بلدة عتيل حادثة مشابهة أدت الى مقتل شاب بعدما استهدفته مسيرة من الأعلى، كما توفي شاب من شهبا في بداية الأحداث بعد إصابة مباشرة من الدرون.

صعوبات يوميّة في تأمين الاحتياجات

بدأت ملامح العجز تتكشف في السويداء، حيث يضطر الأهالي للتكيف ضمن حدود المتاح. تتفاقم الأزمة مع شح المياه الناتج من خروج آبار عدة عن الخدمة، وانقطاع الكهرباء اللازم لتشغيل المضخات، إضافة إلى نقص الوقود لنقل الصهاريج، بخاصة إلى مراكز الإيواء، كما تراجعت الواردات من المواد الأساسية، وعلى رأسها الطحين والغذاء.

يعتمد تأمين الطعام بشكل شبه كامل على التبرعات، ويشكل المغتربون والهلال الأحمر والقوافل الإنسانية المصدر الأكبر للدعم. ولتنظيم هذه الجهود شُكِّلت لجان محلية في كل قرية لتسجيل الاحتياجات وتوزيع ما يتوافر من مخزون أو مساعدات.

حالة الشلل في السويداء أوقفت الرواتب في معظم المؤسسات، وتراجعت الأعمال بفعل غياب السيولة وخروج المحافظة عن الخدمة. ويُعتبر المهجرون الأكثر تضرراً، بعدما فقدوا كل مصادر رزقهم وباتوا يعتمدون على التبرعات لتأمين احتياجاتهم الأساسية.

يتشارك كثر من سكان المحافظة منازلهم مع النازحين، ويتقاسمون ما توافر من مؤن بيوتهم، تقول أم عمر من قرية الهيت: “استضفنا في قريتنا 12 عائلة، وكل بيت قدم ما استطاع من طعام وفرش وثياب، لكن مع هذا الاستهلاك، لا يوجد دخل يضمن استمرار توفير الطعام، خصوصاً في غياب الرواتب والسلع، ونخشى من المرحلة المقبلة، فلا نستطيع تخزين المؤونة، على رغم أنها الاعتماد الأساسي في مناطقنا المعزولة والمقطوعة خلال الشتاء”. 

جنى بركات - صحافية لبنانية | 14.11.2025

“ستارلينك” لبنان: ما علاقتها بوزير الاتّصالات وبالشبهات المرتبطة بمعاقَب أميركياً؟ 

مع دخول "ستارلينك" إلى لبنان، برزت إشكالية حول مساعي الشركة الأميركية للتعاقد مع "Connect Services Liberia" كموزّع لخدمات "ستارلينك" في لبنان، من دون فتح باب المنافسة بين الشركات الأخرى، وهي الشركة التي سبق أن ترأّسها وزير الاتّصالات الحالي شارل الحاج. 
10.10.2025
زمن القراءة: 7 minutes

تتضاعف التحديات مع اقتراب فصل الشتاء، فالمدارس غير مجهّزة للتدفئة أو الإيواء طويل الأمد، وأعداد النازحين الكبيرة تجعل أي محاولة لإعادة العملية التعليمية رهينة للواقع الإنساني، إذ يفتقر كثر من الطلاب إلى منازل مستقرة أو صفوف يمكنهم التعلم فيها. يضاف إليها أن رواتب المعلمين لم تُصرف منذ بداية الأحداث، حتى نسخ الكتب المعدلة لمناهج الديانة والجغرافيا والتاريخ لم تصل إلى السويداء حتى الآن.

منذ أن وجّهت المجزرة بوصلتها نحو السويداء، لم تقتصر تداعياتها على الصدام العسكري فحسب، بل تسلّلت سريعاً إلى نسيج المحافظة الاجتماعي، لتعيد تشكيله على نحو مأساوي.  شهران ونصف الشهر كانت كافية لجعل السويداء مكانين منفصلين: نصف مدمّر ونصف آخر مكتظّ بالنازحين، يتخلل هذا الانفصال مشهد لمنازل معفّشة ومحروقة، آبار مردومة، بساتين مقطوعة، نزوح وطوابير ومآتم عزاء جماعية، وكأن الحرب عادت لتتكثّف في هذه البقعة الصغيرة.

بين 11 و12 تموز/ يوليو، شهد التوتر في جنوب سوريا بين الجماعات الدرزية المسلحة والمقاتلين من العشائر البدوية تصعيدًا أفضى إلى اشتباكات مسلحة. وفي 15 من الشهر نفسه، قالت القوات الحكومية إنها دخلت مدينة السويداء “لفرض الاستقرار” ففرضت حظر تجوُّل. وفي اليوم نفسه، شنّت إسرائيل غارات جوية على مركبات عسكرية سورية، فقتلت 15 فردًا على الأقل من القوات الحكومية. وقد تسببت التقارير الواردة حول انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها القوات الحكومية والقوات التابعة لها في السويداء، بتجدد القتال مع الجماعات المسلّحة الدرزيّة، ما أدى إلى تصعيد كبير للعنف انتهى بانسحاب القوات الحكومية في ساعة متأخرة من مساء 16 تموز. 

الهجمات خلفت عدداً كبيراً من الضحايا ودماراً وتدميراً لمنازل ومنشآت مدنيّة كثيرة.

وفيما لا تزال بعض المناطق تحت سيطرة سلطة دمشق منذ تموز الماضي، يغص النصف الثاني من المحافظة بأعداد مضاعفة من السكان، بعدما تحولت المدارس والصالات الرياضية ودور العبادة إلى ملاجئ جماعية، أو كما يفضّل أهالي السويداء تسميتها بـ”بيوت الاستضافة”.

البحث عن منزل

قضمت الهجمة العسكرية نحو أكثر من 36 بلدة وأجزاء من مركز المدينة، أي ما يعادل نحو نصف مساحة المحافظة، التي يبلغ عدد سكانها نحو 550 ألف نسمة. وبحسب مدير مراكز الإيواء في السويداء، أشرف منذر، فقد أسفر الهجوم عن تشريد حوالى 192 ألفاً منهم، أي قرابة ثلث السكان يتوزعون اليوم داخل المحافظة وخارجها.

يروي أبو طلال، وهو نازح من قرية رضمية اللواء، تفاصيل اللحظات الأولى من نزوحه: “بدأ الهجوم ليلاً بينما كنا نستعد للنوم، لنجد أنفسنا تحت قذائف الهاون والرصاص، حملت أنا وزوجتي طفلينا النائمين وركضنا خارجاً، لم نأخذ معنا شيئاً، لا نقود ولا هويات، فقط ما كنا نرتديه”.

الهجوم المباغت من أطراف المحافظة دفع الأهالي إلى الهروب نحو الداخل، تجمّع السكان عند مداخل القرى، وبدأوا بالخروج تباعاً عبر وسائل النقل المتاحة. كانت عائلة أبو طلال آخر المغادرين، إذ انطلقوا بدراجتهم نحو مدينة شهبا، تقول زوجته: “كان المسلحون خلفنا، والهاون فوقنا، والقناص أمامنا عند تقاطع الطريق المؤدي إلى شهبا، وضعنا الأطفال بيننا، غطيناهم وهربنا”.

وصلت العائلة إلى ملعب شهبا البلدي، حيث أمضت أياماً عدة قبل أن تنتقل إلى منزل صغير مكوّن من غرفة واحدة في إحدى القرى المجاورة، فالصالات التي تحولت إلى مراكز إيواء لم تكن مهيأة للسكن، لا خصوصية ولا خدمات ولا مساحات كافية. ومع التدفق المستمر للنازحين، اضطرت بعض العائلات إلى افتراش جوانب الطرق بانتظار مأوى، فيما استضيف البعض لدى أقاربهم، بينما بقي كثيرون في الصالات.

تواجه السويداء اليوم أزمة سكن حادة، إذ تجاوز عدد الوافدين الطاقة الاستيعابية للمنازل المتاحة، في محافظة ذات بنى تحتية محدودة يغلب عليها الطابع الريفي. بات العثور على مسكن مهمة شبه مستحيلة، ما دفع الأهالي إلى استغلال أي مساحة مغلقة كمأوى. قدّم بعض المغتربين منازلهم للمتضررين، وتحولت المراكز الثقافية والروضات والمكاتب والمحال التجارية والأقبية إلى مساكن بديلة، وحتى الأبنية غير المكتملة وجدت فيها العائلات مأوى بعد إغلاق نوافذها وأبوابها بما توافر من أغطية وشوادر، وفرش أرضها بما تيسّر من تبرعات الأهالي.

المدارس… قرى صغيرة 

يبلغ عدد مراكز الإيواء في المحافظة حالياً نحو 90 مركزاً، فيما يسجّل الإحصاء الداخلي أن عدد المستفيدين من هذه المراكز يتراوح بين 12 ألفاً و12.5 ألف شخص. في مدينة شهبا، وصل عدد مراكز الإيواء الرئيسية إلى خمسة، تضم نحو 1500 شخص، من بينها (3) مدارس، أما في مدينة السويداء فقد تحولت نحو (19) مدرسة إلى ملاجئ جماعية.

أصبحت الصفوف الدراسية أشبه ببيوت متجاورة، كل غرفة تختصر منزلاً وعائلة كاملة، كما خُصصت بعض الصفوف للمسنين، أنشأت إدارات المراكز فرقاً للتنظيف والطبخ، فيما تتولى لجان تطوعية تقديم خدمات طبية ونفسية، إضافة إلى تأمين وجبة غداء أساسية، ووجبتين للفطور والعشاء عند توافر الكميات، والتي تعتمد بشكل أساسي على المعونات وتبرعات أهالي المنطقة.

تقول أم عدي (اسم مستعار)، وافدة من الريف الشمالي: “السكن في المدارس مؤقت، لكنه لا يصلح للاستقرار، بخاصة وأننا على أبواب الشتاء”. وضعت أم عدي مولودها الرابع داخل إحدى المدارس، قبل أن تستضيفها سيدة من شهبا في منزلها خلال فترة التعافي، لعدم جاهزية المكان.

وعود تخدير ولا ضمانات حقيقيّة للعودة

مع بداية العام الدراسي، تحاول الجمعيات بالتنسيق مع مديرية التربية في السويداء، تأمين مساكن بديلة لنقل العائلات واستئناف العملية التعليمية، غير أن قسماً من الوافدين يرفضون المغادرة، مؤكدين أنهم لن يخرجوا إلا إلى منازلهم الأصلية، في محاولة للضغط على الجهات المعنية لإيجاد حلول جذرية. 

يقول حسان (اسم مستعار)، وافد يقيم في مدرسة مهنّا الشحف في شهبا: “اقترحوا علينا الانتقال إلى مركز أكبر، لكن المبنى غير مجهز وعدد الحمامات أقل، ما يعني زيادة معاناتنا”. ويضيف: “قبل أسبوعين، خرج وفد من منطقتنا للقاء الشيخ حكمت الهجري لمناقشة مصيرنا، وكان الرد: نفعل ما بوسعنا، لكن الأمر خرج من أيدينا وأصبح قضية دولية”.

حتى اليوم، يرفض الكثير من الأهالي العودة إلى مناطقهم الأصلية ، وعلى رغم دعوات المحافظ مصطفى البكور للعودة، تسود حالة من انعدام الثقة، إذ يرى كثيرون في هذه الدعوات محاولة لإخضاعهم أكثر، بخاصة في ظل غياب ضمانات حقيقية أو نية معلنة لجبر المتضررين، ما يضاعف شعور الأهالي بالعزلة والخذلان، ويزيد منه الحصار غير المباشر المطبق على المحافظة. 

ماذا عن التعليم؟ 

تركت المدارس المكتظة آلاف الطلاب بلا مقاعد دراسية، كما توقفت امتحانات البكالوريا بعدما قطعها الاجتياح، ولم تُستأنف حتى اليوم، وسط غياب خطة واضحة لإعادة التعليم إلى مساره. 

في محاولة للتعامل داخلياً مع الأزمة، بدأت مديرية التربية بإحصاء المدارس الفارغة وإعادة فرز المعلمين وفق اختصاصاتهم، يوضح الموجّه الاختصاصي لمادة الجغرافيا: “بدأنا بتوزيع المدرّسين، وباشرت بعض المدارس بالدوام، لكن الضغط كبير في المدن المزدحمة، لذلك نسعى الى تأمين نقل الأهالي من المدارس لضمان استمرارية التعليم للمراحل الدراسية كافة”.

تتضاعف التحديات مع اقتراب فصل الشتاء، فالمدارس غير مجهّزة للتدفئة أو الإيواء طويل الأمد، وأعداد النازحين الكبيرة تجعل أي محاولة لإعادة العملية التعليمية رهينة للواقع الإنساني، إذ يفتقر كثر من الطلاب إلى منازل مستقرة أو صفوف يمكنهم التعلم فيها. يضاف إليها أن رواتب المعلمين لم تُصرف منذ بداية الأحداث، حتى نسخ الكتب المعدلة لمناهج الديانة والجغرافيا والتاريخ لم تصل إلى السويداء حتى الآن.

أما عن امتحانات البكالوريا، فأوضحت مديرة التربية، ليلى جهجاه، أن المراكز مجهزة منذ قرابة الشهر، ويتم تقديم دورات مجانية ضمن مبادرات محلية، إلا أنه حتى الآن لم يصدر قرار وزاري بإجرائها، على رغم إصرار الطلاب والأهالي على خوضها.

 وأضافت جهجاه: “تكمن الصعوبات في وجود العائلات بالمدارس، والحلول يجب أن تبدأ بتأمين مبانٍ لائقة للوافدين أو بإزاحة الطلاب إلى المدارس في المناطق غير المكتظة، مؤكدة أن العمل جارٍ بشكل تمهيدي”. كما باشرت اللجان في مدينة السويداء يوم الأحد 28 أيلول/ سبتمبر، بنقل الأهالي من المدارس إلى قصر العدل، الذي يتمتع بمساحة واسعة تتيح استيعاب أعداد أكبر.

طائرة “درون” فوق المدرسة

لم تقتصر أزمة المدارس على النزوح، إذ يظل الخطر الأمني حاضراً، ففي قرية الهيت، وخلال الأيام الأولى لدوام الطلاب، حلّقت طائرة مسيّرة (درون) قادمة من تلة مقابلة، تمركزت فيها قوات سلطة دمشق. اقتربت المسيرة من باحة المدرسة، ما دفع الطلاب الى مغادرتها على عجل نتيجة الهلع، وعادة ما استخدمت هذه المُسيرات في عمليات الاقتحام، إذ تقوم بمسح جغرافي للمنطقة، كما يمكنها رمي القذائف بعد تحديد الأهداف بدقة.

 وتشير الحوادث الأخيرة إلى أن مناطق التماس لا تزال تحت تهديد محاولات الاقتحام والقصف والمسيرات، فمنذ أيام شهدت بلدة عتيل حادثة مشابهة أدت الى مقتل شاب بعدما استهدفته مسيرة من الأعلى، كما توفي شاب من شهبا في بداية الأحداث بعد إصابة مباشرة من الدرون.

صعوبات يوميّة في تأمين الاحتياجات

بدأت ملامح العجز تتكشف في السويداء، حيث يضطر الأهالي للتكيف ضمن حدود المتاح. تتفاقم الأزمة مع شح المياه الناتج من خروج آبار عدة عن الخدمة، وانقطاع الكهرباء اللازم لتشغيل المضخات، إضافة إلى نقص الوقود لنقل الصهاريج، بخاصة إلى مراكز الإيواء، كما تراجعت الواردات من المواد الأساسية، وعلى رأسها الطحين والغذاء.

يعتمد تأمين الطعام بشكل شبه كامل على التبرعات، ويشكل المغتربون والهلال الأحمر والقوافل الإنسانية المصدر الأكبر للدعم. ولتنظيم هذه الجهود شُكِّلت لجان محلية في كل قرية لتسجيل الاحتياجات وتوزيع ما يتوافر من مخزون أو مساعدات.

حالة الشلل في السويداء أوقفت الرواتب في معظم المؤسسات، وتراجعت الأعمال بفعل غياب السيولة وخروج المحافظة عن الخدمة. ويُعتبر المهجرون الأكثر تضرراً، بعدما فقدوا كل مصادر رزقهم وباتوا يعتمدون على التبرعات لتأمين احتياجاتهم الأساسية.

يتشارك كثر من سكان المحافظة منازلهم مع النازحين، ويتقاسمون ما توافر من مؤن بيوتهم، تقول أم عمر من قرية الهيت: “استضفنا في قريتنا 12 عائلة، وكل بيت قدم ما استطاع من طعام وفرش وثياب، لكن مع هذا الاستهلاك، لا يوجد دخل يضمن استمرار توفير الطعام، خصوصاً في غياب الرواتب والسلع، ونخشى من المرحلة المقبلة، فلا نستطيع تخزين المؤونة، على رغم أنها الاعتماد الأساسي في مناطقنا المعزولة والمقطوعة خلال الشتاء”. 

10.10.2025
زمن القراءة: 7 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية