fbpx

مدحت باشا العثماني في بيروت

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ربما ليس منصفاً أن ألوم هذا الفتى الأرمني الشاب الذين كنته بسبب المشاعر السلبية التي أَضمرْتها نحو العثمانيين: فقد ولد جميع أجدادي الأربعة في ظل الإمبراطورية العثمانية -ما يعرف الآن بتركيا- وقامت دولتهم بترحيلهم قسراً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أثناء نشأتي في بيروت، “كنت ألتقي” مدحت باشا يومياً لسنوات عدة. فالشارع الذي يقع فيه منزل عائلتي سُمي تيمناً به: شارع مدحت باشا. وعلى رغم ذلك لم أكن أعرف الكثير عنه، أو بالأحرى لم أكن مُهتماً بمعرفته. الشيء الوحيد الذي عرفته عن الباشا هو أنه كان من كبار الشخصيات العثمانية المرموقة، وذلك كان كافياً لإثارة الكراهية والنفور الشديد تجاهه في نفسي.

ربما ليس منصفاً أن ألوم هذا الفتى الأرمني الشاب الذين كنته حينئذ بسبب المشاعر السلبية التي أَضمرْتها نحو العثمانيين: فقد ولد جميع أجدادي الأربعة في ظل الإمبراطورية العثمانية -ما يعرف الآن بتركيا- وقامت دولتهم بترحيلهم قسراً، وشردت أو قتلت أغلب أفراد أسرهم. لقد دمر العثمانيون قطاعاً كبيراً من قومي، ومجرد التفكير في الماضي، واستحضار تلك العصور المظلمة، لم يسبب لي سوى الألم والكراهية.

مدحت باشا

بعد سنوات، بينما كنت أدرس تاريخ القرن التاسع عشر، “التقيت” مِدحت باشا مجدداً. هذه المرة حظينا بتعارف لائق، تعرفت خلالها إليه، وإلى ما يمثله. وسرعان ما أصبحت واحداً من أشد معجبيه؛ وأتذكر أنني أخبرت أحد أصدقائي أن مدحت بَاشا “بطلي”. إذا كان يُمكن اعتباره بطلاً، فقد كان بطلاً مأساوياً.

خلال تلك السنوات، كنت لا أزال مستمراً في بحثي حول العالم قبل الحرب العالمية الأولى، وكلما عدت إلى بيروت سألت أصدقائي عما إذا كانوا يعرفون من هو مِدحت بَاشا. لم يكن لدى معظم أصدقائي في بيروت، من صحافيين أو كُتّاب أو مُفكرين أو عسكريين، سوى إجابة واحدة،  فلم يكن لدّى أحد أيّ فكرة عمن هو مدحت باشا. لم أكن الشاب الأرمني الوحيد في صغري الذي لم يكن يعرفه، بل إن أصدقائي الذين ينتمون إلى مختلف الطوائف التي تُشكل المجتمع اللبناني، لم يعرفوا من هو هذا البَاشا العثماني، ولا ما كان يفعله في شوارع بيروت.

راودتني عندئذ فكرة أخرى: على رغم أننا نعيش مع العثمانيين، لم نكن نعرف من هم، أو ماذا كانوا يفعلون بيننا. فقد ورث لبنان نظام المِلَل العثماني وحوّله إلى تلك الطائفية المعاصرة التي نعاني منها يومياً، ومع ذلك لم تكن لدينا أدنى فكرة عن كيفية وقوع هذه الكارثة لنا. يُمكن القول إن هذا لم يكن حالنا نحن اللبنانيين فقط، بل كان ذلك الوضع السائد على جميع الرعايا في مرحلة ما بعد الإمبراطورية العثمانية. إذ لم يتمكن “الرعايا” في أعقاب تلك الإمبراطورية من أن يصبحوا “مواطنين”.

إن لم نكن نعرف ماضينا، وهو الطريق الذي اختير لنا لإيصالنا إلى ما نحن عليه الآن، فكيف يمكننا التصدّي للمشكلات التي تواجهنا؟

لا شك في أن مدحت بَاشا (1822-1883) هو أبو الدستور العثماني لعام 1876 الذي كثيراً ما يُشار إليه اختصاراً باسم “دستور مدحت”. كان ذلك تتويجاً لعصر التنظيمات العثمانية -أو “فترة الإصلاحات” التي تُمثل النسخة العثمانية من “البيريسترويكا”- في محاولة هائلة لتحويل واحدة من إمبراطوريات الحقبة الحديثة المبكرة إلى إمبراطورية عصرية، من أجل تجنب تعرضها للغزو من الخارج، أو تمزقها بفعل الثورات الداخلية، مثل الثورة اليونانية أو التحدي الذي شكله محمد علي والي مصر. يُعد مدحت آخر الإصلاحيين العثمانيين الأربعة المرموقين، على رأسهم رشيد بَاشا، وعلي باشا، وفؤاد باشا، الذين وضعوا أسس المؤسسات الحديثة في الإمبراطورية العثمانية، بدءاً من التعليم العلماني والعام، والتجنيد الإجباري في الجيش ووصلاً إلى التخطيط العمراني.

على رغم أننا نعيش مع العثمانيين، لم نكن نعرف من هم، أو ماذا كانوا يفعلون بيننا.

وعلى النقيض من الإصلاحيين الثلاثة الآخرين، لم يبدأ مِدحت حياته المهنية في وزارة الخارجية العثمانية، بل في إدارة المقاطعات. وعام 1861 عين والياً على نيش، وهي مدينة تقع الآن في أنحاء جنوب صربيا وشمال غربي بلغاريا، ثم والياً على مقاطعة الدانوب (1864-1868). وعام 1869 نقل والياً على بغداد. وشغل مرتين منصب الصدر الأعظم، وهو أعلى منصب في الإمبراطورية بعد السلطان، أولاً في عهد السلطان عبد العزيز، ثم في عهد السلطان عبد الحميد الثاني.

لُقب مدحت أيضاً باسم “أبو الأحرار والمُطِيح بالسلاطين”. فعام 1876 – وهو العام الذي مر فيه التاريخ سريعاً فجأة، “عام السلاطين الثلاثة” – حين تعرضت الإمبراطورية مرة أخرى للخطر، فقد تلفت المحاصيل، وحدث عجز عن سداد الديون الخارجية، واندلعت التمردات من الهرسك إلى بلغاريا، والمذابح التي أعقبت نشر القوات، وتهديدات القوى الأوروبية بالتدخل – حينها قرر تحالف من الوزراء الإطاحة بالسلطان عبد العزيز، على أمل استبداله بالخليفة الليبرالي السلطان مراد الخامس الذي تبين بعد ذلك أنه غير مستقر نفسياً، وبعد ثلاثة أشهر تسلم السلطان عبد الحميد الثاني السلطة.

لعب مِدحت بَاشا دوراً رئيسياً في تولي عبد الحميد الثاني السلطة، على أمل تأسيس نظام ملكي دستوري. إلا أن ذلك كان انتصاراً باهظ الثمن؛  فقد أقر السلطان الدستور في البداية، ثم ما لبث أن علق العمل به بعد فترة وجيزة، وأرسل مدحت مرة أخرى لإدارة المقاطعات، ثم اعتقله في ما بعد، ونفاه إلى الطائف، واغتاله في السجن. لينتهي بذلك تاريخ مدحت، والبشائر المرجوة من التنظيمات العثمانية.

بيروت قديماً

باغتيال مدحت باشا، تغير تاريخ الشرق الأوسط بأكمله، إذ حلت محل النهج العالمي الذي تبناه مدحت باشا أيديولوجية عبد الحميد الثاني المستندة إلى الوحدة الإسلامية (بالمناسبة، هذه الأيديولوجية مستوحاة من حركات الوحدة الأوروبية مثل حركة الوحدة الجرمانية وحركة الوحدة السلافية). وبدلاً من سيادة حكم القانون من خلال الدستور، أسس السلطان عبد الحميد دولة بوليسية مبنية على القمع والرقابة. استمر السلطان عبد الحميد في مساعي تحديث الدولة وإنشاء دولة مركزية والتعليم العام والأشغال العامة. لكن بدلاً من أن يستند التحديث والتقدم إلى حكم القانون والحريات الشخصية، استند إلى الحكم الاستبدادي الذي بات يمتلك الآن أداة قوية وخطيرة وهي عصرية الدولة وقوتها.

قادتني دراستي التاريخ الأرمني إلى اكتشاف مدحت باشا ومعرفة المزيد عنه. وكانت القضية التي تثير اهتمامي هي الدستور الوطني الأرمني أو تشريع الملة الأرمنية الذي توصلت إليه الطائفة عام 1860 وأقرَّته السلطات العثمانية عام 1863. لقد كنت مفتوناً بفكرة أن الأرمن العثمانيين طوروا دستورهم الخاص قبل أن تضع الإمبراطورية العثمانية دستورها بعقد ونصف العقد، لكنني اكتشفت رابطاً أصيلاً بين الدستورين. كتب الديبلوماسي ورجل السياسة العثماني الألباني إسماعيل كمال بك في مذكراته أن الإصلاحيين العثمانيين عقب حرب القرم سعوا إلى وضع دستور للإمبراطورية، ومن ثَم “منحوا الكنيسة والطائفة الأرمنية نظاماً مبنياً على القانون الأساسي الذي وُضع كتجربة في صياغة الدساتير وكان من المزمع أن يشكل نموذجاً للاستخدام في ما بعد”. مثَّل دستور الملة الأرمنية “تجربة” للاستعداد للمهمة الأكثر خطورة. ونجد من بين الناشطين في حركة صوغ الدستور العثماني شخصيات رئيسية لعبت دوراً مهماً في وضع الدستور الوطني الأرمني. أبرزهم المحامي الأرمني كريكور أوديان صديق مدحت باشا القديم والمعاون الذي كان واحداً من المؤلفين الثمانية الذين شرحوا دستور 1876. لم يكن أوديان الشخصية الوحيدة، بل كان لكل الباشوات الإصلاحيين الأربعة مستشارون ومعاونون من الأرمن. فقد كان الأرمني مغرديتش جيزيرليان، المصرفي الذي موَّل رشيد باشا كما كان أيضاً صديقه الحميم. وكان المصرفي الذي يعتمد عليه فؤاد باشا الأرمني أوهانس أفندي. وبالعودة إلى الحديث عن لبنان، بُعث معاون فؤاد باشا، الأرمني الكاثوليكي أبرو أفندي، إلى سوريا عقب الحرب الأهلية عام 1860 للتفاوض مع السلطات المحلية والقوى الأوروبية لإيجاد حل للأزمة، وقام بوضع الأسس التي قام عليها لبنان الحديث. وكان أول حاكم للبنان (المتصرف) والمعروف باسم داود باشا بالعربية (قره بت آرتين باشا داوديان بالأرمنية) أيضاً أحد الإداريين الأرمن الكاثوليك.

الواقع أن تاريخ مدحت باشا والإصلاحات العثمانية والمساهمات الأرمنية الكبيرة في هذه الإصلاحات، يزيد من صعوبة تفسير تاريخ العنف ضد الأرمن. لأن ذلك يجعل من مذابح الأرمن حدثاً سياسياً مشروطاً يحتم وجود تفسير تاريخي. ما الذي حدث وجعل طائفة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتنظيمات (الإصلاحات) يُنظر إليها بوصفها تهديداً تحت حكم السلطان عبد الحميد. من التفسيرات الممكنة تخلي العثمانيين عن مشروع بناء دولة تستند إلى المساواة وحكم القانون واستبدالها بدولة بوليسية، وهو مشروع يتعارض مع مطالب الأرمن الإصلاحية.

لم يبدأ مِدحت حياته المهنية في وزارة الخارجية العثمانية، بل في إدارة المقاطعات.

قبل الختام، ما الذي كان يفعله مدحت باشا في بيروت، ولماذا أُطلق اسمه على هذا الشارع بالذات؟ عام 1878، عين السلطان عبد الحميد مدحت باشا حاكماً على سوريا وقد حكمها لمدة 20 شهراً من مقره في دمشق. وخلال سنوات حكمه القليلة، ترك مدحت باشا خلفه سلسلة من الإصلاحات مثل تلك التي أجراها في البلقان وبغداد، بدءاً من تعزيز استقلالية الإدارة المحلية والإصلاحات الضريبية وحتى التشجيع على التعليم. وقد كان متسامحاً للغاية، بخاصة مع النخبة العربية المثقفة التي هاجرت حديثاً كما تشير قضية “لافتات بيروت”. وتقديراً لعمل مدحت باشا بوصفه آخر الإصلاحيين العثمانيين العظماء والقوة الدافعة لوضع الدستور العثمانيين، لا يزال اسمه يُذكر الآن في بيروت وكذلك في دمشق فهناك شارع في محيط أسواق الحميدية يحمل اسم “سوق مدحت باشا”.

وفي بيروت أيضاً، يعيش مدحت باشا بالقرب من غريمه السلطان عبد الحميد، على بُعد أمتار وفي قلب حدائق الصنائع توجد النافورة الحميدية والمنقوش عليها بوضوح طغراء السلطان عبد الحميد.

لا تزال شعوب الشرق الأوسط كلها تعاني من تبعات انهيار الدولة العثمانية والذي دفع الأرمن بسببه أغلى الأثمان. لقد كان الانهيار والعنف والتغيرات من القوة بمكان لدرجة تجعلنا عاجزين عن تخيل كيف كانت الحياة قبل حلول هذا الظلام. ما زلنا نعيش في عالم العثمانيين وما زال لدينا الخيار بين السلطان عبد الحميد وبين مدحت باشا. وحتى هذه اللحظة، يبدو أن الفائز هو السلطان عبد الحميد.

ربما ليس منصفاً أن ألوم هذا الفتى الأرمني الشاب الذين كنته بسبب المشاعر السلبية التي أَضمرْتها نحو العثمانيين: فقد ولد جميع أجدادي الأربعة في ظل الإمبراطورية العثمانية -ما يعرف الآن بتركيا- وقامت دولتهم بترحيلهم قسراً.

أثناء نشأتي في بيروت، “كنت ألتقي” مدحت باشا يومياً لسنوات عدة. فالشارع الذي يقع فيه منزل عائلتي سُمي تيمناً به: شارع مدحت باشا. وعلى رغم ذلك لم أكن أعرف الكثير عنه، أو بالأحرى لم أكن مُهتماً بمعرفته. الشيء الوحيد الذي عرفته عن الباشا هو أنه كان من كبار الشخصيات العثمانية المرموقة، وذلك كان كافياً لإثارة الكراهية والنفور الشديد تجاهه في نفسي.

ربما ليس منصفاً أن ألوم هذا الفتى الأرمني الشاب الذين كنته حينئذ بسبب المشاعر السلبية التي أَضمرْتها نحو العثمانيين: فقد ولد جميع أجدادي الأربعة في ظل الإمبراطورية العثمانية -ما يعرف الآن بتركيا- وقامت دولتهم بترحيلهم قسراً، وشردت أو قتلت أغلب أفراد أسرهم. لقد دمر العثمانيون قطاعاً كبيراً من قومي، ومجرد التفكير في الماضي، واستحضار تلك العصور المظلمة، لم يسبب لي سوى الألم والكراهية.

مدحت باشا

بعد سنوات، بينما كنت أدرس تاريخ القرن التاسع عشر، “التقيت” مِدحت باشا مجدداً. هذه المرة حظينا بتعارف لائق، تعرفت خلالها إليه، وإلى ما يمثله. وسرعان ما أصبحت واحداً من أشد معجبيه؛ وأتذكر أنني أخبرت أحد أصدقائي أن مدحت بَاشا “بطلي”. إذا كان يُمكن اعتباره بطلاً، فقد كان بطلاً مأساوياً.

خلال تلك السنوات، كنت لا أزال مستمراً في بحثي حول العالم قبل الحرب العالمية الأولى، وكلما عدت إلى بيروت سألت أصدقائي عما إذا كانوا يعرفون من هو مِدحت بَاشا. لم يكن لدى معظم أصدقائي في بيروت، من صحافيين أو كُتّاب أو مُفكرين أو عسكريين، سوى إجابة واحدة،  فلم يكن لدّى أحد أيّ فكرة عمن هو مدحت باشا. لم أكن الشاب الأرمني الوحيد في صغري الذي لم يكن يعرفه، بل إن أصدقائي الذين ينتمون إلى مختلف الطوائف التي تُشكل المجتمع اللبناني، لم يعرفوا من هو هذا البَاشا العثماني، ولا ما كان يفعله في شوارع بيروت.

راودتني عندئذ فكرة أخرى: على رغم أننا نعيش مع العثمانيين، لم نكن نعرف من هم، أو ماذا كانوا يفعلون بيننا. فقد ورث لبنان نظام المِلَل العثماني وحوّله إلى تلك الطائفية المعاصرة التي نعاني منها يومياً، ومع ذلك لم تكن لدينا أدنى فكرة عن كيفية وقوع هذه الكارثة لنا. يُمكن القول إن هذا لم يكن حالنا نحن اللبنانيين فقط، بل كان ذلك الوضع السائد على جميع الرعايا في مرحلة ما بعد الإمبراطورية العثمانية. إذ لم يتمكن “الرعايا” في أعقاب تلك الإمبراطورية من أن يصبحوا “مواطنين”.

إن لم نكن نعرف ماضينا، وهو الطريق الذي اختير لنا لإيصالنا إلى ما نحن عليه الآن، فكيف يمكننا التصدّي للمشكلات التي تواجهنا؟

لا شك في أن مدحت بَاشا (1822-1883) هو أبو الدستور العثماني لعام 1876 الذي كثيراً ما يُشار إليه اختصاراً باسم “دستور مدحت”. كان ذلك تتويجاً لعصر التنظيمات العثمانية -أو “فترة الإصلاحات” التي تُمثل النسخة العثمانية من “البيريسترويكا”- في محاولة هائلة لتحويل واحدة من إمبراطوريات الحقبة الحديثة المبكرة إلى إمبراطورية عصرية، من أجل تجنب تعرضها للغزو من الخارج، أو تمزقها بفعل الثورات الداخلية، مثل الثورة اليونانية أو التحدي الذي شكله محمد علي والي مصر. يُعد مدحت آخر الإصلاحيين العثمانيين الأربعة المرموقين، على رأسهم رشيد بَاشا، وعلي باشا، وفؤاد باشا، الذين وضعوا أسس المؤسسات الحديثة في الإمبراطورية العثمانية، بدءاً من التعليم العلماني والعام، والتجنيد الإجباري في الجيش ووصلاً إلى التخطيط العمراني.

على رغم أننا نعيش مع العثمانيين، لم نكن نعرف من هم، أو ماذا كانوا يفعلون بيننا.

وعلى النقيض من الإصلاحيين الثلاثة الآخرين، لم يبدأ مِدحت حياته المهنية في وزارة الخارجية العثمانية، بل في إدارة المقاطعات. وعام 1861 عين والياً على نيش، وهي مدينة تقع الآن في أنحاء جنوب صربيا وشمال غربي بلغاريا، ثم والياً على مقاطعة الدانوب (1864-1868). وعام 1869 نقل والياً على بغداد. وشغل مرتين منصب الصدر الأعظم، وهو أعلى منصب في الإمبراطورية بعد السلطان، أولاً في عهد السلطان عبد العزيز، ثم في عهد السلطان عبد الحميد الثاني.

لُقب مدحت أيضاً باسم “أبو الأحرار والمُطِيح بالسلاطين”. فعام 1876 – وهو العام الذي مر فيه التاريخ سريعاً فجأة، “عام السلاطين الثلاثة” – حين تعرضت الإمبراطورية مرة أخرى للخطر، فقد تلفت المحاصيل، وحدث عجز عن سداد الديون الخارجية، واندلعت التمردات من الهرسك إلى بلغاريا، والمذابح التي أعقبت نشر القوات، وتهديدات القوى الأوروبية بالتدخل – حينها قرر تحالف من الوزراء الإطاحة بالسلطان عبد العزيز، على أمل استبداله بالخليفة الليبرالي السلطان مراد الخامس الذي تبين بعد ذلك أنه غير مستقر نفسياً، وبعد ثلاثة أشهر تسلم السلطان عبد الحميد الثاني السلطة.

لعب مِدحت بَاشا دوراً رئيسياً في تولي عبد الحميد الثاني السلطة، على أمل تأسيس نظام ملكي دستوري. إلا أن ذلك كان انتصاراً باهظ الثمن؛  فقد أقر السلطان الدستور في البداية، ثم ما لبث أن علق العمل به بعد فترة وجيزة، وأرسل مدحت مرة أخرى لإدارة المقاطعات، ثم اعتقله في ما بعد، ونفاه إلى الطائف، واغتاله في السجن. لينتهي بذلك تاريخ مدحت، والبشائر المرجوة من التنظيمات العثمانية.

بيروت قديماً

باغتيال مدحت باشا، تغير تاريخ الشرق الأوسط بأكمله، إذ حلت محل النهج العالمي الذي تبناه مدحت باشا أيديولوجية عبد الحميد الثاني المستندة إلى الوحدة الإسلامية (بالمناسبة، هذه الأيديولوجية مستوحاة من حركات الوحدة الأوروبية مثل حركة الوحدة الجرمانية وحركة الوحدة السلافية). وبدلاً من سيادة حكم القانون من خلال الدستور، أسس السلطان عبد الحميد دولة بوليسية مبنية على القمع والرقابة. استمر السلطان عبد الحميد في مساعي تحديث الدولة وإنشاء دولة مركزية والتعليم العام والأشغال العامة. لكن بدلاً من أن يستند التحديث والتقدم إلى حكم القانون والحريات الشخصية، استند إلى الحكم الاستبدادي الذي بات يمتلك الآن أداة قوية وخطيرة وهي عصرية الدولة وقوتها.

قادتني دراستي التاريخ الأرمني إلى اكتشاف مدحت باشا ومعرفة المزيد عنه. وكانت القضية التي تثير اهتمامي هي الدستور الوطني الأرمني أو تشريع الملة الأرمنية الذي توصلت إليه الطائفة عام 1860 وأقرَّته السلطات العثمانية عام 1863. لقد كنت مفتوناً بفكرة أن الأرمن العثمانيين طوروا دستورهم الخاص قبل أن تضع الإمبراطورية العثمانية دستورها بعقد ونصف العقد، لكنني اكتشفت رابطاً أصيلاً بين الدستورين. كتب الديبلوماسي ورجل السياسة العثماني الألباني إسماعيل كمال بك في مذكراته أن الإصلاحيين العثمانيين عقب حرب القرم سعوا إلى وضع دستور للإمبراطورية، ومن ثَم “منحوا الكنيسة والطائفة الأرمنية نظاماً مبنياً على القانون الأساسي الذي وُضع كتجربة في صياغة الدساتير وكان من المزمع أن يشكل نموذجاً للاستخدام في ما بعد”. مثَّل دستور الملة الأرمنية “تجربة” للاستعداد للمهمة الأكثر خطورة. ونجد من بين الناشطين في حركة صوغ الدستور العثماني شخصيات رئيسية لعبت دوراً مهماً في وضع الدستور الوطني الأرمني. أبرزهم المحامي الأرمني كريكور أوديان صديق مدحت باشا القديم والمعاون الذي كان واحداً من المؤلفين الثمانية الذين شرحوا دستور 1876. لم يكن أوديان الشخصية الوحيدة، بل كان لكل الباشوات الإصلاحيين الأربعة مستشارون ومعاونون من الأرمن. فقد كان الأرمني مغرديتش جيزيرليان، المصرفي الذي موَّل رشيد باشا كما كان أيضاً صديقه الحميم. وكان المصرفي الذي يعتمد عليه فؤاد باشا الأرمني أوهانس أفندي. وبالعودة إلى الحديث عن لبنان، بُعث معاون فؤاد باشا، الأرمني الكاثوليكي أبرو أفندي، إلى سوريا عقب الحرب الأهلية عام 1860 للتفاوض مع السلطات المحلية والقوى الأوروبية لإيجاد حل للأزمة، وقام بوضع الأسس التي قام عليها لبنان الحديث. وكان أول حاكم للبنان (المتصرف) والمعروف باسم داود باشا بالعربية (قره بت آرتين باشا داوديان بالأرمنية) أيضاً أحد الإداريين الأرمن الكاثوليك.

الواقع أن تاريخ مدحت باشا والإصلاحات العثمانية والمساهمات الأرمنية الكبيرة في هذه الإصلاحات، يزيد من صعوبة تفسير تاريخ العنف ضد الأرمن. لأن ذلك يجعل من مذابح الأرمن حدثاً سياسياً مشروطاً يحتم وجود تفسير تاريخي. ما الذي حدث وجعل طائفة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتنظيمات (الإصلاحات) يُنظر إليها بوصفها تهديداً تحت حكم السلطان عبد الحميد. من التفسيرات الممكنة تخلي العثمانيين عن مشروع بناء دولة تستند إلى المساواة وحكم القانون واستبدالها بدولة بوليسية، وهو مشروع يتعارض مع مطالب الأرمن الإصلاحية.

لم يبدأ مِدحت حياته المهنية في وزارة الخارجية العثمانية، بل في إدارة المقاطعات.

قبل الختام، ما الذي كان يفعله مدحت باشا في بيروت، ولماذا أُطلق اسمه على هذا الشارع بالذات؟ عام 1878، عين السلطان عبد الحميد مدحت باشا حاكماً على سوريا وقد حكمها لمدة 20 شهراً من مقره في دمشق. وخلال سنوات حكمه القليلة، ترك مدحت باشا خلفه سلسلة من الإصلاحات مثل تلك التي أجراها في البلقان وبغداد، بدءاً من تعزيز استقلالية الإدارة المحلية والإصلاحات الضريبية وحتى التشجيع على التعليم. وقد كان متسامحاً للغاية، بخاصة مع النخبة العربية المثقفة التي هاجرت حديثاً كما تشير قضية “لافتات بيروت”. وتقديراً لعمل مدحت باشا بوصفه آخر الإصلاحيين العثمانيين العظماء والقوة الدافعة لوضع الدستور العثمانيين، لا يزال اسمه يُذكر الآن في بيروت وكذلك في دمشق فهناك شارع في محيط أسواق الحميدية يحمل اسم “سوق مدحت باشا”.

وفي بيروت أيضاً، يعيش مدحت باشا بالقرب من غريمه السلطان عبد الحميد، على بُعد أمتار وفي قلب حدائق الصنائع توجد النافورة الحميدية والمنقوش عليها بوضوح طغراء السلطان عبد الحميد.

لا تزال شعوب الشرق الأوسط كلها تعاني من تبعات انهيار الدولة العثمانية والذي دفع الأرمن بسببه أغلى الأثمان. لقد كان الانهيار والعنف والتغيرات من القوة بمكان لدرجة تجعلنا عاجزين عن تخيل كيف كانت الحياة قبل حلول هذا الظلام. ما زلنا نعيش في عالم العثمانيين وما زال لدينا الخيار بين السلطان عبد الحميد وبين مدحت باشا. وحتى هذه اللحظة، يبدو أن الفائز هو السلطان عبد الحميد.