fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

“مرثيّة برعاتا التدمري”: الشاعر نوري الجراح في أثر القبر والسّور والحبيبة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“الأفعوان الحجريّ- مرثية برعاتا التدمري لمحبوبته ريجينا” للشاعر السوريّ نوري الجراح، هو رحلة شعريّة-تاريخيّة في أثر مهاجر من تدمر تحاكي أطيافه ما يشهده المهاجرون الآن من صعوبات واحتمالات بالموت.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يستحضر الشاعر السوريّ نوري الجراح (1956- الآن) على طول تجربته الشعريّة، أصواتاً لطالما ترددت في التاريخ والأساطير. فهو حيناً الشاعرة “سافو” تدعو عابري البحر الأبيض المتوسط الى النجاة، وحيناً آخر “تليماخوس” الذي لم يشهد حرب طروادة. 

في “الأفعوان الحجري”، ديوانه الصادر عام 2023، يستعيد صوت “برعاتا” التدمريّ، تاجر الأقمشة  أو رامي الأسهم، الذي وصل “بريتانيكا-بريطانيا” ولم يستطع العودة إلى بلاده، ليموت هناك، تاركاً وراءه شاهدة قبر وحبيبةً وقصيدة.

يتقفّى نوري الجراح شعرياً في ديوانه، حكاية برعاتا  التدمري، ذي الهويات الملتبسة، فهو تاجر قماش ربما ضلّ قاربه الطريق، أو وقع في الأسر، فوجد نفسه في بريطانيا. يرجح أيضاً أن يكون رامي أسهم، نقل من سوريا مع الجيش الرومانيّ نحو القرن الثاني أو الثالث الميلاديّ ليخدم مع حامية سور هادريان.

هذا الالتباس في هويّة برعاتا، بين المخيلة الشعريّة والحقائق التاريخيّة، هو ما يكسبه تفرده، ففي كل احتمال، هو “مهاجر” يحاكي طيفه ما يحصل اليوم، قارب ضائع، أسير، مجنّد أُخذ قسراً الى الخدمة العسكريّة.

أول الأثر… عتبة نحو المُخيّلة

ظهر برعاتا للمرّة الأولى عام 1878، إثر اكتشاف شاهد حجري جنائزيّ من طراز تدمري، قرب  حصن Arbeia، شرق نيوكاسل. هذا  الشاهد الجنائزيّ يحوي العبارة التاليّة “إلى أرواح الذين رحلوا، إلى ريجينا سيدة برعاتا المحررة…”. النصب الذي أقامه برعاتا لمحبوبته/ ملكتة المحررة من العبوديّة، حرّك مخيّلة الجراح حين وقع عليه، فتقمص صوت التدمري الذي ترك سوريا، كالجراح نفسه الذي غادر دمشق عام 1980، وما زال مهاجراً إلى الآن، أو “منفياً”، الكلمة التي يفضّلها الجراح حين الحديث عن علاقة الشعر بالجغرافيا.

 تأتي حكاية برعاتا في لحظة تاريخيّة حرجة، المهاجرون يعبرون البحر نحو القارة العجوز في محاولة للنجاة من القمع والفقر، يواجهون الغرق وخفر السواحل والمهرّبين. حكاية برعاتا، تحمل داخلها نوعاً من الهجرة “القسريّة”، سواء ضاع مَركبه أو نُقل كعسكريّ من سوريا ليقف أعلى سور هادريان (127كم طولاً، ارتفاع 6 أمتار وسماكة 6 أمتار).

برعاتا لم يعد إلى تدمر، كحال اللاجئين المهجّرين الممنوعين من العودة، إذ نراه، أي برعاتا، يقف في المكان الغريب مُطلاً على مرج مُهدد بجحافل الحرب، يتساءل: “ما بي وهذا السور وهؤلاء الرماة المهرة على السور، والضباب الهائم على المنحدرات والأشجار نزولاً إلى كعب النهر… هل كانوا يدفعون ثمن الحبّ؟!”.

أسئلة برعاتا عن المكان والغرباء آنيّة، وكأن أزمة المهاجر هي ذاتها في كلّ وقت، فبرعاتا بقي/ وضع على الهامش، على السور، يحرسُ “الداخل” ضد من هم في “الخارج”، غزاة كانوا أو غرباء. وضعية الهامش والبقاء على الأطراف هذه حاضرة حالياً، يُحتجز المهاجرون في سفينة على الحد في بريطانيا، وفي “أقفاص” على سواحل اليونان وإيطاليا، وكأن “الداخل” ممنوع على القادمين من الشرق، يُتركون فيه إلى حد تقرير مصيرهم.

هل من بيت لمن هاجروا؟

 تتجاوز إشكالية برعاتا/ المهاجر اللغة والعمل، إذ يسأل على لسان نوري الجراح: “يا لهذه الأرض الأبعد من كّل أرض، حتى لكأن آلهتي لم تعد لها عيون لتراني”. سؤال برعاتا هنا يعيدنا إلى ما يشهده المهاجرون الآن، سؤال “الآلهة” قد يعني صرخة في وجه من يضمن الحياة، قانوناً أو شفقةً، أما الأرض، فيُرتجى أن تكون مأوى وملجأ. 

يمكن تكرار السؤال حين نرى المهاجرين محتجزين في سفن “أكبر بقليل من زنزانة” في بريطانيا، أو “أسرى جزر” بعيدة من شواطئ أستراليا، أو في “مخازن” على سواحل ليبيا. أسئلة برعاتا وأحلامه تتردد على ألسنة من “نجوا”، يقول برعاتا مناجياً آلهته/ أحلامه: “سأبني لك بيتاً لم ترَ السماء مثله، قصراً لم يسكنه ملك في الأرض ولا وطأته قدم أمير”.

نوري الجراح، الحاصل على جائزة ماكس جايكوب للشعر في فرنسا عام 2023، يكشف من العنوان معالم الديوان، فالثعبان الحجريّ جزء من النقش الذي وجد على شاهدة القبر التدمريّة، لكن من هي “ريجينا” أو الملكة؟. يشرح  الجراح بالاعتماد على المصادر أنها “عبدة محررة”، وقع في حبها برعاتا الغارق في الحنين إلى أرض يصفها قائلاً: “ما من نخلة هنا، ولا أرزة، ولا حتى شجرة زيتون تضيء الرابية”. هذا السؤال عن الأرض والألفة، يجد صدى له إن أخذنا الكلمات بمعناها الحرفيّ وسحبناها  قسراً من سياقها الشعريّ، عدد من المشاريع التي قام بها المهاجرون واللاجئون تتعلق بالزراعة، بحثاً عن محاصيل ذات طعم افتقدوه، وكأن أقسى ما في الهجرة، ألا تجد شجراً يشبه ظله ما اعتدناه من ظلّ.

 حنين برعاتا إلى أقرانه

يشير الجراح في هوامش الديوان إلى الشكوك حول برعاتا بوصفه السوري الوحيد على السور، ليشير لاحقاً إلى ما وصلت إليه الدراسات من فرضيّة مفادها، أنه جزء من جالية سوريّة استحضرت في العصر الرومانيّ. هذه المعلومة التاريخيّة لا توضح حنين برعاتا، أو شكه في كونه الوحيد هناك، ربما كان له أقران من أبناء جلدته، أو أصدقاء جدد عرفهم بحكم الهجرة، لكن في النص الشعريّ يبدو برعاتا وحيداً، يناجي أطياف أقرانه، يقول “أين هم الرماة التدمريون الذين ملأوا الأسماع والأزمنة بصيحاتهم المرحة، وأقاصيصهم التي دحرجها الهواء على امتداد السور؟”.

أصداء نداء برعاتا نسمعها الآن، المهاجرون يوزّعون على القرى البعيدة في أوروبا، ضمن سياسة إعادة التوطين، بعضهم يفر نحو المدن، والبعض لم يجد لنفسه سوى السور/ الهامش، وحيداً يبحث عن أطياف من يشبهونه وحكاياتهم وأقاصيصهم، هنا نستذكر، ألم يعد مسرح الحكواتي إلى الواجهة بعد هجرات 2011؟، ألم يعد يبحث السوريون عمن يقصّ عليهم حكايات تشبههم؟.

لعنة أن تموت وحيداً

يرثي برعاتا نفسه في نشيد “رامي القوس من تدمريتا”، يقول “الأرجح أن أموت وأدفن هنا، في جوار هذا السور الأحمق، ولا أرى سوريّاً مرة أخرى”. مشهد الموت بعيداً من الوطن، تكرر في حياة المهجّرين من سوريا حين يودّعون أقرانهم . نجتمع، نرمي وردتين على قبور من رحلوا، وردة لهم، ووردة لنا نحن من سنموت لاحقاً في أراض غريبة، رمى سوريون وردةً على قبر ميشيل كيلو، ومي سكاف، وفدوى سليمان، ولكل وردة رُميت أخت تلتها، وردةٌ أخرى لمن هم أحياء، تعزيهم  في الحياة بموت قادمٍ في أرض بعيدة.

الخلاص بالحبّ… ربما

لا قبر لبرعاتا، الحكاية وصلتنا من نصب جنائزيّ لريجينا، موضوع حبّ برعاتا، التي تحولت من عبدة محررة، إلى ما يشبه الملكة ذات صندوق جواهر كما نرى في النصب، وهذا ما يقوله برعاتا بوضوح “هل كان يُمكن لي أن أكون، لولا أنّك هنا، يا ريجينا؟”، ريجينا هذه، من قبيلة استعبدت ثم بيعت، ثم حرّرها برعاتا، (اشتراها ربما)، وأصبحت سبب حياته.

يوضح النصب الذي كُلّف بإنشائه في تلك الفترة، أن برعاتا كدّ وعمل لأجله، ربما عاد إلى العمل في تجارة الأقمشة، بعد انتهاء خدمته كرام للأسهم، وهذا اللافت في كل الحكاية، لم نكن لنعرف برعاتا، لولا حبّه لريجينا، الشاهد الأخير على وجوده هناك أمام السور.

يحضر برعاتا إذاً عبر الآخر، ذاك الذي أحبّ، وحفظ اسمه، شقاء جاور شقاء، فخُلد اسم الاثنين، فهي، أي ريجينا، سبب “وجود” برعاتا، لا فقط في منفاه البريطاني قرب السور، بل في التاريخ أيضاً. ربما هذه العلاقة مع الآخر، هي ما سيحفظ أسماء من رحلوا ومن تركوا أوطانهم، المعادلة بسيطة، أن تحبّ الآخر حدّ خلودك باسمه الحيّ دوماً.

 الملفت  أيضاً في حكاية برعاتا أنها شديدة الشخصيّة، لا تتعامل مع المهاجرين، ككتلة، بل تحكي قصة فرد، ذو اسم واضح، يحن ويحب ويرحل عن عالمنا، استعاد نوري الجراح صوته لنسمعه الآن، لا كما نرى مثلاً في منحوتة Angels Unawares  التي أقيمت في ساحة الفاتيكان عام 2019، هي نصب للجميع، لكلّ من فرّو، من النازيّة والشيوعيّة والأسديّة، أما في حالة برعاتا، فنحن أمام نصب لفرد، لا رقم أو مفهوم أو كتلة من بشر،  نحن أمام غائب مُهجّر، ترك نصباً لمحبوبته، وقصيدة لشاعر تستعيد خفقة قلب المُحبّ.


06.08.2023
زمن القراءة: 6 minutes

“الأفعوان الحجريّ- مرثية برعاتا التدمري لمحبوبته ريجينا” للشاعر السوريّ نوري الجراح، هو رحلة شعريّة-تاريخيّة في أثر مهاجر من تدمر تحاكي أطيافه ما يشهده المهاجرون الآن من صعوبات واحتمالات بالموت.

يستحضر الشاعر السوريّ نوري الجراح (1956- الآن) على طول تجربته الشعريّة، أصواتاً لطالما ترددت في التاريخ والأساطير. فهو حيناً الشاعرة “سافو” تدعو عابري البحر الأبيض المتوسط الى النجاة، وحيناً آخر “تليماخوس” الذي لم يشهد حرب طروادة. 

في “الأفعوان الحجري”، ديوانه الصادر عام 2023، يستعيد صوت “برعاتا” التدمريّ، تاجر الأقمشة  أو رامي الأسهم، الذي وصل “بريتانيكا-بريطانيا” ولم يستطع العودة إلى بلاده، ليموت هناك، تاركاً وراءه شاهدة قبر وحبيبةً وقصيدة.

يتقفّى نوري الجراح شعرياً في ديوانه، حكاية برعاتا  التدمري، ذي الهويات الملتبسة، فهو تاجر قماش ربما ضلّ قاربه الطريق، أو وقع في الأسر، فوجد نفسه في بريطانيا. يرجح أيضاً أن يكون رامي أسهم، نقل من سوريا مع الجيش الرومانيّ نحو القرن الثاني أو الثالث الميلاديّ ليخدم مع حامية سور هادريان.

هذا الالتباس في هويّة برعاتا، بين المخيلة الشعريّة والحقائق التاريخيّة، هو ما يكسبه تفرده، ففي كل احتمال، هو “مهاجر” يحاكي طيفه ما يحصل اليوم، قارب ضائع، أسير، مجنّد أُخذ قسراً الى الخدمة العسكريّة.

أول الأثر… عتبة نحو المُخيّلة

ظهر برعاتا للمرّة الأولى عام 1878، إثر اكتشاف شاهد حجري جنائزيّ من طراز تدمري، قرب  حصن Arbeia، شرق نيوكاسل. هذا  الشاهد الجنائزيّ يحوي العبارة التاليّة “إلى أرواح الذين رحلوا، إلى ريجينا سيدة برعاتا المحررة…”. النصب الذي أقامه برعاتا لمحبوبته/ ملكتة المحررة من العبوديّة، حرّك مخيّلة الجراح حين وقع عليه، فتقمص صوت التدمري الذي ترك سوريا، كالجراح نفسه الذي غادر دمشق عام 1980، وما زال مهاجراً إلى الآن، أو “منفياً”، الكلمة التي يفضّلها الجراح حين الحديث عن علاقة الشعر بالجغرافيا.

 تأتي حكاية برعاتا في لحظة تاريخيّة حرجة، المهاجرون يعبرون البحر نحو القارة العجوز في محاولة للنجاة من القمع والفقر، يواجهون الغرق وخفر السواحل والمهرّبين. حكاية برعاتا، تحمل داخلها نوعاً من الهجرة “القسريّة”، سواء ضاع مَركبه أو نُقل كعسكريّ من سوريا ليقف أعلى سور هادريان (127كم طولاً، ارتفاع 6 أمتار وسماكة 6 أمتار).

برعاتا لم يعد إلى تدمر، كحال اللاجئين المهجّرين الممنوعين من العودة، إذ نراه، أي برعاتا، يقف في المكان الغريب مُطلاً على مرج مُهدد بجحافل الحرب، يتساءل: “ما بي وهذا السور وهؤلاء الرماة المهرة على السور، والضباب الهائم على المنحدرات والأشجار نزولاً إلى كعب النهر… هل كانوا يدفعون ثمن الحبّ؟!”.

أسئلة برعاتا عن المكان والغرباء آنيّة، وكأن أزمة المهاجر هي ذاتها في كلّ وقت، فبرعاتا بقي/ وضع على الهامش، على السور، يحرسُ “الداخل” ضد من هم في “الخارج”، غزاة كانوا أو غرباء. وضعية الهامش والبقاء على الأطراف هذه حاضرة حالياً، يُحتجز المهاجرون في سفينة على الحد في بريطانيا، وفي “أقفاص” على سواحل اليونان وإيطاليا، وكأن “الداخل” ممنوع على القادمين من الشرق، يُتركون فيه إلى حد تقرير مصيرهم.

هل من بيت لمن هاجروا؟

 تتجاوز إشكالية برعاتا/ المهاجر اللغة والعمل، إذ يسأل على لسان نوري الجراح: “يا لهذه الأرض الأبعد من كّل أرض، حتى لكأن آلهتي لم تعد لها عيون لتراني”. سؤال برعاتا هنا يعيدنا إلى ما يشهده المهاجرون الآن، سؤال “الآلهة” قد يعني صرخة في وجه من يضمن الحياة، قانوناً أو شفقةً، أما الأرض، فيُرتجى أن تكون مأوى وملجأ. 

يمكن تكرار السؤال حين نرى المهاجرين محتجزين في سفن “أكبر بقليل من زنزانة” في بريطانيا، أو “أسرى جزر” بعيدة من شواطئ أستراليا، أو في “مخازن” على سواحل ليبيا. أسئلة برعاتا وأحلامه تتردد على ألسنة من “نجوا”، يقول برعاتا مناجياً آلهته/ أحلامه: “سأبني لك بيتاً لم ترَ السماء مثله، قصراً لم يسكنه ملك في الأرض ولا وطأته قدم أمير”.

نوري الجراح، الحاصل على جائزة ماكس جايكوب للشعر في فرنسا عام 2023، يكشف من العنوان معالم الديوان، فالثعبان الحجريّ جزء من النقش الذي وجد على شاهدة القبر التدمريّة، لكن من هي “ريجينا” أو الملكة؟. يشرح  الجراح بالاعتماد على المصادر أنها “عبدة محررة”، وقع في حبها برعاتا الغارق في الحنين إلى أرض يصفها قائلاً: “ما من نخلة هنا، ولا أرزة، ولا حتى شجرة زيتون تضيء الرابية”. هذا السؤال عن الأرض والألفة، يجد صدى له إن أخذنا الكلمات بمعناها الحرفيّ وسحبناها  قسراً من سياقها الشعريّ، عدد من المشاريع التي قام بها المهاجرون واللاجئون تتعلق بالزراعة، بحثاً عن محاصيل ذات طعم افتقدوه، وكأن أقسى ما في الهجرة، ألا تجد شجراً يشبه ظله ما اعتدناه من ظلّ.

 حنين برعاتا إلى أقرانه

يشير الجراح في هوامش الديوان إلى الشكوك حول برعاتا بوصفه السوري الوحيد على السور، ليشير لاحقاً إلى ما وصلت إليه الدراسات من فرضيّة مفادها، أنه جزء من جالية سوريّة استحضرت في العصر الرومانيّ. هذه المعلومة التاريخيّة لا توضح حنين برعاتا، أو شكه في كونه الوحيد هناك، ربما كان له أقران من أبناء جلدته، أو أصدقاء جدد عرفهم بحكم الهجرة، لكن في النص الشعريّ يبدو برعاتا وحيداً، يناجي أطياف أقرانه، يقول “أين هم الرماة التدمريون الذين ملأوا الأسماع والأزمنة بصيحاتهم المرحة، وأقاصيصهم التي دحرجها الهواء على امتداد السور؟”.

أصداء نداء برعاتا نسمعها الآن، المهاجرون يوزّعون على القرى البعيدة في أوروبا، ضمن سياسة إعادة التوطين، بعضهم يفر نحو المدن، والبعض لم يجد لنفسه سوى السور/ الهامش، وحيداً يبحث عن أطياف من يشبهونه وحكاياتهم وأقاصيصهم، هنا نستذكر، ألم يعد مسرح الحكواتي إلى الواجهة بعد هجرات 2011؟، ألم يعد يبحث السوريون عمن يقصّ عليهم حكايات تشبههم؟.

لعنة أن تموت وحيداً

يرثي برعاتا نفسه في نشيد “رامي القوس من تدمريتا”، يقول “الأرجح أن أموت وأدفن هنا، في جوار هذا السور الأحمق، ولا أرى سوريّاً مرة أخرى”. مشهد الموت بعيداً من الوطن، تكرر في حياة المهجّرين من سوريا حين يودّعون أقرانهم . نجتمع، نرمي وردتين على قبور من رحلوا، وردة لهم، ووردة لنا نحن من سنموت لاحقاً في أراض غريبة، رمى سوريون وردةً على قبر ميشيل كيلو، ومي سكاف، وفدوى سليمان، ولكل وردة رُميت أخت تلتها، وردةٌ أخرى لمن هم أحياء، تعزيهم  في الحياة بموت قادمٍ في أرض بعيدة.

الخلاص بالحبّ… ربما

لا قبر لبرعاتا، الحكاية وصلتنا من نصب جنائزيّ لريجينا، موضوع حبّ برعاتا، التي تحولت من عبدة محررة، إلى ما يشبه الملكة ذات صندوق جواهر كما نرى في النصب، وهذا ما يقوله برعاتا بوضوح “هل كان يُمكن لي أن أكون، لولا أنّك هنا، يا ريجينا؟”، ريجينا هذه، من قبيلة استعبدت ثم بيعت، ثم حرّرها برعاتا، (اشتراها ربما)، وأصبحت سبب حياته.

يوضح النصب الذي كُلّف بإنشائه في تلك الفترة، أن برعاتا كدّ وعمل لأجله، ربما عاد إلى العمل في تجارة الأقمشة، بعد انتهاء خدمته كرام للأسهم، وهذا اللافت في كل الحكاية، لم نكن لنعرف برعاتا، لولا حبّه لريجينا، الشاهد الأخير على وجوده هناك أمام السور.

يحضر برعاتا إذاً عبر الآخر، ذاك الذي أحبّ، وحفظ اسمه، شقاء جاور شقاء، فخُلد اسم الاثنين، فهي، أي ريجينا، سبب “وجود” برعاتا، لا فقط في منفاه البريطاني قرب السور، بل في التاريخ أيضاً. ربما هذه العلاقة مع الآخر، هي ما سيحفظ أسماء من رحلوا ومن تركوا أوطانهم، المعادلة بسيطة، أن تحبّ الآخر حدّ خلودك باسمه الحيّ دوماً.

 الملفت  أيضاً في حكاية برعاتا أنها شديدة الشخصيّة، لا تتعامل مع المهاجرين، ككتلة، بل تحكي قصة فرد، ذو اسم واضح، يحن ويحب ويرحل عن عالمنا، استعاد نوري الجراح صوته لنسمعه الآن، لا كما نرى مثلاً في منحوتة Angels Unawares  التي أقيمت في ساحة الفاتيكان عام 2019، هي نصب للجميع، لكلّ من فرّو، من النازيّة والشيوعيّة والأسديّة، أما في حالة برعاتا، فنحن أمام نصب لفرد، لا رقم أو مفهوم أو كتلة من بشر،  نحن أمام غائب مُهجّر، ترك نصباً لمحبوبته، وقصيدة لشاعر تستعيد خفقة قلب المُحبّ.