عند الحدود الفاصلة ما بين عين الرمانة والشياح؛ البقعة المسكونة بذكريات الحرب الأهلية، يقع مسرح “بوليفارد”، على خشبته يقدم الكاتب والمخرج محمد الدايخ مسرحيته الجديدة “طلع إبليس بحب الله”.
خرجت من منزلي الكائن في الأشرفية باتجاه المسرح، لحضور العرض الخاص بالصحافيين والإعلاميين والدعوات الخاصة، كانت بيروت وشوارعها تشهدان توتراً شديداً تجاه اللاجئين السوريين وهو أمر تكرر كثيراً مؤخراً مع تصاعد الحملة ضد السوريين في لبنان.
عبرت طرقات ملأى بالملصقات التي تحث على ترحيل السوريين، متابعاً في الوقت نفسه، الأخبار التي تتحدث عن اشتداد الحرب مع إسرائيل على الجبهة الجنوبية.
وصلت إلى المسرح، فوجدت عند بوابته عدداً من سيارات شرطة البلدية، وكأي سوري بلا إقامة، حاولت تجاهل توتري بالاندماج مع ضيوف العرض، الذين كان معظمهم من مشاهير “السوشال ميديا”، وقدامى نجوم التلفزيون، وبعض الكوميديين اللبنانيين.
انتظرنا ساعة كاملة، ريثما انتقلنا إلى قاعة المسرح، أمضيناها في جو احتفالي يطغى عليه الضجيج اللطيف والثرثرة المحببة وقطع الحلوى اللذيذة، وكان خلالها الجمهور، أو معظمه، يُعد نفسه لموجة تسونامي من الكوميديا، نظراً للإرث الكوميدي لفريق العمل، في البرامج التلفزيونية وعروض “الستاند آب كوميدي”.
وانفتحت الستارة المخمليّة
بعد جلوسنا في أماكننا، انتظرنا لنصف ساعة أخرى، أمام الخشبة التي تحجبها ستارة حمراء مخملية عملاقة، أخذتنا لوهلة، إلى أجواء مسرح عصر الباروك، لتنفرج في النهاية عن سينوغرافيا لمنزل فقير، لم يحدد له سياق زمني واضح، لكنه بدا من خلال ظهور الهاتف الأرضي وغياب الهواتف المحمولة، أنه لا ينتمي إلى عصرنا الحديث، كما كان الديكور متخماً بالتفاصيل الواقعية الدقيقة، فعلى سبيل المثال، ظهرت مغسلة مياه حقيقية على الخشبة، مما حال دون أن تترك لنا عناصر العرض البصرية، أي مجال للتغريب أو التخييل.
يتسلل إلى الخشبة شاب في الثلاثينيات (حسين قاووق) عبر فتحة في الجدار أشبه بأبواب بيوت الحيوانات الأليفة، هارباً من نباح كلاب تطارده، ومن هذه اللحظة، ترتفع قهقهات الجمهور، يبدأ قاووق بمشهد صامت وطويل، يحاكي فيه محاولة انتحار.
يتمرن قاووق على الانتحار رمياً بالرصاص، محاولاً إيجاد الصورة الأجمل لموته! وعندما يلتقط المسدس لأول مرة، تبدأ يده بالارتجاف كلما صوب فوهته نحو رأسه، لتنتهي محاولاته كافة، بطريقة عبثية وتهريجية.
يستدعي قاووق العاجز عن الانتحار، وعبر بروفاته الطويلة في سبيل الموت، كافة السيناريوهات الممكنة بعد موته، كيف سيتحدث عنه أهل القرية؟ كيف سيحزنون؟ كيف سيشيعونه؟ فيذكرنا بمسرحية “عم بيقولو اسماعيل انتحر” عام 2020، كتابة وإخراج محمد الدايخ، وتمثيل الدايخ وقاووق معاً.
يفشل الشاب في الموت، لذلك يطلبه من الله عن طريق سكتة قلبية ينتظرها، إلا أنها لا تأتي، ليعود ويفتتح حوارية طويلة معه، هي ليست عتاباً، أو رسالة غفران، إنما صفقة، أو بالأحرى بازار تسول.
نرى قاوق يتوسل مبلغاً من المال من الله، قرابة المليون دولار، ثم يستبدل المساومة بالتضرع، فيساوم ربه ليصل إلى حدود الخمسين ألف فقط، ثم تنهار أدبيات الحوار معه، لتمتلئ المساومة بمفردات لغوية نسمعها في السوق أو بين الأصدقاء، فيشتد ضحك الجمهور.
ثمن التخليّ
نشاهد خلال خمس وأربعين دقيقة مونودراما ترسم لنا شاباً يائساً وفقيراً في المجتمع، يعيش تحت وطأة الظروف الاقتصادية والسياسية التي تدفعه إلى الانتحار، وإن أردنا التعبير عن المشهد بكلمة واحدة ستكون: التخلي.
التخلي عن الأسرة، عن الأصدقاء، أو بالأحرى التخلي عن الحياة، هذا التخلي قائم على إدراك طبيعة الحياة نفسها، ودافعه لا يتعلق بمشاكل نفسية أو عاطفية، إنما هو أزمة مع المجتمع الفاسد القاسي، وعجز الشخصية عن الإتيان برد فعل ثوري ضد هذه الحياة، مما يدفعها نحو خيار التخلي الذي يتجسد بالانتحار، لنكون أمام صراع داخل الذات لدى الشخصية، صراع يعكس الوطأة الاجتماعية وثقلها.
المشهد الطويل لم يطلعنا على أية تفاصيل عن حياة الشخصية أو ماضيها أو يومياتها، وكأن الصدف هي التي قادتها إلى هذا الفعل أي الانتحار، ربما بسبب تعويل أصحاب العمل، على معرفة الجمهور بسياق المنطقة وطبيعة الحياة فيها، ولهذا تحول المشهد إلى مسرح تفاعلي، أو إلى سكيتش رمزي، متخذاً قالب النكتة: “هنالك شاب معدم اجتماعياً ومادياً يريد أن ينتحر لكنه أخرق حتى بانتحاره”، وهذا القالب قادنا إلى نوع من العبث لا التعاطف.
نشاهد خلال خمس وأربعين دقيقة مونودراما ترسم لنا شاباً يائساً وفقيراً في المجتمع، يعيش تحت وطأة الظروف الاقتصادية والسياسية التي تدفعه إلى الانتحار، وإن أردنا التعبير عن المشهد بكلمة واحدة ستكون: التخلي.
مفارقات سوء الفهم
يقتحم المنزل شاب في الثلاثينيات (محمد الدايخ) لكن هذه المرة عبر الباب، حاملاً بيده حقيبة سوداء، هنا ينتقل السرد إلى مسرحية أخرى تقريباً، بمشهد أقرب إلى عروض “الفودفيل” القائمة على سوء الفهم، حيث يظن قاووق أن الدايخ هو الملاك الذي أرسله الله لتسليمه النقود التي طلبها منه، والأخير لا ينفي شكوك الأول.
يستمر الاثنان في لعبة سوء الفهم لمدة أربعين دقيقة تقريباً، يتهكمان على بعضهما بعضاً، إذ كيف يمكن لملاك سماويّ أن يشبه شبان منطقة الضاحية الجنوبية؟ أو من أي طريق وصل الملاك إلى الأرض؟ ويتخلل حوارهما الكثير من التعليقات الساخرة والإيحاءات، فعندما يحاول الدايخ خلع معطفه تبدو أكمامه العالقة كأجنحة الملاك!
يستمد هذا المشهد بالعموم، نبرته الكوميدية في الحوار والصراعات حول أمور تافهة، من البذاءة، والنعوت الهابطة التي تتبادلها الشخصيتان في وصف بعضهما بعضاً، وعند الذروة، كفكرة الانتحار مثلاً، تصطبغ اللحظات الحاسمة بالسخرية، وقد تم تصعيد العنف في الصراعات حول أمور تافهة إلى حد التهريج، وظهر عبر المشاهد كم هائل من العنف الجسدي والنبرة الذكورية، سواء تلك التي تتعلق بالصراع بين الشخصيتين أو بالصراخ الذي يصل إلى مرحلة الزئير.
تم تصميم الحبكة وهندسة السرد لأجل الكوميديا، أي أن البناء السردي غير سببي بشكل واضح، أو يعتمد الضرورة في بناء أجزائه، إنه تركيب من قطعتين؛ الأولى عبارة عن مشهد طويل “سولو” أقرب إلى مشاهد “المونولوج” ويقترب أداؤه من عناصر “الستاند آب كوميدي”.
القطعة الأخرى، هي ثنائي قائم على سوء الفهم الذي لا يتم تبريره نهائياً، وقد تم تجاهله بالأحرى، هذان المشهدان المتتاليان مُتخمان بالتهريج والسخرية، ويعتمدان على خرق التابوهات اللغوية على مستوى الدين والجنس والسياسة، في نزوع نحو الإفراط بالسباب والشتائم واللعنات، وكذلك الاعتماد على تجسيد أنماط اجتماعية، عن أبناء منطقة الضاحية الجنوبية، وهذا ليس غريباً على الدايخ أو قاووق اللذين لعبا على هذا الوتر كثيراً في أعمالهما السابقة.
الصدفة والافتعال
تستطيع الكوميديا كسر الأنماط الاجتماعية والثقافية حول بيئة ما، واستبدالها بصور أكثر قتامة أو مغايرة، بقصد جعل الصور المكرسة هشة في عقول المشاهدين، إلا أن المسرحية عززت من الصور المكرسة والأنماط واستخدمتها للإضحاك.
فلا نرى خطاً كوميدياً بين الشخصيتين بحسب الفرضية المطروحة، ولا التناقض بين إيقاع كل منهما بحسب أجندة كل منهما المختلفة، لم نر أجندة واضحة، أما الصراع بينهما فقائم على الصدفة والافتعال.
يحكي الملاك للشاب الراغب في الانتحار عن أجواء العمل في الأعلى -عند الله- وآلياته، ولوجود فجوة بين صورة الملاك الكلاسيكية، وبين سلوك الدايخ السوقي، يظن المنتحر أنه إبليس وليس ملاكاً، ليكون ذلك مدخلاً كي يشرح له الملاك حكاية إبليس الذي بقوله: “لا، كان على حق، فالإنسان أثبت أنه لا يستحق الحياة التي وهبها له الرب”.
الأمثولة من هذه الحكاية تتمثل بفكرة الرفض، التي تعتبر جوهر الفكر الثوري، وعبر الرفض تتجسد الثورة ومن ثم الخلاص، حيث يبدو التمرد مجدياً وفعالاً أكثر من الانتحار؛ هنا نستعير من الكاتب الفرنسي ألبير كامو، فالانتحار ليس حلاً للظلم الاجتماعي وعبثية الحياة.
يتمثل الحل في نهاية المسرحية بالانتقال إلى مستوى آخر من الواقع، لنعلم أن الملاك ليس ملاكاً، بل صاحب المنزل الذي تسلل إليه قاووق لينتحر، وهو يمتهن الكتابة ويحاول تأليف قصة بطلها الشاب الذي يود الانتحار، لنقترب من الحبكات التقليدية ذات الطابع النفسي، باعتبار أن كل ما حدث يقع في عقل الكاتب، ويمثل صراعه مع لغته ومبادئه ومخيلته.
الاستعداد للملهاة
الشخصيات إن لم تكن مؤهلة للمأساة فلن تكون مؤهلة للملهاة، وعلى هذا الوتر تم بناء شخصيات العرض، ورسم صراعاته ضمن ما يعرف بالكوميديا السوداء، والمأساة التي يود الدايخ عرضها اجتماعية، ولكنها تشكلت عبر التجربة الفردية المأسوية.
على الخشبة نرى فقدان إيمان تاماً بالاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفردي، وفي هذا الجو المأسوي يولد الشك، الذي يبدأ بشك ذاتي في قدرات الشخصيات بنفسها، مما يجعل علاقاتها أمرأ هزلياً، ومن ثم الشك في المجتمع ككل، الذي يجعل من الحقيقة أمراً موقتاً لا يمكن الوصول إليه، هناك شك في الله وفي الدولة وفي القرية وفي الحب أيضاً.
يُحسب للعرض استخدام السخرية لتهشيم مقدسات دينية وسياسية، ولو على استحياء، وذلك ضمن سياق تاريخي طويل للكوميديا السياسية في لبنان، التي سبقت المنطقة العربية بأشواط، ولكن، وإن كان العرض يحاول تخريب الهالات المقدسة وخرق الخطاب السائد، إلا أنه لم يتجاوز أو يعادل ما يفعله الكثير من الكوميديين اللبنانيين المعاصرين ومع ذلك، يبقى صوتاً مغايراً لدى البيئة الشيعية في لبنان.
نجح العرض جماهيرياً بالتأكيد، لأنه يعتمد على السخرية، التي هي السلعة الأهم في المجتمع المعاصر وفي المنطقة، والصيغة الوحيدة القادرة على ترجمة يومياتنا في هذه البلدان، لكن بإمكان السخرية أن تكون رؤية شاملة للحدث والموقف منه، لتصبح إدراكاً ساحقاً للعالم، وبإمكانها أيضاً أن تبقى نكتة عابرة على سطح الحدث، وهنا بالضبط تكمن خطورة الهزل.
إقرأوا أيضاً: