أخيراً، وصلت إلى مدينة قم المقدسة، بعدما قطعت مسيرة ثلاث ساعات من محطة الركاب في جنوب طهران. توجهت فوراً إلى وسط المدينة حيث الحوزة العلمية النسائية، التي سأقيم فيها لدراسة العلوم الدينية.
في الغرفة الفسيحة الوحيدة في الحوزة، اجتمعت في الصباح الباكر حوالي مئة فتاة. جلسن على الأرض قبالة المديرة، التي تلت علينا أسماء الكتب التي سوف ندرسها في الفقه والمنطق والحديث واللغة العربية والمشايخ الذين سوف يكونون أساتذتنا. ثم وزّعت علينا نظام الحوزة الداخلي، وأخبرتنا أن العام الدراسي لمرحلة “المقدمات” سوف يبدأ غداً بعد صلاة الظهر، وسوف نتوزع إلى أربع حلقات، كل حلقة مؤلفة من 25 فتاة.
ثم قامت فتاة أحوازية تتقن العربية، باطلاعنا على جغرافية المكان. الغرف الأربعة إلى ناحية الشرق هي غرف الدروس لطالبات مرحلة “المقدمات”. بجانبها غرفة الإدارة. قبالتها لناحية الغرب غرف المنامات. تحت غرف المنامات سرداب واسع هو “المطعم”. على يسارنا، قاعة حديثة البناء مخصصة لطالبات مرحلة “السطوح”. تحت قاعة “السطوح”، سرداب آخر هو “المصلى”.
كل منزل في قم يحتوي على سرداب يقي سكانه حر الصيف وبرد الشتاء. مدينة تتلطى بأكملها تحت الأرض، حبيسة عتمة مستديمة. في الجهة الأخيرة تقبع بوابة خضراء صدئة، هي مدخل الحوزة. على بعد ذراع من البوابة، لجهة الباحة الداخلية، تتدلى ستارة سميكة سوداء عرفت في ما بعد أنها تقليد يتبعه أهل المدينة. فهي تسمح للنساء بمخاطبة الزائرين من الرجال من وراء الحجب حفاظاً على حدود الفصل الشرعية بين العالمين. على مقربة من المدخل عدد من الحمامات، أمامها حوض طويل أعلاه صنابير مياه تستعمل للوضوء وغسل اليدين.
تعلمت في ساعاتي الأولى في الحوزة أن أنادي المديرة “الأخت الكبيرة” ومساعداتها “المرشدات” أما زميلاتي فجميعهن “أخوات”. الفتاة الريفية السمراء جداً شريكتي في الغرفة هي الأخت “سبيده” أي البيضاء كالفجر. حدثتها قليلاً عن قريتي في جنوب لبنان وحدثتني كثيراً عن بلدتها نجف آباد، مسقط رأس آية الله حسين علي منتظري، الذي خالف لاحقاً نظرية ولاية الفقيه فوضع حتى مماته في الإقامة الجبرية، الشهيرة بأشجار الرمان وزراعة البصل، فلم أستغرب للرائحة الغريبة التي تفوح من أعطافها!
في اليوم التالي التحقت متأخرة بصفي، حملت كتاب “شرح ألفية السيوطي” وهممت بالدخول بعد أن خلعت حذائي قرب الباب. وهناك وقعت عيناي على مشهد لا يتوقعه إنسان. الأستاذ الشيخ يجلس في زاوية الصف ووجهه للحائط، والأخوات يجلسن وظهورهن إليه، وقد التحفن بعباءاتهن وأرخينها من فوق رؤوسهن فبدون كأنهن خيام منصوبة. كانت المرشدة قد نبهتني قبل دخول الصف ألا أرفع صوتي بأي سؤال أو استفسار وأن أكتب ما لا أفهمه من الشرح على ورقة ليجيب عليها الأستاذ لاحقاً.
المناخ الصحراوي يجعل الوضوء في الباحة المكشوفة عند الفجر في الصيف عقاباً لاذعاً. أما الصقيع فيعطل انسياب الماء في الحنفيات، فيتدلى منها مخروط جليدي، يتصل بكومة جليد تربعت في الحوض. كانت الأخوات يعتبرن أن الصقيع الصباحي امتحان لصدق إيمانهن، فيغالبن إرادة أجسادهن بالارتجاف ويهجمن على الحوض مستدفئات بحرارة التقوى، تحت أعين المرشدة التي تراقب من بعيد وتنقل مشاهداتها إلى الإدارة. وكان لزاماً علينا تأدية صلواتنا الخمس جماعة في المصلى، تؤمّنا أخت حصلت على ثقة الإدارة وليس ثقتنا. وكنا نجتمع فيه أيضاً لإحياء المناسبات الدينية وقراءة الأدعية والابتهالات الأسبوعية. ليلة الأربعاء مخصصة لقراءة دعاء التوسل، وليلة الجمعة لدعاء “كُميل”. وفي ليالي شهر رمضان نقرأ دعاء الافتتاح، عدا الأعمال الخاصة بليالي القدر، وليلة الخامس عشر من شعبان يوم ولادة الإمام المهدي المنتظر.
في ليلة الجمعة الأولى في الحوزة، وبعد فراغنا من صلاتي المغرب والعشاء، بقينا جاثيات فوق مصلياتنا متوجهات صوب القبلة لأن إمامتنا أعلنت أنها ستقرأ دعاء “كُميل”. بدأت التلاوة، وشيئاً فشيئاً صار صوتها يتهدج ويميل إلى الندب ثم إلى البكاء، وصارت تختنق، تتنهد، ثم تعود للتلاوة مجدداً. وفجأة انفجر المكان بالنشيج والعويل، وأخذت الأخوات يتهاوين الواحدة تلو الأخرى إلى الأرض شبه غائبات عن الوعي. وأخريات يضربن صدورهن ويلطمن وجوههن ندماً وأسفاً. نظرت حولي مفجوعة، ما الذي جرى لهن حتى ينهرن فجأة! ماذا اقترفن من خطايا لتكسرهنّ كلمات الدعاء ومعانيه؟ منذ قليل، كن تقيات ومتيقنات من أنهن سوف يدخلن الجنة، فمتى تكدست ذنوبهن؟
غصت داخل عباءتي، بعد أن تملكتني نوبة من الضحك الهستيري، وصار جسدي يهتز ودموعي تسيح على خدي حتى تورمت عيناي. في اليوم التالي، ظننّ أنني بكاءة مثلهن.
كان لولادة الإمام المهدي طقوس خاصة، تبدأ ليلة النصف من شعبان وتنتهي مساء اليوم التالي. واجتمعنا ليلتها لإحياء المناسبة في سرداب المصلى بعد أن أضأنا كمية كبيرة من الشموع وضعناها على سور الحوزة وعند بوابتها. وأطفئت الأضواء في السرداب بعد الصلاة، وقامت الأخت الكبيرة برفع الابتهالات والأدعية، وصرنا نردد خلفها متوسلات “يا وجيهاً عند الله، اشفع لنا عند الله”، ونكرر ونعيد. كنا جميعا ننظر إلى مساحة غير مرئية في عتمة المصلى، ننتظر أن يظهر علينا إمامنا المهدي لنكون من أوائل الملتحقات بجيشه.
ونستكمل احتفالية النصف من شعبان بزيارة مسجد جمكران جنوب قم، الذي يقال إن بانيه هو الإمام المهدي ذاته. هناك يزاحم البشر الملائكة على التوافد إلى المكان، حيث نكمل الأدعية التي بدأناها ليلة المناسبة، ونستعجل إمامنا الظهور، ونصلي صلاتي الظهر والعصر، وأربع ركعات للتحية وركعتين نُهديهما لإمام الزمان. ثم نعود إلى الحوزة لتناول إفطار متواضع يلائم المناسبة العظيمة.
يوم الجمعة هو يوم عطلتنا الأسبوعية التي تبدأ بعد أداء صلاة الجمعة في حرم السيدة المعصومة. والمعصومة هي فاطمة بنت الإمام موسى الكاظم سابع أئمة الشيعة الاثني عشرية، وشقيقة الإمام علي الرضا ثامنهم. ومثواها في قم قبلة المسلمين الشيعة، يقصدونه من كل جهات الأرض. كانت حوزتنا، وباقي الحوزات والمعاهد العلمية والمساجد تشكل امتداداً لحرم المعصومة الذي يتوسط قلب المدينة المقدسة.
فإلى شمال الحَرَم، ينتصب أشهر مساجد المدينة “المسجد الأعظم”، وهو معهد للدراسات الحوزوية العليا. بمحاذاته، مسجد “بالاسر” التاريخي. كما يتصل بالحَرَم عدد من المساجد الصغيرة من الجهة الغربية، ويفترش جهته الجنوبية ما يعرف بـ “الصحن الكبير”، وهو باحة عظيمة بها أربعة أبواب عملاقة تفضي إلى داخل الحَرَم هي: باب الكبير، القبلة، طبطبائي والجمهورية. ومن جهة الشرق تتصل به أهم الحوزات في إيران، “الفيضية”، التي بُنيت في العهد الصفوي، وشهدت زمن الشاه مواجهات دموية، ومنها انطلقت شرارة الثورة الإسلامية (عام 1963) لتنصب رجال الدين فيما بعد أولياء على الشعب الإيراني.
على مبعدة من المدرسة “الفيضية” حوزة علمية أخرى يطلق عليها “الحُجَّتية”، وهي مخصصة للطلاب غير الإيرانيين. كان محظوراً على الأجانب الالتحاق بـ”الفيضية”، وقد أتاحت لهم الحكومة الإيرانية فرصة التزود بالعلوم الإسلامية في حوزة “الحجتية”، تماماً كالجامعات المتدنية المستوى التي أمنتها روسيا الشيوعية لطلاب العالم الثالث.
كنا نتوضأ قبل خروجنا إلى صلاة الجمعة، وتقف الأخت الكبيرة على بوابة الحوزة تمارس دور شرطي الآداب: توصينا أن نجذب أحد طرفي عباءتنا من الداخل لنغطي وجوهنا، بحيث لا يظهر منها سوى أعيننا. الأخت “فريبا” كانت تملك عينين ساحرتين وأنفا طويلاً محدباً. تأمرها الأخت الكبيرة أن تكشفه لتستر بقبحه جمال عينيها!
ننطلق من الحوزة إلى الصلاة، صفّاً صامتاً خلف المرشدة، الناس هنا لا يحبون الكلام، نادرو الابتسام ولا يتبادلون التحايا. وإذا صادفنا رجلاً أثناء مسيرنا، علينا أن نتوقف وندير وجوهنا مطأطئات باتجاه حائط الزقاق. نترك وراءنا سلسلة من الكهوف الطينية المتشابهة، ونخرج من جحيم الأزقة اللولبية إلى رحابة البازار. هنا يتبدل مشهد المدينة قليلاً، تتسع الشوارع، وتتزين ببضعة أشجار متباعدة، تتنقل بينها طيور مغبشة، ثقيلة الحركة، وتزدحم بالعابرين: معممون وعباءات سوداء وأطفال حليقو الرؤوس يزحفون بكل الاتجاهات.
الأبنية واجهاتها من الآجر الداكن. في طرف المدينة مجرى عميق لنهر شتوي يجف صيفا، ويتحول إلى مكب للردميات والأوساخ ومرتعاً للحشرات والروائح، تمتد فوقه جسور متآكلة الحواف، ينفتح من الطرف الآخر على صحراء واسعة تنتصب في أفقها جبال مسننة يميل لونها إلى الاحمرار. من هناك تهب نسمات جافة تحمل الكثير من الرمال نهاراً، وفي الليل تلسع المدينة بموجات من الصقيع الجليدي. لتقلّبات المناخ الصحراوي أثر واضح في تكوين أمزجة أهل المدينة وطباعهم، وفي جفاف العلاقات بينهم وبرودة الانفعالات!
ننعطف بعدها باتجاه الحَرَم. هناك نلتحق بجموع المصلين الذين يضيق بهم الصحن والباحات. بعد الصلاة، يبدأ التدافع للدخول إلى الضريح المقدس، ملاذ المؤمنين وملجأهم ساعة الأتراح والشدائد، يتمسّح الزوار ببواباته، يقبّلون أعمدته ويستعطفون حجارته، متوسلين الفرج والاستجابة. الداخلون إلى الضريح غالبا ما كانوا يفقدون أحذيتهم التي يتركونها في الصناديق الخشبية عند الباب الكبير، إذ تمتد إليها أيدي سارقي الأحذية، يتصيدون الجيد منها ويتاجرون بها! أطفال فقراء يأتون من الأرياف البعيدة، يقنصون أحذية الزوّار ويبيعونها بأسعار زهيدة لفقراء مثلهم، ويبقون حفاة. في الداخل عراك وتدافع، ونساء يحملن قطعاً من الثياب يمرّغنها بجنبات القفص. يمرّ الوقت وهن يقبّلن الحدائد ويبكين ويتمتمن بكلمات غير مفهومة.
الباعة في “البازار” لا ينادون على بضاعتهم، ولا يستوقفون المارة لتسويقها. يقبعون داخل دكاكينهم الضيقة، كمساجين في زنزانات متجاورة. النساء يفاصلنَ الباعة وكل منهم ينظر باتجاه معاكس للآخر، كي لا تلتقي العيون وتشتعل ربما النظرات.
تدخل امرأة إلى محل لبيع “السوهان” وهو الحلوى الشهيرة في قم المصنوعة من الزعفران وعجين الفستق والزبدة، تلبس عباءتها السوداء لجهة المخيط وتخرج على الفور، فيطردنا البائع، ويغلق باب دكانه على عجل، ويلحق بها ويغيبان في زحمة السوق والمتسوقين. عادة ما ترتدي الأرامل في المدينة المقدسة عباءاتهن “بالمقلوب” كإشارة شبه سرية إلى رغبتهن في إجراء عقد المتعة!
كان للمناسبات الدينية الخاصة بالمذهب الشيعي، والتي تتجاوز المئة مناسبة في السنة، قدسية مفترضة أو مفروضة في الجمهورية الإسلامية. فتتعطل لأجلها الحياة، وتتوقف دورة الإنتاج في بلد ينمو بشريا بشكل مخيف.
وعدا عطلة الصيف الطويلة، كانت هناك عطلة أخرى طويلة هي عطلة عيد “النوروز”، وهو عيد رأس السنة عند الإيرانيين حسب التقويم الشمسي الذي يتزامن مع بداية فصل الربيع في 21 مارس. وتستمر هذه العطلة لمدة أسبوعين كاملين، لكل يوم منها طقسه وتقاليده. ولم تفلح محاولات آيات الله المتشددين، بحجة زيادة الإنتاجية، في إلغاء طقوس عيد “النوروز” أو تقليص عدد أيامه. فرغم حرص الديّانين الجدد على إبراز وجه إيران الديني فقط للعالم الإسلامي، إلا أن تعلّق الشعب الإيراني بجذوره القومية وما تبقّى من عاداته “الزرادشتية” ظل أقوى وأقرب إلى الطبيعة من جنوح حكامه نحو التأسلم وتمظهرهم في عادات دينية مصطنعة. وبقي الإيرانيون، على تشعب إثنياتهم واختلاف قومياتهم، متمسكين بهذه المناسبة اليتيمة التي تربطهم بجميل ماضيهم وأصيل ثقافتهم كعلامة فارقة أو وَحمة بارزة في جسد حسناء، وفرصة سنوية يقف فيها الإيراني أمام المرآة لا ليرى وجهه، بل ليبصر نفسه كما يجب أن تكون- مجرّدة من كل التبعات والإضافات.
لملمت الأخوات أشياءهن القليلة الخاصة في حقائب متضائلة، وودّعننا إلى أهلهن. وبقيت في الحوزة مجموعة صغيرة لا تتعدى العشرة. كن من مناطق حدودية جد بعيدة، وفضّلن إرجاء زيارتهن لأهلهن إلى عطلة الصيف، فالسفر إلى هناك دونه الكثير من المشقة والتعب. تحلّقنا بعد العشاء حول الأخت الكبيرة في سرداب المطعم، فأزفت علينا خبرا يشبه الصاعقة!
قالت: إن الإدارة سوف تكرّم الأخوات اللواتي أحجمن عن إحياء المناسبة المنافية للتعاليم الإسلامية بإرسالهن غدا إلى “تهرون” أي طهران بالمحكية، لزيارة الإمام الخميني! الأخت عاطفة أغمي عليها على الفور، وفيما كنت أرش الماء على وجهها لإيقاظها، كانت الأخوات يذرفن دموعاً غزيرة مذهولات بأنهن أصبحن على قاب قوسين أو أدنى من رؤية الجنة!
ليلاً أوينا كل واحدة إلى مهجعها. إنها المرّة الوحيدة منذ قدومي إلى الحوزة أجلس في ظلام زنزانتي وحدي، في طرف سجن صغير هو الحوزة، وسط سجن كبير هو المدينة المقدسة، التي ليست إلا جزءاً من سجن أكبر هو الجمهورية الإسلامية! البقعة الجغرافية المترامية المساحات التي ضاقت بأحلام ناسها وأفكارهم، وأجبرتهم على عيش حيوات لا تشبههم.
كانت الدروس الدينية التي تفشت في المجتمع الشيعي في جنوب لبنان، مع بداية نشوء الجمهورية الإسلامية، السبب الأول في عزمي على الالتحاق بالحوزة العلمية في قم. كانت الأخت المتدينة حديثاً في قريتنا، والمتأثرة بموجة التشيع الوافدة من إيران، بعد أن أمضت سنوات صباها متحررة من كل القيود الدينية والأعراف الاجتماعية في صفوف اليساريين اللبنانيين، تجمعنا يومين في الأسبوع في منزلها، تشحننا بمزيج من الأخلاق الإسلامية والقيم الدينية المركبة، وتحثنا على التشبه بالإيرانيات نموذجاً مثالياً لما يجب أن تكون عليه المرأة المسلمة. وفي حين أصبحتُ “فرخاً” متدينا وقررت التزود بالعلوم الدينية، كانت هي تنهي آخر سنواتها الجامعية وتتوظف في أحد مصارف بيروت.
تحرك بنا الباص الصغير بعد صلاة الظهر باتجاه “تهرون”. جلست في المقعد الخلفي، أنظر من خلال زجاج الباص العريض إلى المدينة المقدسة التي بدأت تختفي عن ناظري كجنّي دخاني يعود إلى قمقمه بعدما أخفق في تلبية طلبات من أخرجه من عزلته الدهرية! على يميني تظهر بحيرة الملح. كان شاه إيران، المخلوع محمد رضا بهلوي، يرمي فيها المعارضين الخطيرين، حين يجد أن الرمي بالرصاص أو الإعدام شنقاً لا يشفي غضبه منهم. ويثور في داخلي غضب عارم على تلك اليابسة التي استأنست إلى عزلة موحشة، لا تعترف بالغريب وإن أصبح قريباً، وتنبذ القريب وتزيد غربته، وودت لو يجتاحها ملح البحيرة لتذوب وتتحلل ويمحي أثرها وتأثيرها إلى الأبد! كنت قد وضعت أوراقي الخاصة ونقوداً وأشياء صغيرة عزيزة على قلبي في حقيبة اليد، ونظرت إلى الغرفة نظرة حاقدة وصفقت الباب خلفي، وقفزت على الدرجات الحجرية الأربعة برشاقة غادرتني منذ وصولي.
أغرب ما يستقبل القادم إلى طهران، المدينة التي تربك الوجدان بما تبديه من تناسق عادي وما تخفيه من تناقضات عصية على الفهم، هو منظر جبل دماوند، يشبع بقممه البيضاء على مدار الفصول الأربعة، نهم العيون لرؤية مساحة ملائكية اللون وسط غابات السواد. نهبط من الباص لنبتاع ماء وشوكولاتة ثورية. في ميدان فردوسي، الشاعر القومي الذي مجّد أباطرة الأساطير الفارسية وأبطالها بملحمته الشهيرة “الشهنامة”، يدير وجهه باتجاه وسط المدينة النابض بشتى المفارقات.
هناك يزدحم شارع “إنقلاب”، بالمكتبات التي تحتل واجهاتها المؤلفات الفارسية التراثية والحديثة والمترجمة إلى الفارسية من كل لغات العالم لتتيح للإيرانيين، الذين كشفت فيهم الأسلمة موهبة التوفيق ما بين المسموح والممنوع، فرصة التعرف إلى أعمال أدبية عربية وعالمية لـ”غوغول” و”أراغون” و”إليوت” و”نيرودا” و”تولستوي” و”همينغواي” و”الأخوات برونتي” و”ماركيز” و”طاغور” و”عزيز نيسين” و”ناظم حكمت” و”نجيب محفوظ” و”جبران” و”محمود درويش” و”إميل حبيبي” وكثيرين غيرهم. وتتنقل سراً أعمال أدبية ممنوعة مثل “لوليتا” و”مدام بوفاري” و”غاتسبي العظيم” و”آيات شيطانية” و”ألف ليلة وليلة”، و”فكرية” لمحمد أركون، وعلي شريعتي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده وغيرها.
إلى شارع “فلسطين”، الذي يحتضن سفارة تحمل اسمها، وخلف أسوارها التي ما زالت بقايا نقوش لنجمة داوود محفورة على حجارتها، حين كانت زمن الشاه سفارة لإسرائيل، يعيش عدد من الموظفين الفلسطينيين تحت رقابة أمنية مشددة، ليس من أجل الحفاظ على حياتهم بل لمنعهم من الاتصال بقيادتهم.
نستقل الباص مجدداً لنصل إلى تقاطع شارع ولي عصر كما أسمته حكومة الثورة. الموالون للشاه ما زالوا يسمونه بهلوي أما الوطنيون فيطلقون عليه مصدّق. من أطول جادة في البلاد وفي الشرق قاطبة يتضح جلياً عمق التناقض في مجتمع الثورة الإسلامية، أو التمرد ربما!
يرتقي بنا الباص صعوداً صوب الشمال ونصل إلى حي “جماران” الأرستقراطي. هنا يسكن قائد الثورة في منزل متواضع تزيّن حديقته الصغيرة زهور ربيعية وأشجار مخضرة على مدار السنة، معزولاً، بعيدا عن الحياة، لم تسلبه المظاهرات في قاع المدينة ولا قوائم الإعدامات الممهورة بتوقيعه ولا المعارك على الجبهة العراقية الإيرانية شيئاً من سكينته.
ولجنا من بوابة الحديقة بعد أن مررنا على عدد من أكشاك التفتيش الروتينية. لحظات ثم خرج علينا “أسد جماران” كما يسميه الحرس الثوري. جلس على كرسي خشبي، ثم أتى أحد حراسه واضعاً فوق يده اليمنى المثبتة إلى طرف الكرسي قطعة من قماش أبيض، ونادى علينا، “تقدمن أيتها الأخوات لتقبيل يد القائد”!
ركعنا أمامه واحدة تلو أخرى، نستجدي بعضاً من بركة الأنبياء والأئمة بقبلة سريعة على القماشة البيضاء. كنت أول المتقدمات لنيل بركة القبلة التاريخية، ثم خرجت سريعاً من باب الحديقة، كمن يخرج من مشهد مسرحي لم يتقن أداءه. تناولت حقيبتي الصغيرة من كشك المراقبة، وهرولت هاربة من عيون الحرس الثوري وأجهزة الأمن ورجال الدين، ومن أنساقٍ من الطقوس الغريبة والتمازج السلبي ما بين السياسة والدين، تحدوني متعة الهروب التي تحولت فجأة إلى فعل حرية!
وصلت إلى ميدان “توب خونه” جنوب طهران، ولا أدري لماذا اخترت هذا المكان بالضبط، ربما لأنه الأثر الوحيد المتبقي من “ملك الري”، الشاهد على أعتى فرق الإرهاب والاغتيالات التي مرت في التاريخ الإسلامي. من هنا كان ينطلق الفدائيون الأوائل في الإسلام لتنفيذ عمليات الاغتيال تحت تأثير مادة “الحشيش” بعد أن يكون زعيمهم “الحسن الصباح” قد أمدهم بجرعات فائضة من الوعود بدخول الجنة إذا ما أتموا عملياتهم الإرهابية بنجاح.