مقاربتان حول المنطقة الشرقية تتصدران المشهد السوري من معظم القوى السياسية، كلاهما متمثل برؤية ما يحدث في المنطقة الشرقية على أنها “مشكلة قسد”، على اعتبارها الحلقة الأخيرة قبل البدء بمرحلة التغيير الحقيقي. تستند الرؤية الأولى إلى أن مناطق قسد لا تزال مناطق محتلّة، وبالتالي وجبَ تحريرها. وهذا لا يتعلق بالمسلحين المدعومين من تركيا فقط، فقد شارك ناشطون وإعلاميون في وسم (هاشتاغ) (#أنا_من_الجزيرة_السورية_المحتلة
وهناك تيار يتّسم بمرونة أكبر، من ضمنه شخصيات ليبرالية ديمقراطية، ربما، يرى أن مسألة شرق الفرات هي “مشكلة” ويمنّ النفس بحلّها، ويأمل بأن تحل المشكلة بالحوار والتفاوض. وهنا المعنيان بالأمر هما قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وهيئة تحرير الشام (هتش)، للتوافق بقرار سيادي من دون العودة الى قوى خارجية، وتحديداً الولايات المتحدة وتركيا كقوتين متخاصمتين حول هذا الملف.
في كلَي الحالتين، لا تزال المسألة في شرق الفرات تُرى على أنها “مشكلة” حلّها إما عسكري بالتحرير، أو أنها مشكلة جانبية عالقة لا قضية وطنية، ويُنتظر من المعنيين حلّها واللجوء الى الحكمة والقرار الوطني. وبالتالي، فهي مشكلة مؤقتة أعاقت السوريين من استكمال مشوار التغيير المنتظر.
لا يبدو سهلاً إقناع الطرف الأول بتعقيدات المشهد في شرق الفرات، لأن رؤية قوات سوريا الديمقراطية على أنها قوات احتلال أجنبي ليست مجرد فكرة عابرة، وإنما عملت عليها تركيا والمعارضة السورية خلال سنوات الحرب بشكل دؤوب يجعل من السوري البعيد من هذه المنطقة يعتقد أن إسرائيل جديدة تتشكّل. وهذه ليست استعارة من أي نوع، بل هي تشبيه لطالما كررته أطراف عدة.
الجانب الآخر من هذه الفرضية يرتكز على حقيقة أن حزب الاتحاد الديمقراطي، والذي يشكل دعامة رئيسية في قسد، يتبنى أيديولوجية عبدالله أوجلان، وحزب العمال الكردستاني. وكون هذا الطرح صحيحاً ولم ينفه الحزب نفسه، فإن لهذا الارتباط الأيديولوجي سياقاته التاريخية والمحلية المرتبطة بتركيبة مجتمع تغيّب السوريون عن معرفته في ظل الأسدية، ولا يزالون بعيدين من فهم تعقيداته. ناهيك بوجود أطراف وأحزاب سورية عدة، مرجعيتها الأيديولوجية تمتد الى خارج الحدود ومستمدّة منها، وبالتالي فإن المشروع الموجود على ضفة الفرات الشرقية بعيد تماماً من أن يكون احتلالاً أجنبياً، وهذا لا يمهد سوى لإبادة بشرية.
الحالة الثانية تستحق الوقوف عندها وتفكيك تعقيدها، لأن اعتبار مسألة شرق الفرات الغامضة “مشكلة” ليس مغلوطاً بشكل كلّي، كون هناك معارك شديدة ومستمرة منذ 8 كانون الأول/ ديسمبر على الأقل، وتشارك فيها أطراف عدة. لكن للتعاطي مع هذه القضية مدلولاته أيضاً.
إقرأوا أيضاً:
التعاطي مع مسألة شرق الفرات على أنها مشكلة وينتظر الفاعلون السوريون أن تحلّها الأطراف المنخرطة، يشكل مسألة توضح مدى مركزية سوريا حول دمشق أولاً، وتهميش الملف الشرقي والكردي خصوصاً. فنحن اليوم أمام مسألة سيادة وطنية غاية في التعقيد ينتظر السوريون تركيا والولايات المتحدة لتقررا مصيرها. منطقة لا تقل عن ربع مساحة سوريا، وتحوي نسبة عظمى من مواردها، يديرها ائتلاف سوري بنى شكلاً ونمطاً جديدين ومتمايزين من الحوكمة والمؤسسات في المنطقة ككل. استقطبت هذه المنطقة اهتماماً عالمياً وأكاديمياً، إلا أنها لم تشدّ في ما يبدو اهتمام الشارع والقوى السياسية السوية للمشاركة فيها والمساهمة في طرح حلول أو التظاهر بشأنها.
وبينما يتم تطبيع هيئة تحرير الشام(هتش) وتقديمها على أنها الطرف الوحيد القادر على إدارة الأمور بسبب الوضعية الاستثنائية، يُطلب من قسد القبول بهذا الأمر الواقع. فيما يدفع “الواقع السياسي” بما يكفي السوريين الى القبول بسلاح الهيئة وإدارتها المشهد بحكم غياب البديل لحظة إعلان سقوط النظام وترك البلد على شفير الهاوية.
لكن، لا يبدو المشهد كذلك في شرق الفرات، لأن الوضع الأمني والمشهد السياسي القائم لم يتغيرا سوى على الحدود الشمالية. ولا مبرر لقسد لفتح الباب أمام الهيئة للسيطرة على المنطقة أو ترك سلاحها من دون أن توضح ملامح المرحلة المقبلة. فالاندماج المباشر، أولاً، يعطي “هتش” شرعية لا تملكها، وهي شرعية قد لا تقل عن شرعية قسد. وثانياً، فإن اندماجاً عسكرياً سريعاً بهذا القدر من التباين قد يشكل وضعاً قابلاً للانفجار والصراع الداخلي في أية لحظة.
وجدير ذكره، أن مسألة سلاح قسد قد تكون ثانوية وحلّها بالتفاوض السياسي أمر ممكن، على عكس الوضع الأمني الموتور في الساحل السوري. إذ إن السوريين أمام مخاطر ثورة مضادة أو اقتتال طائفي، وتلك قد تكون حالة أكثر إسعافية في المشهد العام.
المسألة تتعلق بتكوين سوريا المقبل، شكل علاقة المركز مع الأطراف، شكل الدستور، الحكم، السلطات الثلاث وآليات الحكم. في كل قسم من سوريا، تشكَّل أشباه كيانات، فلا يمكن الدفع نحو اندماج سريع مع طرف لا يثق السوريون بعدُ به، حتى وإن يراد للتطمينات وما يقابلها من حسن النية أن تأخذ مجراها. والى حينها، على السوريين التعامل مع الموقف على أنه مسألة وطنية وليس “مشكلة” يُنتظر حلها بالأمنيات. فمن معرفتنا لتركيا، قد تطول هذه المسألة سنوات وتكون قضية عالقة تتعلق بأطماع طويلة الأمد.