صنعت الحرب على غزة واقعاً لا يمكن تصنيفه وفق مستويات البحث الاجتماعي، إذ لا يمكنك رصد ظاهرة جامعة وفق تقدير وملاحظة حسابات الموقف الجمعي أو الغالبية، إنما فرض واقع على تقسيمات جماعية وفق جماعات صغيرة تتخذ قرارات من دون حساب لواقع القرار أو مستقبله.
وكأن الحرب عمقت مجهولية الحياة الغزية أكثر فأكثر. فخلقت مساحة تصلح لأن نسميها مساحة “اختيار المجهول” بإرادتك الكاملة، على رغم أنه لا إرادة لفعل الإنسان الغزي خلال الحرب وما قبلها أو أثناءها حتى!
الأمر أشبه بحلقة مجهولة تدور فيها رحى التيه داخل مجهول، فما إن تخرج من فم مجهول حتى تدخل إلى فم مجهول حتى تدخل إلى فم مجهول أكثر.
كانت لدي صورة عن فكرة العيش بغزة أتناقلها مع أصدقائي ما قبل الحرب. نحن الغزيين نشبه (حبيبات الفواكه) تلك التي تكون في علبة العصير. نشرب نستمتع بالعصير ثم يغيظنا بقاء الحبيبات تلك. إن خرجت من فم العلبة فهي مأكولة بافتراس الاستفزاز كي يكمل الشارب لذة العصير. وإن لم تخرج فهي تعود إلى القاع مرتطمة. وما بين الفم والقاع مجهول وعتمة لا يمكن للحبيبات أن تختارها بل تسلم رأسها للمجهول من دون إرادة. كان الأصدقاء يرون في ذلك نكتة، فيشربون العصير وفي نهايته يقولون: يلا ناكل الغزازوة! فنضحك…
الحرب أكبر دليل على هذه النكتة العبثية (المجهول) المتأرجح بين الفم والقاع. على اتساع العتمة والخوف في ترتيب دلالات حروفه، وكأنك تختار المجهول اختياراً مبرراً، أو على الأقل تخترع ما يبرره.
في مقطع من أغنية (ليا وليا) الفلسطينية يظهر فيها صوت ( ااااااه، اااااه) يصلح ذلك لأن يكون مؤثراً صوتياً لكل مرة يتم فيها إنذار الغزي بإخلاء المدينة أو مكان نزوحه. أذكر حين لجأت للمرة الأولى في هذه الحرب نحو بيت أخوالي غرب مدينة غزة كما طلب منا الإنذار، كانت تلك مساحتي الأولى لاختبار شعور (ضيف مؤقت) ثم سرعان ما وصل التهديد غرف النوم وصالون الجلوس وحتى بيت الدرج الذي نمنا فيه ليلتين، وحتى ساحة المدرسة المجاورة الموت يهجم أكثر ويقترب أكثر وأكثر…
سيصرخ بك صوت ( ااااااه، ااااه) أكثر وأكثر.
إلى أين سيذهب معك الصوت؟!
أين هو البيت الذي ستلجأ إليه الآن، بعدما قتلوا كل بيوت اللجوء في المدينة؟!
يا إلهي، لقد مضى وقت على أن تكون هنالك رفاهية للأسئلة الكثيرة!
يضحك الجندي الآن ويخبرك بأن عليك الخروج من المدينة نحو (الأمان الموهوم)، لم يكن أماناً، كل ما في الأمر أنني فقدت كل بيوت المأوى في المدينة، فخرجت خوفاً وبحثاً عن المأوى (البيت) الحيطان الإسمنتية. في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وهي آخر مرة جلست فيها ببيت في مدينة غزة، كان بيت ستي قرب الشباك المهشم وعيناي نحو جنوب البيت وروحي هناك نحو شمال البيت (بيتي) أغني برفقة (عبد الله ونور) أبناء خالي: “صامت لو تكلما”.
لو تكلم لقال: اااااااه، ااااااه!
ضحك عبد الله، وبكت نور!
الجندي الذي يتسلّى الآن على صوت (ااااه) في قاع العلبة فيضع الطائرة والصاروخ وهدر الدبابات في رأسك وجسدك، ويلوح لك بأنه هناك سيكون بعيداً عن القتال!
ظننا أننا سنقول (البكاء) فقط! حين خرجنا من فم العلبة.
مع الوقت، سقط البكاء في الطريق نحو الجنوب وسكن الصراخ داخل القلب، وصارت كل نبضة هي صرخة مقموعة.
مقموعة؟!
نعم مقموعة، يقول لها صوت: اشششش، هذا ليس وقت الصراخ!!
امتثلي للأوامر، للحياة، للنجاة!
وخرجت!
قابلتني إحدى معارفي في بداية النزوح وسألتني: وين نازحة؟!
قلت: أنا شاردة، هاربة، أي شيء غير نازحة هذه!
ضحكنا كي أغيظ الصرخة التي تكبر بداخلي!
كنت أغيظها أكثر وأشتمها!!
في رفح وصلت بعد ستة شهور حرب ابنة عمي (نازحة) من مدينة غزة، إذ لا تقبل صفة شاردة أو هاربة وهي تجر خوفها وابنتها وجنين في رحمها، سألتها: الجوع أم الخوف؟!
قالت: الخوف!! ونظرت إلى طفلتها وتحسنت جنينها!
قبل يومين التقيت بفتاة نزحت إلى النصيرات قبل شهرين سألتها:
الخوف أم الجوع؟!
قالت: الخوف، أعيل أبناء أخي المختطف من ملعب اليرموك بمدينة غزة منذ منتصف أيلول/ ديسمبر 2023. تحايلت على جوع الثلاثة بأن أشعلت بالقطن والكحول ناراً وصنعت لهم “الشوكو”، مشروب الحليب والكاكاو، ومع كل وجبة أمنح لكل واحد ملعقة، والمياه المالحة وضعت فيها سكراً وغليتها!
تحملنا الجوع وتحايلنا عليه، كنت أقنع الصغار بأن هذا سيمر!
ما جعلني أختار النزوح هو خوفي من صدمتهم لحظة اقتحام الجيش البيت مقابل مستشفى الشفاء في نيسان/ إبريل 2024، إذ اعتقل الجيش أخي الذي كان يساندني في إعالتهم. خفت أن أفقد أحداً منهم أو أن أُعتقل ويُترك الصغار وحدهم، بخاصة أن الجيش حاول اعتقالي حين سألني عن أخي وصديقه! فقيّد يديّ وقال لي: هذا جيش الدفاع الإسرائيلي.
صرخت بقوة لا أعرف من أين لي بها: ما في شي اسمه إسرائيل في بس فلسطين! فأطلق الجيش النار فخاف الصغار. قالوا لي: إلى الجنوب وإذا لم تذهبوا شايفة الجثث اللي بالأرض رح يصير معكم هيك!
خفت من هاجس الفقد مرة أخرى بعد أبي الذي قُتل وإخوتي الاثنين المختطفين من ملعب اليرموك، والثالث الذي اعتقلوه أمامنا!
الخوف، الخوف إنو حدا يكمل من غير الثاني دفعني إلى هنا من مدينة غزة إلى النصيرات!
“مش طالعين” تيه مضاعف بعد التيه الأول الذي أوجدته الحرب، وفرضته فرضاً مخيفاً.
إذ إذ القرار مرتبط بزمان، ولكن أين هو الزمان الآن؟!
التمسك بالماضي، النجاة نحو المستقبل، الانهيار بالحاضر!
لا ترف لقرار بزمان مجهول جداً، منذ اللحظة الأولى لهذه الحرب أُخذنا نحو المجهول فتعطل الزمن والوقت ومضينا نطحن الأيام بأسناننا، فيما المجهول يجر أقدامنا ونغوص بعتمة القرار أكثر فأكثر…
حتى إذا لمحت جملة (سيري ببطء يا حياة!) تجدها مليئة بالعبث.
تسير ببطء، لم؟!
ونحن في زمن غير ذاك الذي تركنا يده عند باب البيت غصباً!
أم أنه رجاء للحياة خارج هذا الزمن الذي طُحنا فيه أن تسير ببطء حتى ينتهي هذا كله فتنتظرنا!
ثم لماذا على الحياة أن تمضي بعد هذا كله؟!
لتسير الحياة كما تريد ببطء بسرعة، لكن هناك على حافة كون مدينة تسير كما تسير الـ (ااااااه، ااااه) بسرعة الريتم بالأغنية وبثقل الوجع البطيء من دون أن تعرف الحياة سر هذه (ااااه).
أهي وجع خالص، أم ستارة تغطي بها المدينة عورة انهيارها خارج الزمن والوقت!
بعد مضي أسبوع على طلب الجيش إخلاء مدينة غزة، واستجابة الجمع بـ (مش طالعين)، وهو فعل الجكر الغزي الحصري في ظل انعدام الخيارات أو لنفترض انحسارها بين فم الافتراس وقاع العتمة! في الطريق من النصيرات لدير البلح. حيث إن النصيرات هي محطة الوصول الأولى لنازح قادم بعد سلسلة حواجز وجيش. ركب بالسيارة شاب وصل لتوه من مدينة غزة يحتضن طفلاً صغيراً بعمر السنتين، كان بانتظاره شابان. هنأه الجميع بالسلامة، ابتسمت لطفله وسألته:
الخوف أم الجوع؟!
قال: جوع ولا يمكن، خوف استحالة، أنا صمدت تسعة شهور أتنقل بين بيوت الأقارب والأصدقاء ومراكز الإيواء. كسرة النفس والخاطر هي السبب.
أنا أرعى ابني من ستة شهور، اضطرت أمه أن تكون مرافقة لأختها المصابة، للأسف لم يسمح لها بالمرور عبر المعبر، فاضطرت للبقاء في الجنوب، هي طبيبة تعمل الآن في أحد المستشفيات الميدانية في مناطق النزوح هنا بدير البلح، ابني هاد كل يوم بدي ماما ما كان بإيدي شي غير أنزح عشان خاطر الطفل يشوف إمه بس بس!
إذاً، المجهول يسحبنا نحو السؤال ثم لا نلبث أن نجد الإجابة مجهولة أكثر.
هل كان القرار صائباً إن بقيت، يسمونك صامداً جباراً ثابتاً؟!
فيوغلون في تعميق عتمتك، أي ثبات وأنا أحمل جوعي وخوفي في حقيبة وألجأ من مكان من كل وهم بالأمان المصطنع؟!
وإن نزحت وجدت نفسك نادماً لأنهم عمقوا مقاييس التمييز الطبقي أكثر (هارباً)، نحن الاثنين شمالاً أو جنوباً نهرب، الفرق أن من خرج افترسه الفم، ومن ظل لا يزال في كل مرة يرتطم بالقاع أكثر فأكثر…
فما بين الخروج والقاع تسمع في منتصف العلبة صوت (ااااااااه) مجهولة المصدر.
تموز/ يوليو 2024
فصول الدهشة ومحاولات النجاة