هذا القلق سببه نفاذ أو احتمال نفاذ حليب أطفالهن دون أن يستطعن توفير علبة جديدة بسبب عدم توفر الكميات المطلوبة في الصيدليات، وعدم كفاية ما يحصلن عليه من وزارة الصحة المصرية.
زار معد التحقيق 15 صيدلية في مناطق مختلفة من محافظتي القاهرة والجيزة، كما اتصل بعدد من الصيدليات في محافظات المنيا والغربية والدقهلية، ولم يعثر على عبوة واحدة من حليب الأطفال المخصص لمرضى حساسية الألبان “النيوكيت”.
تقول تيسير، لـ”درج”، إنها فقدت طفلها الأول، بسبب عدم قدرتها المادية على توفير الحليب المخصص للأطفال الذين يعانون من حساسية الألبان أو توفير المتابعة الطبية اللازمة للطفل “وقفت عاجزة قدام ابني وهو بيموت”… ولد أحمد، وتوفي عام 2020، بـ”كوفيد- 19”.
رزقت تيسير، بيوسف، بعد عام من رحيل شقيقه، ولكن الصغير ولد بحال أسوأ، إذ يعاني من حساسية الحليب إضافة إلى حساسية أنف وصدر ومشكلات صحية متعددة، وقد حاولت الأم الاستعداد لمعركة إنقاذ طفلها، أجرت عشرات الفحوصات للصغير وعرضته على أكثر من 13 طبيباً حتى حصلت على تشخيص لحالته.
كان يوسف، الطفل الثاني لتيسير، ينزف دماً، وتم حجزه ثلاثة أيام في العناية المركزة في أحد المستشفيات، والصغير بدأ يتحسن بعدما وصف له الطبيب الحليب المخصص له، تقول أمه: “يوسف لو مكنش أخد نيوكيت كان مات هو كمان”.
ارتياح تيسير، لم يطل، حيث أطلت أزمتان، الأولى هي أن عبوة هذا الحليب تبلغ 265 جنيهاً، والطفل يحتاج إلى 8 عبوات شهرياً، هذا إلى جانب صعوبة تأمين الحليب في الصيدليات، وعدم كفاية ما تؤمنه مكاتب الصحة مع عدم توفره أيضا لمرات متعددة.
تحصل أزمة الحليب في ظل أزمة اقتصادية خانقة في صمر اذ ارتفع معدل التضخم السنوي في مصر ليبلغ 12,1 % لشهر آذار/مارس، بعد زيادة أسعار الغذاء وانخفاض قيمة العملة المحلية أمام الدولار الأميركي إثر تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا.
الجهاز المركزي المصري للاحصاء أفاد أن “معدل التضخم السنوي لإجمالي الجمهورية سجل 12,1 % لشهر مارس (آذار) 2022 مقابل 4,8 % للشهر نفسه من العام السابق”.
وعزا جهاز الاحصاء الزيادة في معدل التضخم إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمشروبات بنسبة تخطت 23 % على رأسها الخضروات والزيوت والحبوب.
ودفعت هذه الموجة من ارتفاع الأسعار مصر إلى تخفيض قيمة العملة المحلية، إذ خسر الجنيه المصري نحو 17 % من قيمته أمام الدولار في 21 آذار/مارس ليسجل سعر بيع العملة الخضراء أكثر من 18 جنيها.
هذا الواقع زاد من ضغط قائم أصلاً على عموم المصريين وتحت الفقراء وبالتالي ساهم في وضع اعباء كبيرة على الأهالي الذين يبحثون عن حليب لأطفالهم
نقص الحليب والوفاة
الدكتور أحمد إبراهيم، وهو طبيب أطفال، قال لـ”درج”، إن نسبة غير قليلة من الأطفال الرضع في مصر مصابون بحساسية الحليب، وبالتالي إذا تناول هؤلاء أي طعام أو شراب يحتوي على بروتين اللبن البقري، فذلك يسبب لهم مشكلات متعددة وتتفاوت حدتها.
وأكد إبراهيم، أن مضاعفات تناول الأطفال مرضى الحساسية حليباً غير المخصص لهم قد تصل للوفاة في حال إصابتهم بصدمة تحسسية، وتتفاوت الأعراض لدى الأطفال ومنها المشكلات التنفسية، والمشكلات الهضمية، والإسهال، والمغص، وتقرحات الفم التي تدفع الأطفال إلى رفض الرضاعة وتعرضهم للجفاف وبالتالي يحتاج هؤلاء الأطفال إلى تدخل سريع لإنقاذ حياتهم.
وحذر طبيب الأطفال، من خطورة تكرار أزمات نقص النيوكيت، وهو الحليب المخصص لهؤلاء الأطفال لأن كثراً منهم يعتمدون بشكل كلي على هذا النوع من الحليب وهو الوحيد المناسب لحالتهم، لذا فغيابه يترك الأطفال جوعى ويعرض حياتهم للخطر.
طلب إحاطة… مشكلة متكررة
تقدم النائب الدكتور أيمن محسب، بطلب إحاطة لرئيس مجلس الوزراء، والقائم بأعمال وزير الصحة والسكان، بشأن نقص حليب “نيوكيت” المخصص للأطفال مرضى حساسية الألبان.
وذكر محسب، في طلبه إنه تابع خلال الأيام الماضية استغاثة الأمهات بسبب نقص حليب “نيوكيت”، في الوحدات الصحية أو الصيدليات، إضافة إلى ارتفاع سعره بشكل جنوني في السوق السوداء حيث وصل ثمن العلبة الواحدة إلى 300 جنيه إن وجد، وهو ما يمثل عبئاً مادياً كبيراً على كاهل الأسر المتوسطة أو محدودة الدخل.
ماء الأرز لسد جوع الأطفال
مع تصاعد أزمة نقص حليب أطفال حساسية الألبان، بدأت الأمهات بابتكار حلول، نجحت في بعض الحالات إلا أنها أدت إلى مضاعفات سلبية لدى أطفال آخرين.
منال، هي والدة طفل مصاب بحساسية الألبان، تقول لـ”درج”، إن الحليب المخصص لصغيرها نفد وظل يبكي ساعات دون أن تستطيع الحصول على عبوة جديدة، اضطرت بعدها لإطعام الصغير ماء الأرز وماء الشوفان.
لم تفكر تيسير، في تجربة نوع حليب جديد مع صعوبة تأمين “نيوكيت”، بسبب ظروفها المادية السيئة وفاتورة العلاج الطويلة. لكنها جربت أنواعاً أخرى وكانت النتيجة حجز الطفل في المستشفى مصاباً بأعراض تحسسية حادة ونقص في أوكسجين الدم، والتهابات بالحلق، وبراز دموي وإسهال، وجفاف، لذا كان خيارها الأخير لإنقاذ طفلها هو “النيوكيت”.
أصيبت تيسير، بالرعب بعد نفاد عبوة حليب طفلها الأخيرة، وبدأت تستغيث “ابني مات بحساسية الألبان. مش عايزة التاني يموت”.
بعد أيام من استغاثة أمهات الأطفال، ومبادرات مواطنين وجمعيات خيرية، وتحركات برلمانية، مقابل الصمت الرسمي، أعلن الدكتور حسام عبد الغفار المتحدث باسم وزارة الصحة والسكان، في بيان مقتصب على صفحة وزارة الصحة على “فيسبوك”، توفير 13 ألف عبوة حليب مخصصة لهؤلاء الأطفال فى عدد من المراكز الصحية، ولكن أزمة نقصه من الصيدليات ظلت مستمرة، ومثلها عدم كفاية العبوتين التي توفرهما وزارة الصحة لكل طفل شهرياً”.
حاولت أميرة، الحصول على حليب لطفلتها الموجودة في أحد المستشفيات لتدهور حالتها، بعد إعلان الوزارة توفره، ولكن الرد جاءها بأن الحليب مخصص للأطفال المسجلين لدى وزارة الصحة فقط، لذا فعليها أن تصطحب طفلتها وأوراقها الطبية والرسمية لتحاول تسجيلها. زار أفراد عائلة الصغيرة صيدليات في 3 محافظات لشراء الحليب وانتهت جولاتهم بحجز عبوة تحصل عليها في حال توفرها.
ومثل تيسير تعاني منال، من أزمة عدم كفاية الحليب المدعوم الذي تحصل عليه لطفلها، مشيرة إلى أنها اضطرت لبيع أثاث منزلها لتوفير الحليب لصغيرها، وتضطر لشرائه من الصيدليات عن طريق الحجز، أو السوق السوداء، حيث يبلغ سعر العبوة 300 جنيه، إن وجدت.
إقرأوا أيضاً:
شعرت شروق الهيتمي، استشارية الرضاعة الطبيعية، بأن لها دوراً بعد اشتعال أزمة نقص حليب الأطفال مرضى الحساسية، تقول لـ”درج”، إنها شعرت بالحزن الشديد بعدما رأت أطفالاً جوعى بسبب نقص الحليب.
أعلنت شروق، تقديم الدعم المجاني لأمهات أطفال حساسية الحليب بهدف إعادة إرضاع الأطفال بصورة طبيعية، مشيرة إلى أن حالات كثيرة نجحت في تنشيط الرضاعة بعد جفاف الحليب. وتوضح أن بعض الأمهات لا يعلمن ذلك وهو ما قد يكون مفيداً جداً بخاصة مع أزمة نقص حليب الأطفال، وتتضمن مبادرتها تقديم فحص طبي وعلاجات مع زميلات لها للأمهات.
“الفترة الجاية الله أعلم هنلاقي لبن صناعي ولا لا سواء للحساسية أو غيره”… تنصح استشارية الرضاعة الطبيعية، الأمهات في الفترة المقبلة بعدم اللجوء للرضاعة الصناعية دون داع طبي واستشارة طبيب يشجع الرضاعة الطبيعية.
أما شيري جرجس، فبدأت رحلة بحثها عن عبوة من الحليب المخصص للأطفال مرضى حساسية الألبان، لتنقذ طفل صديقتها الذي أصيب بالجفاف بسبب نقص الحليب، ولكنها في بحثها عن عبوة واحدة وفرت عشرات العبوات وأنقذت عشرات الأطفال.
تقول شيري، لـ”درج”، إن أزمة نقص حليب الأطفال مستمرة، فبينما يحتاج الطفل إلى 8 عبوات شهرياً، توفر الوزارة عبوتين فقط لكل طفل، كما بلغ سعر العبوة 290 جنيهاً، وهو ما يفوق إمكانات أسر كثيرة.
“الناس مستعدة تبيع هدومها عشان توفر اللبن لولادها”، هذا ما تؤكده شيري، التي وضعت قاعدة لتوزيع عبوات الحليب التي تحصل عليها من متبرعين لتعيد توزيعها على الأطفال.
وقد حصل طفل تيسير أخيراً على عبوتين بنصف الثمن من خلال إحدى الجمعيات الخيرية.
نقص حليب الأطفال وخصوصاً مرضى حساسية الألبان، هو أزمة متكررة، واجهت الرضع وأسرهم مرات عدة، فضلاً عن الارتفاعات المتكررة في أسعارها، والتي تجعل تيسير، وآلاف الأمهات، في قلق دائم من خطر تعرض أطفالهن لنكسات صحية خطيرة.
إقرأوا أيضاً: