عقب انتخاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في أيار/مايو 2104 أحكمت المؤسسة العسكرية قبضتها على الحياة السياسية وضاعفت دورها الاقتصادي السابق من خلال تعديل قانون العطاءات العامة عام 2018 ما ساعد الشركات التابعة للقوات المسلحة على الفوز بنصيب الأسد في المناقصات الحكومية المباشرة.
هذه التعديلات ساهمت في استحواذ الشركات التي توصف بـ “السيادية” على مشروعات الدولة الكبيرة، مثل بناء العاصمة الإدارية الجديدة، ومشروعات بناء 21 طريقاً سريعا، وتطوير البني التحتية والاستثمار في القطاع العقاري. أججت تلك المشروعات جدلاً حول تنامي شبهات الفساد، وزادت من تحدي القطاع الخاص. الأبرز كان نشوء طبقة جديدة من رجال الأعمال غالبيتهم متقاعدين عسكريين أو لديهم علاقات قوية مع المؤسسات “السيادية” أو بالمحافظين المحليين.
وادي النيل
تستحوذ شركة وادي النيل للمقاولات والاستثمارات العقارية المملوكة بالكامل للمخابرات العامة على 40٪ من عقود بناء وإعادة إعمار المشافي، بالاضافة الى توريد المعدات الطبية لوزارة الصحة بحسب تصريح مساعد رئيس الشركة للمشروعات والمتابعات عبد الستار محمد لصحيفة الدستور المحلية العام 2019.
كما تلعب الهيئة الهندسية وإدارة المشاريع الكبرى في القوات المسلحة بالتنسيق مع هيئات المجتمعات العمرانية الجديدة دورا كبيرا في منح هذه العطاءات عبر التلزيم او المناقصات غير التنافسية.
يوثق هذا التقرير المعمق احتكار القوات المسلحة والمخابرات المصرية العامة لعديد من مشروعات الدولة وأعمال المقاولات العمومية، بأسعار أعلى من الشركات الخاصة، والتربح بطرق قد تكون غير مشروعة عن طريق إضافة رسوم إشراف تعادل نصف قيمة ميزانية الاعمال، واستغلال مقاولي الباطن للتغطية على ضعف جودة الإنشاءات ونقص الخبرة التقنية.
نقطة البداية!
تواترت عقود الآمر المباشر في زمن الرئيس المؤقت عدلي منصور الذي حكم لشهور بعد استيلاء الجيش على السلطة في تموز/يوليو 2013. أصدر تعديلات على المادة السابعة من قانون المزايدات والمناقصات رقم 89 لسنة 1998 صيغت بجمل مطاطية قابلة للتكييف تماشياً مع الحاجة بحسب ما يرى محامون ورجال أعمال. ورفعت الحدود العليا قيمة العقود التي يمكن أن يصدرها الوزراء والهيئات الحكومية مباشرة للمقاولين الذين يختارونهم دون تقديم عطاءات في الحالات العاجلة لتصل في بعض الأحيان إلى أكثر من 50 ضعفا وفق الآتي:
بالنسبة لرؤساء الهيئات والمصالح:
في حالات شراء المنقولات أو تلقي الخدمات أو الدراسات الاستشارية أو الأعمال الفنية أو مقاولات النقل، ارتفع الحد الأقصى إلى 500 ألف جنيه بعد أن كان 50 ألف فقط. وأصبحت مليون جنيه بالنسبة لمقاولات الأعمال بعد أن كانت 100 ألف، وبالتالي تضاعف المبلغ 10 أضعاف.
بالنسبة للوزراء والمحافظين:
في حال شراء المنقولات أو تلقي الخدمات أو الدراسات الاستشارية أو الأعمال الفنية أو مقاولات النقل، ارتفع السقف إلى 5 ملايين جنيه بدلاً من 100 ألف أي 50 ضعفا، وزادت بقيمة 33 ضعفا بالنسبة لمقاولات الأعمال فأصبحت 10 مليون جنيه بعد أن كانت 300 ألف.
الحق الرئيس منصور في 5 حزيران/يونيو 2014 تعديلا آخر على قانون 1998 بإضافة فقرة تسمح التعاقدَ بالأمر المباشر لـ “الهيئة العربية للتصنيع” ما سمح للجهات الحكومية بالتعاقد المباشر مع هيئة ذات طبيعة عسكرية لتنفيذ الأعمال.
أصبح للهيئة الحق في إجراء المناقصات والمزايدات بديلا عن أيا من الجهات المخاطبة بالقانون من وحدات الجهاز الإداري للدولة – وزارات، ومصالح، وأجهزة لها موازنات خاصة – وكذلك وحدات الإدارة المحلية، والهيئات العامة، سواء كانت خدمية أو اقتصادية.
تنامي دور هذه المؤسسات عندما استبدلت الحكومة المصرية قانون 1998 بقانون 182 لسنة 2018 لتنظيم التعاقدات الحكومية، ما سمح للجهات والسلطات المختصة أن تتعاقد فيما بينها بالاتفاق المباشر دون التقيد بالإجراءات والحدود المالية المذكورة (سابقا). كما يجوز ان تنوب عن بعضها في إجراءات التعاقد في مهمة معينة لم يحددها القانون. كما سرت هذه المادة بموجب القانون الذي نشر بالجريدة الرسمية بتاريخ 3 تشرين أول/أكتوبر 2018 على “الهيئة العربية للتصنيع” و”الهيئة القومية للإنتاج الحربي” والمخابرات العامة.
يقول يزيد صايغ احد كبار الباحثين في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط في دراسته بعنوان “أولياء الجمهورية” صدرت العام 2019 أن القانون المعدل لم يلزم أيا من الهيئات العسكرية (وزارة الدفاع، الانتاج الحربي و الهيئات التابعة لهم، الهيئة العربية للتصنيع) بحدود للمعاملات من دون مناقصات.
صايغ وفي مقابلة مع “درج” أوضح :”هذا يعني أن هناك مخاطرة أن هذه القوة قد يساء استخدامها من خلال تفضيل شركات مختارة، وبعضها قد يكون له علاقات مباشرة أو غير مباشرة ببعض الضباط أو بمدنيين مفضلين. لكن هذا لا يثبت ان هناك فساد أو محسوبية لكن ذلك يخلق فرصاً كبيرة لذلك”.
في دراسته ذكر يزيد صايغ الذي يشرف على برنامج العلاقات العسكرية والمدنية في الدول العربية في “كارنيغي”، أن منح هيئات وإدارات القوات المسلحة “عقود أشغال عامة تزداد ضخامة و طموحا يوحي بأن لديها قدرة هائلة على تصميم المشاريع وتنفيذها وصيانتها. لكن مراجعة أكثر دقة تبين أن قدرتها على تنفيذ هذا الحجم من الأشغال العامة محدودة للغاية. فالجيش يقوم بدور مدير المشروع من خلال إسناد المشروعات إلى شركات من الباطن من القطاع الخاص الذي لا يجد أي مفر غير قبول اسعار الجيش و احيانا كثيرة استيعاب الخسائر والعمل مجاناً.”
حاول مشروع تغطية الجريمة المنظمة والفساد العابر للحدود OCCRP وشريك موقع “درج” الحصول على تعليق على هذا التقرير من القوات المسلحة عبر مكتب القاهرة الإعلامي في وزارة الخارجية، وهي الجهة المسؤولة عن تنسيق شؤون الإعلام الأجنبي والمؤسسات الرسمية، لكن دون نتيجة.
جدل التعديلات
التعديلات خلقت حالاً من الجدل في أوساط أعضاء الاتحاد المصري لمقاولي التشييد والبناء وعددهم 35 ألف شركة لأنها فتحت الباب واسعا أمام دخول المؤسسات “السيادية” على خط التعاقدات الحكومية بدون ضوابط.
يقول رئيس الاتحاد المهندس محمد سامي سعد أن الشركات القادرة على تنفيذ المشروعات الكبيرة تمثل 20 % من إجمالي الشركات المسجلة. لكن وفقًا لما أكده المهندس محسن يحى، رئيس الاتحاد الموازى لمقاولى البناء والتشيد، فإن عدد شركات المقاولات الكبرى التى تتولى إنشاء المشروعات القومية والمدن الجديدة والمشروعات الخاصة، يبلغ نحو 40 شركة مقسمة ما بين شركات قطاع أعمال يبلغ عددها 23 شركة، والبقية شركات خاص.
يقول أكاديمي مصري يدرس الاقتصاد السياسي ومقيم في بلجيكا فضل عدم ذكر اسمه، “الجيش بات منافساً غير عادل للقطاع الخاص لأنه يتمتع بامتيازات القوات المسلحة من حيث الإعفاء من الضرائب و الجمارك” بينما تسوى أمور المرافعات القضائية للمتضررين في المحاكم العسكرية حيث يكون الخصم هو الحكم بنفس الوقت. وأضاف أن ذلك يسبب خسارة للقطاع الخاص عن طريق تقليل فرص المنافسة للحصول على عطاءات حكومية ما يؤدي الى تخفيض رواتب العاملين في عديد الشركات أو قيامها بإعلان إفلاسها وتسريح عمالتها مثل ما حصل للبعض.
الدكتور حسام بدراوي، آخر من تولى رئاسة الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم زمن الرئيس المخلوع حسني مبارك يقول في مقابلة مع “درج”: “أنا ضد العقود المباشرة دون معرفة التفاصيل. بدون تقديم عطاءات لن يكون هناك عروض أفضل. هذه الف باء الاقتصاد والحوكمة”.
برر بدراوي أن عقب الفوضى التي شهدتها مصر بعد اهتزازات الربيع العربي 2011 فرّ العديد من وجوه القطاع الخاص البارزين للخارج، وتم إغلاق الكثير من المصانع ما تسبب في فجوة تدخلت فيها الدولة والجيش لسدها.” هذا التدخل والفترة الانتقالية يجب ألا تستمر لسنوات وإلا تعتبر خطأ”.
في المقابل أصر مقاول، عمل على تطوير بنى تحتية في مصر لعقدين مع أكبر شركات المقاولات المصرية الخاصة التي لطالما تألفت مع شركات أجنبية لتنفيذ مشروعات عملاقة، أن التعديلات واكبت إصرار الرئيس السيسي على تنفيذ سياسات إصلاحات اقتصادية سريعة من خلال موائمة القطاع الخاص لإستراتيجية الدولة الاستثمارية الرأسمالية، مع الالتزام باقتصاديات السوق الحرّ الى حد كبير لتحقيق نمو اقتصادي على المستوى العام وتحسين من الكفاءة المالية الحكومية.
وأقرّ المقاول الذي أصر على عدم ذكر اسمه وجود “اقتصاد آخر داخل الاقتصاد المصري بإدارة القوات المسلحة”، ويقول هذا المقاول إن تلك “حقيقة معروفة منذ عقود حيث تدخل العوائد مباشرة إلى خزينة الجيش لدعم نشاطات المؤسسة”.
لكن الجديد هو أن “التلزيم زاد في عهد السيسي بدرجة كبيرة عن عهد سلفه حسني مبارك لأن بصلته محروقة كما يقول المثل الشعبي. قبل أن يأتي لم تكن هناك مشاريع إنشاءات وكباري وطرق وتنمية محلية وبنى تحتية. اليوم تغيرت الأمور كثيرا!”.
وبحسب رأي المقاول فإن للتلزيم حسنات في هكذا حالات استثنائية لأنه يعطي فرصا لمقاولين “وسط وصغير الحجم” لمساعدة الشركات الكبرى على تنفيذ المشاريع.
“التلزيم يفيد لأن امكانية التعاقد من خلال طرح عطاءات ليست دائما ممكنة بسبب الكلف العالية لهذه المشاريع وعدم استطاعة العديد من الشركات الانتظار ستة إلى ثمانية شهور للحصول على مستحقاتها من الحكومة. كما أنه لا يوجد الكثير من المتعهدين القادرين على تنفيذ مشاريع بتلك الحجم والسرعة المطلوبة من السيسي”.
مليارات الجنيهات في يد العسكر: مثال برنامج المشروع القومي لتطوير القرى المصرية
في فبراير 2015 تعاقدت وزارة التنمية المحلية مع الهيئة الهندسية للقوات المسلحة على تنفيذ مشروعات البنية التحتية بـ 78 قرية كمرحلة أولى بتكلفة بلغت 1.75 مليار جنيه (6,416,607.58$) ضمن برنامج المشروع القومي لتنمية وتطوير القرى المصرية الهادف إلى تطوير جميع القرى المصرية وعددها 4741 بتكلفة تقديرية 515 مليار جنيه (32,800,291.66$) مع نهاية عام 2030. المشروع مدرج ضمن رؤية السيسي التنمية 2030.
في 1 أذار/مارس 2021 عقدت وزيرة الصحة هالة زايد اجتماعاً مع المهندس هاني ضاحي رئيس مجلس إدارة شركة وادي النيل وناقشت معه خطة تطوير المستشفيات والوحدات الصحية بـ 51 مركزًا بـ 20 محافظة ضمن المرحلة الأولى للمشروع حيث تضم تلك المراكز 1500 قرية وتوابعهم من (عزب ونجوع).
شركة وادي النيل هي أحد المؤسسات الرئيسية المنفذة لمشروع تطوير قرى الريف المصري. أنشئت الشركة 100 مستشفى وطورت 47 مستشفى و850 وحدة صحية بحسب موقع الشركة. بل شمل عمل الشركة أيضاً توريد الأجهزة الطبية والمستلزمات الخاصة بالمستشفيات بحسب حديث عبد الستار محمد، مساعد رئيس الشركة للمشروعات والمتابعة المنشور بتاريخ 26 أكتوبر 2019 في جريدة الدستور. جهزت الشركة أكثر من 180 مستشفى و1800 وحدة صحية ووردت نحو 3500 سيارة إسعاف، بحسب موقع الشركة.
حسام الحملاوي، صحفي وعضو منظمة “الاشتراكيون الثوريون المصرية” المعارضة يقول:”هؤلاء الوزراء المدنيون الذين تراهم في المقدمة هم مجرد دُمى ، فهم ليسوا صناع القرار، وليس لهم القول الفصل في أي شيء. وهذا تجده ليس فقط في قطاع الصحة ، إنه ينطبق على كل قطاع على حدة. والجهة التي تقود هذا النوع من الهيمنة الاقتصادية، هي الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، انها مثل السمكة الذهبية في الوقت الحالي”. التعاقد المباشر لم يقف عند الإنشاءات والتطوير بحسب التعديلات الجديدة.
التجاوزات القائمة يبررها اقتصاد الضرورة
يقول رجل أعمال مقرب من النظام فضل عدم ذكر اسمه أنه وبعد استيلاء الجيش على السلطة في 3 تموز/يوليو 2013 كان من الواضح أن القطاع خاص لم يكن مستعدا لمواجهة مخاطر كبيرة في مجال الأعمال. “لا يريدون خسارة استثمارات بمليارات الجنيهات. هنا تأتي النقطة التي يمكن أن نطلق عليها “اقتصاد الضرورة” حيث يتعين على الجيش إنعاش بعض القطاعات سيما وأن القطاع العام فاسد”.
وتابع قائلا: “في هذه اللحظة كان على الجيش أن يتدخل. على سبيل المثال، وزارة الصحة بحاجة إلى موردين، هل القطاع الخاص قادر على تلبية احتياجات القطاع الصحي؟ الجواب لا! لأن القطاع الخاص لا يريد العمل مع وزارة الصحة لتجنب الصداع بعد سجن رجل أعمال معروف بسبب قضية أكياس الدم الملوثة الشهيرة”.
ووصف المحامي محمود عطية رئيس “ائتلاف مصر فوق الجميع” كل من انتقد ممارسات الدولة المصرية بأنهم “رجال أعمال لصوص” استولوا على شركات القطاع العام بثمن بخس. لذلك يرددون دائماً أن الجيش ينافسهم. على العكس فالجيش يجلب الأموال إلى ميزانيته من خلال هذه المشاريع ويدعم الميزانية العامة بمليارات الجنيهات، وهو ما لا يعلنه الجيش لانه يندرج تحت بند الأمن القومي. كما ان الجيش ينافس الأسعار المرتفعة الحالية في ظل الظروف المعيشية الصعبة حاليا، لذا فإن الجيش يقدم منتجات لخدمة المواطن البسيط بعيدًا عن جشع التجار.
وتابع عطية المقرب من النظام قائلا:” يمكننا القول أن غالبية الشركات أو التجار غير موثوق بهم ولا يرحمون سواء في الصحة أو التعليم”.
كيف تُرتب المناقصات و العطاءات
تحدث كاتب التقرير إلى المقاول محمد علي، وهو شخصية معروفة نشرت سلسلة فيديوهات تحدث فيها عن فساد المؤسسة العسكرية في مصر. محمد علي مطارد من قبل النظام المصري منذ عامين بتهمة التهرب الضريبي والفساد عن آلية طرح العطاءات العامة من الالف الى الياء بحسب ما عايشها لعقد وأكثر.
قال المقاول محمد علي، الموضوع على لائحة الإنتربول من قبل مصر، في مقابلة مطولة من أحد المدن الأسبانية أن الجيش يقوم “بتزبيط أوراق العطاءات بطريقة احترافية حتى اذا قام الجهاز المركزي للمحاسبات أي الهيئة الخاصة بالرقابة المالية على جميع أجهزة الدولة بالمراجعة لا يجد اي اخطاء او ثغرات”.
وقال ان الاوراق المرتبطة بـ” إجراءات المناقصة العادلة” تتم على الورق فقط أمام المشاركين في جلسة فتح العطاءات. وتكون صحيحة بنسبة 100 %. لكنه أكد أن المقاول الذي سيفور بالعطاء يكون محددا مسبقا وبالتعاون مع هذه الجهات السيادية “لأننا نحن من كان يقوم بطبخ ما وراء ذلك الأوراق”.
وتابع المقاول علي مستندا الى خبرته العملية لمدة 15 عاما في قطاع المقاولات قائلا: “ابدأ بعمل مقايسة واضع السعر الخاص الذي سوف اقدم به العرض الخاص بي. على سبيل المثال سوف اتقدم بعرض بـ 100 مليون جنيه. ابدأ مفاوضات بيني و بينهم حول ذلك السعر. ثم بعد الاتفاق يقولي تعامل مع الشركات كذا وكذا وكذا. و من ثم ارسل مندوب شركتي لشراء كراسات التقديم وبدء الإجراءات الرسمية. تتم الإجراءات بطريقة طبيعية و تبدو حقيقية لكنها في الاصل منظمة معهم وفي النهاية يرسو العقد علي”.
ويرسل المقاول علي مالك “شركة أملاك للمقاولات” مندوبا من شركته لشراء كراسات العطاءات لـ 6 شركات مثلا. وتقوم شركته بدفع ثمن الكراسات بـ 200 ألف جنيه. من ثم يجلس محمد وشركته مع هؤلاء المنافسين في مقر شركته ويقومون بتعبئة كراسات العطاء. بحيث تقدم شركة (A) سعر ب 100 مليون جنيه مصري ، شركة (B) سعر بـ 90 مليون جنيه مصري، و تقدم “شركة أملاك للمقاولات” عرض سعر بـ 85 مليون جنيه مصري. ثم تعطي الكراسات لهذه الشركات لتقوم بختمها ووضع خطاب الضمان الابتدائي في المظروف ثم تقديمها بنفسها. ثم تقدم العطاءات أمام لجنة من 6 او 7 اشخاص . عند فتح المظاريف أمام اللجنة تكون شركة “املاك للمقاولات” الاقل سعرا و يقبل العرض الخاص بها.
وخلص قائلا: ” أنا أقوم بنفس الدور مع هذه الشركات . يعني شيلني واشيلك”.
وزعم ان هذه التعليمات كانت تأتي من كبار المسؤولين “ولا احد يستطيع ان يقول لا”.
يصر علي أن صلاته القوية بالمؤسسات السيادية ساعدته على الفوز بنصيب الأسد من العطاءات التي طرحت قبل أن يقرر الهرب من مصر عندما ساءت علاقته بالمؤسسات العسكرية نتيجة تأخر دفع مستحقاته.
“بسبب علاقاتي هذه انا كنت بوزع الشغل على المقاولين ولم يكن أحد يجرؤ يقولى لا. انا كان عندي المقدرة اطلّع اي مقاول خارج تعاقدات الجيش”.
وقال ان الوحيدين الذي لم يقدر على إخراجهم كانوا أصحاب شركتي مقاولات أخذت عطاءات بالمليارات خلال العقدين الماضيين.
المقاول علي تحول إلى معارض، وقبل عامين دعا المصريين للتظاهر يوم 20 سبتمبر/أيلول بمناسبة السنوية الاولى لمظاهرة مماثلة قائلا إن ذلك سيسقط حكم السيسي.
الإعلام المصري والمسؤولين يتهمون المقاول علي أنه شاهد زور حصل على دعم دولة معادية كي يضر العلاقة بين الجيش و الشعب. بينما عنونت إحدى الصحف المصرية بعد هروبه المفاجىء العام 2019 :“طيب الواد المقاول اللي عمال يتكلم عن الغلابة، الذين لا يجدون فرخة، مين هيصدقه وهو عايش بسيجارة وكأس”.
طلبت السلطات القضائية الاسبانية المقاول علي للمثول أمامها صيف 2020 للإستماع الى اقواله حول طلب الحكومة المصرية تسليمه إليها على أساس تهم تتعلق بالتهرب الضريبي وتبييض الأموال. حيث اتهم المدعي العام المصري المقاول الهارب باختلاس 6.9 مليون يورو في ثلاث قضايا احتيال يتعلق بمبيعات أراضي والرابعة بتبييض الاموال.
تشكيلة أعضاء لجنة العطاءات السيادية
بحسب علي تتألف لجنة العطاءات من عضو عن المخابرات الحربية وثاني يمثل شؤون مالية الجيش وثالث عن الهيئة الهندسية و(عضو من الوزارة أو الهيئة اذا كان الشغل برة الجيش).
يراجع مندوب الشؤون المالية الأمور المالية والأرقام. ويطلع مندوب الهيئة الهندسية على العرض الفني ومواصفات الشركة فنيا ومن ثم يقوم بالتوقيع بالموافقة. بحسبه، فإن دور مندوب المخابرات الحربية ينحصر في مراقبة عملية العطاء “أي مدى جديتها، بمعنى فحص كارنيه ممثل الشؤون المالية للجيش” والتأكد من شخصيته وشخصية مندوب الهيئة الهندسية. من ثم يقوم مندوب المخابرات بانهاء الجلسة.
وتابع قائلا: “الجلسة تكون بمواعيد دقيقة. يتم تحديد يوم معين كموعد فتح المظروف الفني ثم بعدها بـ أسبوع او 10 ايام يتم فتح العرض المالي. الأول يكون الملف الفني حتى يحكموا إذا كانت شركة لديها القدرة الفنية لتنفيذ المشروع. ثم يتم رفض شركة أو اُثنتين لإظهار مدى الجدية في العمل ، ثم تبدأ مرحلة الشغل المالي بموعد حسب قرار اللجنة.
معدل العطاءات بعد وصول السيسي
بعد وصول السيسي إلى الحكم ازدادت إعلانات المشروعات التي تنفذها الدولة متمثلة في الهيئات العسكرية المختلفة بحسب المقاول علي.
“ليس هناك اي وجه للمقارنة فمثلا إذا كنا نقود بسرعة 30 كم/الساعة فإن السيسي جعلنا نقود بسرعة 940 كم./الساعة هذا واضح من الأرقام اللي السيسي بيذكرها بالمليارات. لم يذكر مبارك ابدا هذه الأرقام”.
لكن السرعة في طلب إنجاز المشروعات بحسب ما يطالب السيسي قد تخلف عواقب وخيمة على المنتج النهائي بحسب ما قال.
“السيسي وضع حمل كبير على الهيئة الهندسية وهم ليس لديهم الإمكانيات الفنية حيث اوكل اليهم شغل بمليارات الجنيهات ومع قلة كفائتهم سهل لشركات المقاولات اللعب معهم” وذلك من خلال مبالغ إضافية تحصلها هذه الشركات على شكل غرامات تأخير عن دفع مستحقاتها من قبل الجهات السيادية.
بعض المقاولين يشتكون من أنهم لا يستلمون المبالغ المالية الخاصة بهم كاملة. وفي حالات كثيرة يواجهون بالتسويف أو الرفض. ويقولوا أنهم لا يستطيعون الذهاب الى المحاكم في المشاريع التي ينفذها او يشرف على تنفيذها الجيش و هيئاته المختلفة تعتبر مرافق عسكرية وليست مدنية.
بحسب دراسة يزيد صايغ، الباحث رئيسي، مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط فإن “جميع الكيانات و المرافق والأصول العسكرية تخضع حصرا لسلطة المحاكم العسكرية.و بالتالي فان حقوق الشركاء من رجال الأعمال المدنيين المنخرطين في المشروعات المشتركة أو حتى كمقاولين من الباطن تقع في مساحة قانونية رمادية” .
يقول محمود عطية المحامي المقرب من النظام أنه عند تولي الجيش للمشروعات يكون هناك الكثير من المزايا ، فعندما يبدأ الجيش في مشروع ما، يتم تنفيذه من الألف إلى الياء في وقت سريع. فالجيش يتميز بالانضباط في العمل واتباع الأوامر دائمًا. من ناحية أخرى ، فإن “شركات القطاع الخاص مثل فريق كرة القدم، يرغب 11 لاعباً في اللعب ضد فريق من 3 لاعبين. شركات القطاع الخاص لا تريد المنافسة من أحد وهذا ليس في مصلحة الشعب المصري”.
لكن هل فعلا الجيش قادر على تنفيذ هذه المشروعات كما يعلن دائما؟
الجواب لا بحسب المقاول علي وبعض أقرانه: “الجيش هو من يتسلم المشروعات بعد تنفيذها ومن ثم تستلم الجهات المعينة منه ولا يجرؤ أحد على انتقاد شغل الجيش. على العكس يتم شكر الجيش و طلب العمل معه في أي مشروعات. أي شخص يحاول محاسبة الهيئة الهندسية مصيره الحبس والنفخ”.
يساهم قطاع المقاولات بنسبة 17% من الناتج المحلى الإجمالى فى مصر بحسب تصريح رئيس الاتحاد المصرى لمقاولى التشييد والبناء. ويتهم رجال أعمال ونشطاء ومقاولين المؤسسة العسكرية بالسيطرة على الاقتصاد. ويقدر يزيد صايغ أن أرباح الكيانات المرتبطة بالجيش عام 2019 وصلت ما بين 6- 7 مليار دولار.
لكن السيسي يؤكد أن نسبة مشاركة المؤسسة العسكرية فى الاقتصاد القومى تصل ما بين 1.5 الى 2%. وقال في تصريحات له أنه ينبغي السماح للجيش بطرح أسهم شركاته في البورصة مثل حوالى 23 شركة تابعة للدولة من المقرر خصخصتها ضمن برنامج طموح لجمع ما يقارب 80 مليار جنيه. يقول مسؤولون بالحكومة أن البرنامج تأجل مرارا لأسباب منها ضعف الأسواق وعوائق قانونية.
حسب مؤشر الشفافية الدولية تراجعت مصر للمركز 117 بين 180 دولة لعام 2020، بعد أن كانت في المركز 106 عام 2019 محققة 33/ 100 نقطة فيما أصبح ترتيبها الـ11 على الدول العربية لعام 2020.
يعتقد أكاديمي مصري محاضر في إحدى جامعات بلجيكا ان تدخل الجيش بالاقتصاد خلق نسخة جديدة من رأسمالية الدولة مدفوعة بالاشتراكية العربية في ستينيات القرن الماضي وسياسة الخصخصة التي أعيد بلورتها في تسعينيات القرن الماضي زمن الرئيس المخلوع حسني مبارك.
ويتابع: قائلا “منذ إنقلاب 2013 ، حصل تحول للثروة بشكل أكبر نحو الجيش. قبل ذلك، كان الأمر لا يزال غير عادل ، لكنه كان لا يزال يصب في مصلحة القطاع الخاص كما كان يمكن للسوق أن يرى الأموال تتداول. ولكن الآن يتم تداول الأموال في الخفاء، ولا تستطيع رؤيتها. لا يمكنك إحصاء ما يحدث أو نسبة الضرائب التي لا يتم إخراجها من هذه المشروعات. إذاً، الضحية الآن مضاعفة. الناس هم الذين يزدادون فقرا. وحتى القطاع الخاص المدعوم من صندوق النقد الدولي والنظام الاقتصادي الدولي يواجهون أوقاتًا صعبة لأن الجيش ليس منافسًا عادلاً”.
البنك الدولي وصندوق النقد الدولي جزء من الجدل؟
يدعم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي غالبية سياسات السيسي الإصلاحية وتستمر في منح القاهرة القروض بحسب دبلوماسيين. لكن يبدو أن هذه المؤسسات تتغافل أحيانا عن بعض أوجه سياسات المنافسة غير العادلة بين الجيش وشركات القطاع الخاص، بحسب اقتصاديين مستقلين. لم يرد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على الرسائل الإلكترونية التي أرسلها كاتب التقرير للحصول على تعليق منهم لغايات إعداد هذا الموضوع.
ويبرر الصحفي المعارض حسام الحملاوي إن دعم المؤسسات الدولية المستمر ناتج عن عدم وجود بديل لديها يؤمن الاستقرار السياسي ومحاربة الإرهاب وحماية أمريكا وإسرائيل في منطقة ذات أهمية جيوسياسية.
لكن هذا قد يتغير في حال نشأت نخبة اقتصادية وعسكرية قادرة على تنفيذ إصلاحات أكثر عمقا تحاكي سياسات المؤسسات الدولية المعنية بالحفاظ على أمن واستقرار مصر.
نشر هذا التقرير في العمق بالتعاون مع موقع “درج” ميديا وبدعم (www.journalismfund.eu ومشروعها على درب المال www.money-trail.org )
إقرأوا أيضاً: