تعرفت إلى بطل فيلمي الأول “المعبر” في دمشق، عندما كنت أبحث عن شخصية من الجولان المحتلّ، منفصل عن أهله وسيأتي رجل من عائلته لزيارة المشايخ التي يرعاها الصليب الأحمر الدولي.
لا أذكر كيف تعرفت إلى مضاء المغربي، كان شاباً قادماً من الجولان للدراسة في كلية طب الأسنان، وكان والده جمال المغربي سيأتي مع المشايخ لزيارة سوريا تحت لواء زيارة دينية، يسمح فيها بالقدوم فقط للرجال. صوّرت حينها مشهداً مؤثراً للقاء الأب بابنه بعد سنوات غياب، وكم تكرر المشهد في سوريا اليوم، أضعاف ما غابه مضاء عن والديه؟!
أثناء تصوير الفيلم، كان لا بد لنا من الالتفاف على الرقابة، وتجنّب تصوير قدوم المشايخ إلى قبر حافظ الأسد، في زيارة دينية لا تتجاوز مدتها اليومين.
كانت هناك مقاصد كثيرة لم نستطع قولها من دمشق. اليوم، بعد الحرية، قررت أن أتواصل مع مضاء، كي أسأله من كان يقصد عندما قال لي: “كل اللي بيقولوا إنه نحنا أقوياء بالجولان كذابين، نحنا مش أقوياء نحنا ضعاف”.
فوجئ مضاء بسؤالي، فقد انقضى أكثر من عشرين عاماً على التصوير، وفوجئ أكثر لأنه أخبرني أنه يفكر بهذه الجملة منذ سقط الأسد. قال لي: “أعتقد أن أفضل إجابة عن هذا السؤال فعلاً هي وضعنا اليوم في الجولان المحتل، نحن فعلياً مجموعة من البشر، لا نتجاوز بضعة آلاف، لا نشعر بأن أحداً مسؤول عنا، النظام أهملنا منذ وقعنا تحت الاحتلال لعشرة أعوام، ثم حصر علاقته بنا بمخابراته، بينما أصر التلفزيون السوري على إلصاق صفة البطولة بنا، ونحن فعلياً أناس عاديون، بل للدقة ضحايا حرب، وُضعنا في ظرف تاريخي وسمع العالم بنا، لكننا نبقى في النهاية نتيجة لمخرجات حرب 1967. لكن هؤلاء الضحايا في المقابل رفضوا اعتداء الاحتلال، وحمل أي صفة أخرى سوى سوريين، كما رفضوا الخدمة في جيش المعتدي.
يفكر مضاء قليلاً ثم يضيف: “أحاطني وصولي إلى دمشق بجوّ يشي بأننا الأبطال والصامدون، وكان هذا يشعرني بالغبن، لأنه يوحي بأننا وحدنا. كنت شاباً في مطلع العشرينات ويُنظر إلي على أنني القادم من أرض البطولة والمقاومة، فيما الحقيقة أن أهلنا هم الذين قاوموا. نحن جيل تربى على قيم أهله، وقد عانينا من الموضوع الذي تحدثنا عنه مطولاً في الفيلم: الفرق بين المدرسة والشارع. في المدرسة منهج إسرائيلي يحاول تطبيع الوضع، وشارع سوري فيه نشاط مؤسساتي وأندية خارج سيطرة الاحتلال. علمتني طفولتي أن المجتمع يسمح لي برفع صوتي بكلمة (لا) لأنني محميّ الظهر، لأن وعيي تشكل فيما يتظاهر الناس ويقولون نحن سوريون”.
بعد انتهاء تصوير الفيلم وتخرّجه في الجامعة، اتّخذ مضاء قرار العودة إلى الجولان، وهو قرار منعه من زيارة دمشق لاحقاً، تودعنا، وكان الوداع مؤلماً للغاية لأنه وداع لا لقاء بعده، أو هكذا كنا نظن في حينه. كان اتصال مضاء بي وأنا في دمشق يخيفني، إذ كنت أخشى أن يعرّضني اتصال من رقم إسرائيلي لمساءلة أمام مخابرات الأسد، التي لم تكن لتفهم أن المتصل صديق سوري يرزح تحت الاحتلال، لكن وسائل التواصل الاجتماعي أنقذتنا من عبء التواصل الهاتفي.
اندلعت الثورة السورية، وتحوّلت هواية العزف والغناء لدى مضاء إلى وسيلته للمشاركة في الثورة، فأسس فرقة “نص تفاحة” التي أنتجت أغنيات ارتبطت بتلك الثورة وبذاكرة السوريين عنها، من دون أن يعرفوا أنها آتية من أرضهم المحتلة.
مع انطلاقة الثورة، أطلق أبناء الجولان المحتل بياناً لمساندة ثورة شعبهم، إلا أن الاستقطاب والانقسام المجتمعي بين موال ومعارض، انسحب على الأرض المحتلّة، يتذكر مضاء قائلاً: “في العام 2011، في المجتمع نفسه الذي زُرعت فيه قيم الحق ورفض الظلم، عندما قلنا لا للظلم، فوجئنا بالمجتمع يحاول إسكاتنا”.
بعد سنوات الثورة الأولى، وخروجي من سوريا ووصولي إلى منفاي الباريسي، أتى مضاء إلى باريس لإحياء حفلة موسيقية تقدّم فيها فرقة “نص تفاحة” أغانيها.
لا يمكنني اختصار اللقاء في سطور، إذ ترافقت مشاعر الدهشة بإمكان اللقاء مع الحزن على مكان لقائنا وشرطه، مع حفلة غنينا فيها وهتفنا وكأننا في وسط دمشق. تودعنا هذه المرة بروح مختلفة، فاللقاء ممكن، وسيعاد. يخبرني مضاء أن الشتات السوري على قسوته خفف من عزلته وجمعه بأصدقاء ظن أنه لن يستطيع اللقاء بهم بعد اليوم. وكانت من فضائل الثورة برأيه، أن الجولان انفتح على بقية السوريين في الخارج، وصار أبناؤه يلتقون بالسوريين في كل مكان بالعالم.
بعد أربعة عشر عاماً على اندلاع الثورة، سقط نظام الأسد، وبعد الاحتفال والتهنئة والبكاء، بدأ الحديث جدياً عن موقع الجولان من الواقع السياسي السوري الجديد. ففي لحظة، دمّر الجيش الإسرائيلي آخر مقدرات الجيش السوري وتقدّم في الجولان المحتل، في ظل وصول ترامب ثانية إلى الحكم في أميركا، بعدما وعد في ولايته الأولى بضمّ الجولان الى إسرائيل، وبالتزامن مع خطاب متكرر من الإدارة السورية بأن سوريا لن تشكل تهديداً على أحد من جيرانها.
أسأل مضاء عن أمنياته ورغباته، فيجيبني: أن يستطيع أبناء الجولان المحتل زيارة وطنهم الأم متى شاؤوا، أن يُمنحوا رقماً وطنياً ويُعترف بهم كمواطنين واقعين تحت الاحتلال (وهو واقع حالهم بحسب القانون الدولي). والأهم “الاهتمام بنا قليلاً من الناحية الفكرية، كنت قد قلت يوماً وأكرر: كما أشتاق لدمشق ولبانياس ولسوريا، أحب أن يشتاق أهل سوريا للجولان وأن يحكوا عنه”.
ويصارحني بخوفه من أن يكون انتصار الثورة وعودة السوريين إلى وطنهم سبباً في إعادة الجولان إلى عزلته وإلى حرمان أبنائه من فرص اللقاء التي أتاحها انتشار السوريين في كل بقاع الأرض. كما يشير إلى قلقه من أن أهالي الجولان لم يُذكر أبداً منذ التحرير على لسان أي من رجالات السلطة الجديدة.
سألت مضاء عن حلمه، فقال: أحلم بحفل في دمشق، حفل أغني فيه في ساحة الأمويين أغاني “نص تفاحة” مع غيري من فرق الموسيقى الشبابية في سوريا، في حفل مشترك نحتفل فيه بانتصار إرادة الشعب. يراودني هذا الحلم وأراه كأنه حقيقة.
ننهي حوارنا بأمل وتخيُّل أن نلتقي في دمشق مرة أخرى. أتخيل أن أعيد الى مضاء كاسيتات موسيقية، لم يطاوعه قلبه قبل المغادرة أن يرميها، فأعطاني إياها، وتركتها خلفي عندما غادرت بحقيبة سفر. هل نلتقي ونسمع الكاسيتات معاً؟ وهل يصبح سؤالنا فقط هو كيف نجد مسجلة تشغل الشرائط القديمة في زمننا الحالي؟